بمثل هذا السؤال يبدأ الحديث عن دور فتح الله بركات بعد وفاة سعد زغلول باشا، والإجابة البسيطة تقول بالطبع إنه كان من الممكن، ولكن بنسبة أقل بكثير من نسبة حظوظ النحاس باشا الذي كان الرجل الثاني في الوفد لأنه كان السكرتير العام للوفد، كما كان الرجل الثاني في المناصب التي يتولاها الوفديون، فقد كان النحاس باشا هو وكيل مجلس النواب الذي يرأسه سعد زغلول باشا نفسه، لكن الأهم من هذين السببين البروتوكولين والمنطقيين أن النحاس باشا نفسه كان يُمثل الشباب في عصر هو عصر الشياب، ولم يكن جيل الزعماء الشبان في ذلك الوقت يرون أنفسهم بحاجة إلى الوقوف خلف من يسبقونهم في السن من طراز فتح الله بركات أو حتى عبد العزيز فهمي باشا لو قدّر له أن يبقى في الوفد.
كانت الثورة المصرية (الحقيقية) أي ثورة ١٩١٩ قد صقلت هؤلاء الشبان جميعاً وأقنعتهم بضرورة أن يتولوا زمام الأمر بأنفسهم حتى لا يضيع الوطن منهم على نحو ما ضاع من أبنائهم وأحفادهم من دون أن ينتبهوا في 2011، لهذا السبب، فإني في هذا المقام أحب أن استطرد لأضرب مثلا دالا على هذه العقلية وأثرها، وسأتخذ هذا المثل من سلوك النحاس باشا الذي تولى رئاسة الوزارة بعد شهور من وفاة سعد (في مارس 1928 بعد وفاة سعد التي حدثت في أغسطس 1927)، فقد كان النحاس من الذكاء ووضوح الرؤية، بحيث عمد إلى اختيارات ذكية في المناصب الكبرى، بما في ذلك المناصب التي تسمى بالمناصب الروحية أو المعنوية، ويكفي أن أُشير إلى أنه رشح الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخاُ للأزهر، وهو لا يزال في السابعة والأربعين، وكذلك كان من رشحه لمنصب الإفتاء وهو الشيخ عبد المجيد سليم في السادسة والأربعين من عمره، بل إن المرشح الآخر للمشيخة وهو الشيخ الظواهري كان أيضا دون الخمسين.
وقد انتهج النحاس باشا هذا المنهج على الرغم من وجود علماء أفاضل لا ترقى إلى الشك في مكانتهم أية ذرة، وذلك من قبيل الشيخ محمد شاكر والشيخ عبد المجيد اللبان (فضلاً عن وطنيتهم ووفديتهم وخبراتهم)، لكن النحاس باشا كان يعرف أنه يؤسس لعهد جديد، وكذلك كان جيله يدرك هذه الحقيقة، وكان فتح الله بركات باشا من الذكاء بحيث أدرك هذه الحقيقة وتعامل معها بأقصى قدر من الإيجابية، ولهذا فإنه سرعان ما أفسح المجال إلى جواره لابنه بهي الدين باشا الذي كان من أبرز رموز هذا الجيل الجديد مع الشبان اللامعين في حقبة النحاس من التالين للنحاس مباشرة في السن، سواء كانوا في الوفد أو في معارضة الوفد أو لم يتبلور موقفهم بعد (علي ماهر، وعثمان محرم، وأحمد ماهر، وعلي الشمسي، واحمد خشبة، والنقراشي، ومكرم عبيد، ومحمد حسين هيكل، وبهي الدين بركات.. الخ).
هكذا كان بقاء فتح الله بركات في الصف الأول من زعامة الوفد بمثابة أيقونة للوفاء منه، كما كان أيقونة للوفاء له.. ومهما حدث بعد ذلك من خروجه على الوفد في 1932 حين تعرض الوفد لأقسى تجارب التعسّف والتعنت والظلم والجور على يد إسماعيل صدقي، فقد بقي فتح الله بركات وفديا، بل يُمكن لنا أن نقول إنه مات وفدياً.
