كان من سوء حظ المجتمعات العربية أن وصل التأثر الممسوخ بتجربة الرأسمالية المتوحشة إلى درجة أن المعجبين بها (أو الذين لم يروا غيرها من التجارب) بدأوا يظنون أن القضاء على مجانية التعليم كفيل بأن يحقق ارتفاعاً في مستواه، لأن الذي يدفع من أجل الحصول على شيء يكون معتزاً بهذا الشيء ومؤمناً به، وعاملاً من أجله.
ومن الإنصاف أن نبدأ بالتنبيه إلى أن الحقيقة التي غابت عن مجتمعنا في هذه ألإشكالية أن هذه الرؤية أو النظرية لا تعدو أن تكون بمثابة بارقة (وليس أكثر من بارقة) سقيمة الفكر والمنطق، كما أنها سقيمة الروح والوجدان على حد سواء، ولست أحب أن أفندها بطريقة علمية ولا بطريقة منطقية، لأن البشر جميعا يعرفون بالفطرة السليمة أكثر من طريقة تستطيع أن تنقض هذه النظرية في سهولة ويسر، وهي طرق أبسط بكثير من العلم والمنطق، ويكفينا منها طريقة النظر المجرد كما نقول في الطب، أو العين المجردة غير المستعينة بنظارة أو ميكروسكوب (عادي أو إلكتروني) أو تلسكوب (فلكي أو غير فلكي).
بوسع أي إنسان أن ينظر إلى العلماء الذين يعرفهم في تخصصه أو مهنته، وأن يستنتج بمنتهى السهولة والسرعة أن محبي العلم ليسوا هم الذين دفعوا المال من أجل تعليمهم، بل قد يكون هؤلاء الذين دفعوا المال من أجل التوظف (وغطوا هذا برفع لافتة العلم) أكثر أعداء العلم، لأنهم طلبوه من أجل التوظف، وكرهوه خارج التوظف وبعد انتهاء التوظف.
عشق العلم لا يخضع لقاعدة
من المدهش بعد ذلك أن تعلم أن موازنات الدول التي تقدم تعليماً مجانياً جيداً لا تتكلف بما تتكفل به الدول الفاشلة التي تتخلى رويدا رويدا عن التعليم المجاني، ومع ذلك فإن الحكومات الفاشلة هي التي تمن على شعبها بأنها هي التي تمول التربية والتعليم
العلم في حقيقة الأمر معشوق ليس لعشقه قانون ولا قاعدة، يعشقه الغني فينصرف إليه بعيداً عن ثروته، ورغم ثروته، ويعشقه الفقير باذلاً له من الوقت والجهد ما قد يبذله نظراؤه من أجل بناء الثروة أو الحصول عليها أو الحفاظ عليها. وليست الجدية في تلقي العلم بمعزل عن هذا النمط من الحياة، فالطلاب الذين يكرهون العلم ومقاعده ومعاهده من بين جموع الفقراء ليسوا بأقل منهم في جموع الأغنياء، وليسوا في الأغنياء بأقل منهم في الفقراء، وإنما عشق العلم والتعلم والتعليم حالة تتميز بالشخصنة (ولا نقول: الفردية) المطلقة التي لا تخضع لقواعد الإنتاج الكلي ولا للأحكام العامة.
وليس هذا على كل حال هو المنطق الذي يقتنع به أعداء العلم وأعداء الشعب، فهم يظهرون الآن و كأنهم يحاولون أن يصلحوا الاقتصاد بأن يختصروا من نفقات الموازنة العامة أكبر قدر ممكن، بينما التعليم مظلوم أصلا في الموازنة، وهم لا يكفون عما يخططونه للجور على الموازنة المخصصة للتعليم، مع أن معظمها يذهب للأجور، وهم يفعلون هذا الخبث، وكأنهم يعتقدون أن وظيفة الدولة الأولى لا تتمثل في التعليم ثم الصحة، وإنما تتمثل في فرش السجاد الأحمر لمواكب المسؤولين عندما يذهبون للقاءات المظهرية النظرية التي تحاول ستر الفشل من ناحية، وتغطية الفساد من ناحية أخرى.
الاضطراب في الإنفاق على التعليم
من المدهش بعد ذلك أن تعلم أن موازنات الدول التي تقدم تعليماً مجانياً جيداً لا تتكلف بما تتكفل به الدول الفاشلة التي تتخلى رويدا رويدا عن التعليم المجاني، ومع ذلك فإن الحكومات الفاشلة هي التي تمن على شعبها بأنها هي التي تمول التربية والتعليم من موازناتها العامة والخاصة، ومع هذا أو بسبب هذا فإنها تطلب أن تخفض الإنفاق على التعليم، وليس الادعاء وما يترتب عليه من طلب خفض النفقات إلا بابا من أبواب الظلم والافتراء، ذلك أن هذه الحكومات بسوء تدبيرها تنفق على التعليم الفاسد والمشوه من مجمل الدخل القومي (ومن دخول مواطنيها) أضعاف ما كانت ستنفقه على التعليم المجاني الجيد.
وليس الأمر في هذا بحاجة إلى استعراض الأرقام والإحصاءات والنسب والمعدلات، فكل مواطن شهد بقايا التعليم المجاني أو سمع من جيل والده عن التعليم المجاني القديم يستطيع أن يستنتج بكل بساطة أن ما ينفقه من دخله هو على التعليم كان يمكن اقتصاده كله لو توفر تعليم جيد، ذلك أن التعليم الجيد لن يكلف المواطن الصالح إلا ضرائب لا تزيد أبداً عن ربع ما يتكفل المواطن به الآن في ظل سياسات النهب المتبادل ووضع الأيدي في جيوب الجار والصديق.
الوهم المرتبط بالتعليم باللغات الأجنبية
على أن مما يدهشك أيضا في أمر التعليم ذي المصروفات الباهظة أن تسمع من المدعين المدافعين عنه أنه يؤهل لإلمام أكثر جودة باللغة الإنجليزية على سبيل المثال، وقد راعني وروعني أني سمعت أحد الزملاء من اساتذة الجامعة يتحدث في هذا الموضوع بطريقة قطعية، وكأنه يقول الحق وكأن الحق كله فيما يقوله، وإذا بي أفاجئه على مسمع من جميع الحضور بسؤال بدا غريبا في توقيته حين سألته عن مستوى أبنائه (أولادا وبنات) في اللغة الإنجليزية وهل يصل إلى مستوى جدهم في اللغة الإنجليزية؟ وكنت على معرفة بالجد الذي هو والد زميلي، وإذا بزميلي يقول في بساطة إن الفارق شاسع بين الجد والأحفاد، فمستوى الجد لا سبيل إلى الوصول إليه بأي حال من الأحوال. قلت لزميلي هل تعرف أن والدك العظيم لم يتلق في اللغة الانجليزية حرفاً واحداً خارج مدارس الحكومة، ولم يذهب إلى المعهد البريطاني ولا إلى الجامعة الأمريكية، فقال أصدقك إلى أن أسأله، وفي الجلسة التالية كان زميلنا هو الذي يحدثنا بحماس للماضي (وأسف على الحاضر) عن الإمكانيات والآفاق التي وصلت إليها مجانية التعليم في عهد الملك فؤاد والملك فاروق.
كارنيه مدارس الحكومة كان كفيلاً باشتراك حمامات السباحة
قلت لنفسي في ذلك اليوم: لماذا لا تذهب بعيداً وتجعله يزداد إيماناً وألما في نفس الوقت؟ فقصصت عليه أن كارنيه التلميذ في مدارس الحكومة كان كفيلاً باشتراك مجاني في حمامات السباحة (الأولمبية) التي شيدتها وزارة المعارف على أعلى مستوى وبأفضل أداء تعليمي ليتعلم السباحة فيها كل من يرغب في تعلمها من تلاميذ المدارس.
قال زميلي وهو مندهش: لا تتصور أنك ستكسب كل المعارك! فالذي تقوله هذا من المستحيلات، قلت له: نحن لا نخسر شيئاً إذا سألت والدك! عاد زميلي في اليوم التالي وهو مندهش مما قصه عليه والده، وأخذ الأطباء يسألونني عن هذه الحقائق التي أخفتها أيام حكم العسكر وسنواتهم العجاف، بل حدثتنا إحدى الزميلات عما تعرفه من أن كثيراً من الذين وصلوا إلى رتبة اللواء لا يجيدون السباحة.
بل إن أحد الزملاء قال إنه يبدو له أن أغلب من يعرفون السباحة في جيلهم هم أولئك الذين تعلموها في القرى من سباحة الترع مع كل ما يصحبها من البلهارسيا وما يعقبها من أمراض الكبد، وأنه اكتشف أن جيل أساتذتنا الكبار جداً (ممن فوق الثمانين) الذين تعلموا في عهد الملك فؤاد ليسوا مصابين بأي مرض من أمراض الريف، مع أنهم يجيدون السباحة، وأن كل اساتذتنا الذي تعلموا في عهد العسكر مصابون بمنظومة البلهارسيا كلها، وهو يعتقد أنهم ربما أصيبوا بها بسبب غياب حمامات السباحة، ولاضطرارهم إلى تعلم السباحة في الترع والمصارف مع كل ما يصحب هذا التعليم من الأمراض المعدية. وإذ بنا نكتشف مرة أخرى أن التعليم المجاني لا يعني تعليم ما في الكتب فحسب، ولكنه يشمل كل أنواع التربية الرياضية والفنية والدينية من قبلها، وأنه بدون تعليم الدين في التعليم المجاني، فإن التطرف ينتعش بأكثر مما يتصور أي دارس للعلوم الاجتماعية، سواء في ذلك علوم الدين أو الأمن أو الاجتماع أو التربية.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا