الرئيسية / المكتبة الصحفية / يوسف شريف رزق الله الناقد الطاهر الذي لم يتلوث قلمه بالاستبداد

يوسف شريف رزق الله الناقد الطاهر الذي لم يتلوث قلمه بالاستبداد

منذ عشر سنوات كنا في لقاء ضم أربعة من كبار النقاد وأساتذة الأدب العربي ففاجأني أحد أساتذة القانون بأن سألني: من هو أعظم ناقد معاصر؟ فاشرأبت عيون الحاضرين لرؤية الخلاص كيف يكون، فأجبته بدون تردد إنه يوسف شريف رزق الله، فاعترض بأنه ناقد سينمائي فحسب! فقلت: وهل هناك ما يمنع أستاذ العيون أن يكون عميدا لكلية الطب؟

بعد عدة شهور من هذه الواقعة التقيت بالأستاذ يوسف شريف رزق الله لقاء عابرا فإذا به بدماثة خلقه يشير إلى تلك الواقعة، و يزيد عليها كثيرا من المجاملة التي لا أستحقها فيقول لي إن هذا ليس أعظم تكريم حظي به، وانما التكريم الحقيقي أن أحد أساتذة النقد الفني الكبار، وكان محبا لكلينا، قال له: إن في أعماله لو سجلت في مراجع كثيرا من مميزاتي في مؤلفاتي!، فأجبته وأنا ممتن وصادق في امتناني: إن العكس هو الصحيح، فتطلع بعينيه متعجبا من أن أقول ذلك بينما أنا على حد وصفه أخوض في محيطات واسعة وبينما هو مقتصر تماما على تخصص واحد، فقلت له، يا أستاذنا إن صفاء الغدير أو النهر الصغير إعجاز، بينما صفاء المحيط ليس إعجازا بل هو أمر أقل من العادي، فكل ما تعتبره من الصفات المشتركة بيننا من الدأب والدقة والضبط والتحقيق والمقارنة والعدالة والإنصاف والتأريخ والترجيح تدل على موهبتك وأصالتك وجديتك واستقامتك ونزاهتك بأكثر مما تدل على ما يناظر هذه الصفات في شخصيتي المدعية المبالغة، لمعت عيناه من وجاهة الفكرة، وقال مثل ما يقال في هذه اللحظات، و كان كريما فيما قال، ثم مال على رأسي فقبلها.


ثم سألني الأستاذ يوسف شريف رزق الله يومها: هل سنلتقي ثانية؟ فرفعت ناظري إلى السماء، وكأني كنت أحس من دون أن أدري ساعتها أني سأكتب رثاء هذا العلم الفذ الذي علمنا جميعا وهذبنا جميعا وارتقى بذائقتنا الفنية، ونظم لنا ذاكرتنا السينمائية وأظهر لنا حقيقة أن المسرح يخدم السينما لا العكس، وأن الحوار يخلق الفيلم لا العكس، كما أظهر لنا ما كان يخفى علينا من عوامل استحقاق التقدير والتكريم ومن عوامل الفشل في جذب المشاهد وكأنه يقدم علما ليس فيه من التعويل على عامل الحظ إلا أدنى قدر من النسب المئوية.

والحق أننا تعلمنا من الأستاذ يوسف شريف رزق الله أن السينما علم، وعلم حقيقي قبل أن تكون فنا وفنا جذابا، وقد بث خطابه الهادئ الهادي في وجداننا هذه الفكرة من دون اللجوء إلى الخطابة أو التنصيص فأصبح اقتناعنا بها جزءا من حصيلتنا المعرفية ومن مذهبنا المعرفي على حد سواء. ومن نبع هذا الأستاذ الذي هو يوسف شريف رزق الله تعلمنا فن الحوار الهادف حين كنا نراه في حواراته يقظا وموقظا، فلا هو مستعرض ولا هو مستفز، وإنما هو مستعلم بينما هو عالم، ومتساءل بينما هو متثبت.

كان الأستاذ يوسف شريف رزق الله طيلة حياته رمزا لكل جماليات السينما وكان رمزا لكل آفاق ما هو مشترك بين كل مثقفي العالم المتمدن. كان في كل وظائفه الكبرى الرسمية والتطوعية عونا للجميع لا يبخل بعلم ولا مساعدة كما كان صديقا للجميع لا يبخل بابتسامة في موعدها ولا بطبطبة كان يحتاجها المكلومون في زمن قست فيه المادة وكادت تفسد الروح والشعور.

لا أستطيع أن أتجاهل حقيقة لا يدركها أهل الفن، ولكن المسؤولين عن التعليم الجامعي والأكاديمي يدركونها بوضوح، وهي أن الأستاذ يوسف شريف رزق الله كان بشخصه وبإعداداته، وبإنجازاته أحد أهم العوامل في جذب الشباب العربي إلى حب فنون الشاشة والتعبير والحاسبات، والتصميم الجرافيكي، وتكنولوجيات الإنتاج الجديد؛ وقد ذكرت كثيرا لأساتذة العلوم والهندسة أن كليات الحاسبات لابد وأن تخصص ربع طاقاتها ٢٥٪؜ لبرامج التصميم. وألا يتخرج الطالب من كلية الحاسبات إلا وقد أخرج عملا سينمائيا فنيا في العلم او الاقتصاد او الفن. وكان يسألونني هل يجدون بين أهل السينما من يقود فكرة تكوين مقررات ومناهج عربية في هذا الميدان فكنت أجيب بأنه الأستاذ يوسف شريف رزق الله. ولست أشك في أننا مع طبيعة العصر الذي نعيشه سوف نتجه هذه الوجهة عن قريب مستعينين بما تركه الأستاذ يوسف شريف رزق الله من تراث ومن تلاميذ، وبما حفره في وجداننا وذائقتنا وذاكرتنا على حد سواء.

 

 

 

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com