نجاحاته الوزارية والبرلمانية
لا ينتهي حديثنا عن فتح الله بركات من دون أن نُشير إلى مجد كبير لهذا الرجل كتنفيذي بارز، فقد كان أول وزراء الزراعة الفلاحين إن صح هذا التعبير، أي انه كان يُمارس إدارة وزراء الزراعة من حيث هو مزارع من كبار المزارعين وفلاح من كبار الفلاحين ومالك للأراضي الزراعية من كبار مُلاك الأراضي، وقد أعقبه في هذا التوجه عدد من الوزراء الناجحين من طراز احمد عبد الغفار باشا وألفونس جريس، بل وممن تحولوا بعد هذا إلى التفرغ للسياسة ووزارة الداخلية والمالية كفؤاد سراج الدين باشا، وقد كان من الطبيعي أن تكون هناك درجة من الخشونة في إدارة فتح الله بركات لوزارة الزراعة، لكنها على كلّ حال كانت خشونة محدودة ومُتحكّمٌا فيها.
اشتهر فتح الله بركات باشا بما يوصف بأنه السياسة الإنشائية، فقد كان حريصا على تطوير الإنتاج الزرعي والصناعات الزراعية وعلى الإفادة من الجمعيات التعاونية، ونشرها، وعلى قانون التعاون، كما كان له نشاط بارز في المؤتمر الدولي للقطن الذي عقد في مصر، وقد منحه ذلك المؤتمر شهادة تقدير، كذلك يعود إليه قبل غيره الفضل في تمصير وزارة الزراعة وتعريب لغتها ومستنداتها ومراسلاتها وبدء سياسات الإرشاد الزراعي، وفي سنة 1930 كان فتح الله بركات باشا رئيسا للجنة الزراعية في مجلس الشيوخ، وأخذ يعمل لإعادة الائتلاف الذي عمل له في سن 1926 فنجح في هذا وألفت بعضويته لجنة اتصال بين الوفد وحزب الأحرار الدستوريين، كما اختير رئيسا للجنة برلمانية لتفقد أراضي الدومين وطافت جميع أنحاء القطر المصري.
فتح الله بركات وتراث خاله
كان فتح الله بركات باشا هو الذي تقدم لمجلس الوزراء باقتراح تخليد ذكري سعد بإقامة تمثالين له في القاهرة والإسكندرية، وإنشاء ضريح له، وجعل بيته في القاهرة وإبيانه متحفا وطنيا فوافق زملاؤه، كان سعد باشا قد أوقف جميع أملاكه التي تركها، وأسند لفتح الله بركات باشا نظارة أملاكه في مسجد وصيف وإبيانه، كما جعل نظارة هذه الأوقاف لصاحبة العصمة أم المصريين علي بيت الأمة في القاهرة ومن بعدها لبركات أيضا، ومن بعده لنجله بهي الدين بركات بك.
واحد من الزعماء السبعة ونصف
كان واحدا من أعضاء الوفد الكبار الذين انشقوا على النحاس باشا في 1932 وأسسوا ما سمي بحزب الوفد السعدي الذي لم يعش طويلا وكان معه في هذا الانشقاق كل من حمد الباسل باشا والغرابلي باشا وفخري عبد النور وعلى الشمسي باشا.
كان الوحيد بين أنداده الذي شهد في حياته صعود نجم ابنه
رزق فتح الله بركات ميزة تفضلية لم يُرزق بهما أحد من أقرانه من الزعماء الوطنيين والوفديين، فقد رزق ابنا ناضجاً مؤهلاً ليكون في الصف الأول من قادة الوفد الجدد وهو الدكتور محمد بهي الدين الدين بركات (1888 ـ 1972)، الذي كان عضوا في هيئة الوصاية على العرش 1952-1953 والذي كان له من الدور الفاعل والمبكر في الوزارة وفي رئاسة مجلس النواب، ما جعل بعض الباحثين يظنونه شقيقاً لفتح الله بركات وليس ابنا له، ذلك أنه وصل إلى المكانة المتقدمة بين رجال الوفد ورجال الدولة في حياة والده.
مرضه ووفاته
في أخريات حياته، مرض محمد فتح الله بركات بعينيه فانتقل إلي مزارعه في ملوي بالمنيا فأقام فيها بعض الوقت، ثم أصيب فتح الله بركات باشا بمرض البروتساتا في أواخر سنة 1932 وأجريت له فيها عمليتان جراحيتان نجحتا، لكنه أصيب بالإنفلونزا ثم بالدوسنتاريا وأجري له نقل له الدم مرتين، توفي فتح الله بركات باشا في 3 فبراير سنة 1933 وقد احتفل بتشييع الجنازة رسميا وشعبيا، وألقي حمد الباسل باشا كلمة أمام قبره، كما ألقي الشاعر محمود رمزي نظيم قصيدة.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هناhttps://blogs.aljazeera.net//blogs/2019/10/22/هل-كان-ممكنا-لفتح-الله-بركات-أن-يكون-خليفة-لسعد-زغلول-في-زعامة-الأمة
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا