أيًّا ما كان الأمر في تصويرنا أوتصورنا لنشأة السادات وتكوينه من زاوية معينة أو زاوية أخرى، فإن القراءة تؤكد حقيقة أن هذا الرجل كان معنيا عناية كبيرة وعناية قصوى بتحرير وطنه وبتحريك قضية أمته، والخلاص من الوضع الذي وجد نفسه ووجد جيله فيه.. وهو الوضع الذي واكب نهاية عصر من سيطرة الأجنبي على المقدرات المصرية.
وهنا يجب أن نتذكر أنه مع دخول الإنجليز مصر سنة 1882 تم حل الجيش المصري.. وتم تسريح الجيش المصري.. وأصبحت أسلحة الجيش المصري ضعيفة وقليلة جدًّا.. وظل هذا الوضع مستمرًا.. بل إن العمل في الجيش المصري لم يكن بمثابة مهنة.. ولم يكن التخرج في المدرسة الحربية يتطلب كثيرًا من الدراسة على نحو ما كان الالتحاق بها لا يتطلب كثيرًا من المؤهلات للقبول بها.. وإنما كان التعليم العسكري المصري في ذلك الزمان لا يعدو أن يكون دراسة بسيطة جدًّا، حتى إن البعض يصور الموقف بأنه يكاد الإنسان يكون أميًا ثم يلتحق بمدرسة حربية، ثم يتخرج فيها.
ومع ثورة ١٩١٩ ظل هذا الوضع يتدرج إلى الأحسن أو إلى الأفضل حتى تم عقد معاهدة 1936.. تلك المعاهدة التي ربما ينظر إليها بعضنا الآن على أنها كانت خطوة بسيطة.. لكنها في حقيقة الأمر كانت بالنسبة للجيش المصري وبالنسبة للوطنية المصرية خطوة جبارة، لأنها في الحقيقة أتاحت رجوع الجيش المصري إلى الحياة العامة والتأثير فيها.. بل يمكن القول بأنها أتاحت أن يكون هناك جيش مصري.. وهيئة قيادة لهذا الجيش.. وهيئة أركان.. بل سمحت بوجود ضابط مصري (هو بالمناسبة عزيز باشا المصري) في منصب مفتش عام الجيش المصري.. وسمحت هذه المعاهدة بأن تكون هناك زيادة في أعداد الضباط.. وأن يسمح لأبناء الشعب بدخول الكلية الحربية.
وبمقتضى هذه المعاهدة وحدها ولا شيء سواها دخل أنور السادات، وجمال عبد الناصر وجميع قادة الثورة الكلية الحربية.. هذه هي المعاهدة التي حاول البعض طيلة عهد الثورة التقليل من آثارها.. والتقليل من إنجازها.. والتقليل من قيمة مصطفى النحاس في إتمامها.. والتقليل من قيمة الوفد المصري.. وقيمة مظاهرات الطلبة.. وقيمة ثورة الطلبة سنة ١٩٣٥.. وقيمة الجبهة الوطنية التي فاوضت من أجلها، وقيمة الكفاح الطويل الذي سبقها في سنة ١٩١٩ وسنة 1922 والمعاهدات والمفاوضات المختلفة المتتابعة.
كانت معاهدة ١٩٣٦هي التي أتاحت لأنور السادات، ولجمال عبد الناصر أن يدخلوا الكلية الحربية ويتخرجوا فيها.. وهي التي أتاحت أن تبدأ براعم للوطنية المصرية المعاصرة في الجيش المصري على يد عزيز المصري، وأن تنضج هذه البراعم وأن تؤتي ثمارها.. وخلال أقل من عقدين من الزمن أتاحت هذه المعاهدة أن تقوم ثورة أو انقلاب عسكري أو يقوم توجه وطني عسكري.. وحتى لو لم تكن الثورة قد استمرت (أو الانقلاب العسكري قد نجح) فقد ظهر أو تبلور توجه وطني فعلي باستخدام السلاح.. أو باستخدام قوة السلاح.. أو باستخدام القوة المسلحة في تغيير وضع على أرض مصر.. سواء أكان هذا التغيير للأفضل، أم لم يكن للأفضل.. وسواء أنجح هذا التغيير، أم لم ينجح.. فقد حدثت هذه النقلة النوعية من خلال الكلية الحربية.. من خلال عودة الجيش المصري.. وذلك من خلال معاهدة ١٩٣٦.. وذلك من خلال الوفد المصري وقيادته للحركة الوطنية التي توجت نجاحاتها في هذه الفترة بعقد معاهدة ١٩٣٦.
ومن المهم أن نفهم أن أحداث الحرب العالمية الثانية قد أتاحت بعض الحوار حول مستقبل الوطن بعد عقد المعاهدة، ومستقبل الحركة الوطنية عموما.. وقد كان هذا الحوار يدور بين الشباب المشاركين في هذه الحرب، وقد حضر أنور السادات، وهو ضابط في الخدمة، النصف الأول من الحرب العالمية الثانية واستمع إلى هذه المناقشات وشارك فيها.. ورأى فيما يمكن أن نطلق عليه اسم الجبهة الغربية (أو جبهة مرسى مطروح.. وبالطبع فلم يكن هذا الاصطلاح موجودًا في ذلك الوقت، لكننا نستعمل المصطلح للتقريب) رأى السادات ما كانت تدور حوله المعارك بين قوات المحور وقوات الحلفاء.. ولأن الرئيس السادات شاب وطني.. فقد كان يعتقد اعتقاد الشباب أن «عدو عدوي صديقي».
ومن هنا ابتدأ الرئيس السادات يتقبل فكرة التعاون مع المحور.. أو يشرع في فكرة التعاون مع المحور.. أو يستسيغ فكرة التعاون مع المحور.. من أجل خلاص مصر من المحتل البريطاني، كان هذا هو توجه السادات، بينما كان الوفد المصري بقيادة الزعيم مصطفى النحاس باشا ضد هذه الفكرة.. فقد كان ضد فكرة المحور.. وكان ضد النازية.. وكان ضد الفاشية.. وكان يؤمن إيمانًا تامًا بالديمقراطية.. وكان يؤمن بأن الحلفاء هم الذين سينتصرون.. وكان يؤمن بأن انتصارات المحور الزاحفة والمستمرة والزاعقة إلى زوال.. لكن هذا بالطبع كان نتيجة خبرة وبصيرة لدى مصطفى النحاس.. ولدى الوفد المصري.. ولدى الكتاب المتنورين من ذوي الحس التاريخي من أمثال العملاق عباس محمود العقاد.. فالعقاد لم ينصرف لحظة واحدة إلى التفكير في أن هتلر من الممكن أن يفوز.. أو أن الفاشية تفوز.. وكان ضد هتلر والهتلرية والنازية على طول الخط.. لكننا للإنصاف لا نستطيع أن نتوقع أن يكون مثل هذا الموقف واضحا بالقدر نفسه في ذهن شاب متحمس مثل أنور السادات.
ونحن نعرف أن أنور السادات ابتدأ في هذه الفترة ـ في روايات كثيرة جدًّا ـ يميل إلى التعاون مع المحور.. بل إنه بدأ في «التعاون المنظم»، وكان التعاون مع المحور (الألمان) مؤثمًا بفعل القانون.. ومراقبا بحكم الظروف.. لكن أنور السادات في سبيل الوصول إلى هدف وطني كان مستعدًا للجوء إلى هذا التعاون.. مع أن هذا اللجوء في البداية والنهاية لجوء إلى فعل مؤثم.. لجوء إلى فعل سري.. لجوء إلى فعل به مخاطرة.. لجوء إلى مخاطرة غير محسوبة.. لجوء إلى توجه لا يستطيع الإنسان أن يطمئن إلى نجاحه مائة في المائة.. وهو يبدو كما لو أنه نوع من أنواع المغامرة.. أو نوع من أنواع المقامرة.. أو نوع من أنواع القفز للمجهول.
كان أنور السادات بحكم الشباب وبحكم الأمل مستعدًا أن يقفز إلى المجهول وأن يقفز إلى هذه المغامرة أو المخاطرة.. ولذلك فإننا نستطيع أن ندرك أن أنور السادات ـ لا نقول انضوى.. ولا نقول تورط.. ولكننا نستعمل الفعل الأبسط من هذه الأفعال ـ ونقول شارك بمحض إرادته في هذه التنظيمات الصغيرة التي كانت تميل إلى نصرة الألمان.. وإلى الانتصار لعدو العدو على العدو.. وقاده هذا إلى المشاركة في أكثر من فعل.. وطبعًا الأفعال السرية في ذلك الوقت (وفي كل وقت).. أو القنوات السرية أو الأعمال السرية لا يتاح لها كلها أن تسجل.. ولكن يتاح للعمل الأخير الذي يُوجه بسببه الاتهام إلى المشارك في العمل السري أن يسجل عليه.
ومن المقطوع به مائة في المائة أن أنور السادات شارك في أعمال سرية ناجحة من أجل المحور.. أو من أجل نصرة المحور على الحلفاء أو نصرة الألمان على البريطانيين.. لكننا لم نعرف كل هذه الأعمال ولا كل هذه الإنجازات.. وإنما عرفنا منها ذلك العمل أو ذلك النشاط الذي تطور حتى جعله يودع المعتقل في شهر أكتوبر سنة 1942 بتهمة التخابر مع الألمان (وهي القصة المشهورة بقصة الجاسوس ابلر والراقصة حكمت فهمي). وتفصيلاتها هي التي جعلت أنور السادات يتحول في شهر أكتوبر سنة 1942، أي بعد أربع سنوات ونصف سنة من تخرجه في الكلية الحربية ـ من ضابط نظامي في القوات المسلحة إلى مواطن متهم بالتعاون مع أعداء الوطن.. أو مع أعداء حليف الوطن.. أو مع أعداء حلفاء الوطن.. أي مع الألمان.
وبالطبع كان هذا التحول يلهب خيال الشباب الذين يتمثلون بأنور السادات وبغيره من القادرين على أن يقوموا بمثل هذا الدور والمندفعين إلى أدائه.. وكان هذا التحول يعطي لأنور السادات صورة البطل الشعبي مثل أدهم الشرقاوي، الذي كان هو نفسه يتمثل به في طفولته.. لكن الأمر لم يكن هكذا على طول الخط، ففي الوقت نفسه، فإنه بمنطق الحكومة وبمنطق التنفيذيين ومنطق الالتزام العسكري كان هذا «البطل» في توصيف الأمن السياسي خارجًا على القانون.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا