يُقصدُ بالتلميع في علوم السياسة المعاصرة وأديباتها إلقاء الضوء على أي قدر من الإنجازات أو الإيجابيات بحيث تظهر أكبر أو أقوى أو أزهى أو أفيد من حجمها الطبيعي ، وفي ممارسات علوم الإدارة والتسويق يُعبّرُ التلميع عن كل آلية لتعلية الإيجابيات لتتضاءل السلبيات إلى جوارها، ولاشك في أن التلميع أدب، وفن، وعلم كذلك ، فأدب المديح (على سبيل المثال) صورة من أرقى صُوَر التلميع، كذلك فإن فنون الشكل والأداء (على حد سواء ) تستهدفُ في طليعة أغراضها روح التلميع وجوهره، وقد عرفت مصر الحديثة التلميع بصورة مُكثّفة في الحقبة الليبيرالية حيث تبارت الأحزاب في العناية بإنجازاتها، ومزاياها ورجالها، ومواقفها فلمّا جاء عصر 23 يوليو 1952 تحوّل الفكر إلى التلقين والإرشاد القومي، وأصبحت فكرة الإرشاد القومي بديلاً للدعاية والإعلام والصحافة، وتفوّقت مؤسسة الإرشاد القومي على كيانات الثقافة والإعلام على حد سواء، قبل أن يظهر مُصطلح الثقافة على استحياء في التشكيلات الوزارية في 1958، وقبل أن يظهر مُصطلح الإعلام على استحياء أيضا كبديل مناوب للإرشاد القومي.
لكنّ هذا كلّه سار في اتجاه النهر الرئيسي بينما كان هناك نهر فرعي نجح صاحبه من خلاله أن يُقدّم أسلوباً جديداً جعل التلميع فيه هو الهدف الأكبر والهدف الطاغي، وتحوّل بفنّ التلميع من الأدب والفن إلى الهندسة فأصبح قادراً على مُمارسته على نطاق انتاجي واسع ومُتكرّر، وأصبح قادراً على استدعاء نماذج حية له قابلة للتكرار والتطوير مع كلّ حاجة شأن كلّ الفنون التي تُعالجها الهندسة باقتدار العلم وأسلوبه. كان بطل علم هندسة التلميع هو الدكتور عزيز صدقي الذي نجح في هذا المجال نجاحاً لم يسبِق إليه ولم يلحق به أحد حتى الآن، فقد كان قادراً على تصوير كلّ شيء في إطارٍ مصقول ساطع ناصع مضيء، وهكذا فإنه ، على سبيل المثال ، نجح في تصوير تأميم المصانع الوطنية الصغيرة في إطار أنه إنشاء لصناعة كبيرة، ولم يبخل بالإعلام والتصريحات والأرقام والإحصاءات بل إنه لم يبخَل بإنشاء الكيانات الإدارية والبيروقراطية حتى أصبحت الشركة الصغيرة التي أمّمتها الثورة بمثابة شركة كُبرى لها مجلس إدارة ورؤساء قطاعات ومديرو عموم ومُديرون وأصبحت وظيفة الباشكاتب المسئول عن الحسابات بمثابة الإدارة المالية التي يرأسها وكيل وزارة وتضمّ عدداً من مُديري العموم للتكاليف والمُشتريات والموازنة والمخازن والحسابات والاستحقاقات وشئون العاملين وقُل مثلَ هذا في القطاعات الإدارية والتجارية والفنية.. الخ. وليس هناك شك في أن الرئيس عبد الناصر كان أسعد الناس بهذا الذي فعله الدكتور عزيز صدقي طيلة ثمانية سنوات وشهرين تمثل الفترة الأولى لتولّيه الصناعة منذ يونيو 1956 وحتى اختلف مع علي صبري فترك الوزارة في أغسطس 1964، وهو يومها نائب لرئيس الوزراء، ثم عاد إليها في أكتوبر 1967 وحتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر.
المقارنة بينه وبين صنوه الدكتور مصطفى خليل
كان الدكتور عزيز صدقي ثاني اثنين من المهندسين من رؤساء وزراء عهد الرئيس السادات الذين بدأت علاقتهم بالوزارة في عهد 1952، وهما الدكتور عزيز صدقي و الدكتور مصطفى خليل ، وقد ولد هذان الرجلان في نفس العام 1920 وتوفيا في نفس العام 2008 وإن كان أكبرهما وهو الدكتور عزيز صدقي أكبر في عمره من زميله بأسبوع واحد فقط ! ، وقد وصلا إلى منصب الوزير في اليوم نفسه في 1956 ، كما وصلا إلى منصب نائب رئيس الوزراء في اليوم نفسه أيضا في 1964 لكن أكبرهما وصل إلى رئاسة الوزارة في 1972 أما الثاني فوصل إليها في 1978 ، ومن الطريف أن مصطفى خليل الأصغر تخرج في كلية الهندسة مبكرا في 1942 أما الدكتور عزيز صدقي فتخرج بعده بعامين في 1944 ، وعلى حين درس عزيز صدقي في هارفارد، فإن الدكتور مصطفى خليل درس في إلينوى بشيكاغو .
وإذا أردنا المقارنة البانورامية بين الرجلين فإن الدكتور عزيز صدقي كان أكثر حماسا من صاحبه ، لكن الدكتور مصطفى خليل كان أكثر شجاعة منه ، كما أن الدكتور عزيز صدقي أكثر انتشارا من صاحبه ، لكن الدكتور مصطفى خليل أكثر تعمقا منه ، وفي المجمل الأعم فإن مكانة مصطفى خليل في تاريخ وطنه أعلى ، وإن كان عزيز صدقي قد سبقه إلى الوجود في الطبقة الأعلى من صنع القرار ، وحين اختلف الدكتور عزيز صدقي مع على صبري وخرج من الوزارة في 1965 فإن أعماله أحيلت على الدكتور مصطفى خليل فأداها مع وظائفه ، وحين كان الدكتور عزيز صدقي رئيسا للوزراء في عهد الرئيس السادات فإن الدكتور مصطفى خليل كان من الجبهة التي انتقدت أداءه علنا ، من دون خوف من العواقب ، فيما عرف على لسان الرئيس نفسه باسم : “العريضة” و ذلك من قبيل السخرية السياسية التي كان الرئيس السادات يجيدها .
وقد تولى كلاهما مسئولية الاتحاد الاشتراكي العربي لفترة كانت طويلة في حالة الدكتور مصطفى خليل عن الفترة القصيرة المؤقتة التي شغلها الدكتور عزيز صدقي.
وقد انفرد الدكتور مصطفى خليل عن زميله بأن انتخب نقيبا للمهندسين على حين انفرد الدكتور عزيز صدقي عن زميله بنشاط معارض للرئيس مبارك في نهاية عهده. ومع هذا كله فإن إنجازهما الهندسي لا يصل إلى إنجاز المهندسين عثمان أحمد عثمان أو محمد صدقي سليمان ممن يكبرونهما مباشرة ولا إلى إنجاز المهندسين أحمد عز الدين هلال أو حسب الله الكفراوي ممن يلونهم.
دوره في سياسات في تصنيع مصر
نبدأ بالحديث عن نقطة مهمة تتعلق بدور هذا الرجل في تصنيع مصر. ولا بد لي من أن اعترف أولا بما يعرفه القارئ من حبي المفرط للأستاذ محمد التابعي وتقديره لقدرته على الصياغة، ومن باب التدليل على ان هذا الحب لا يأتي من فراغ فإني أُحبّ ان أشير إلى إن الأستاذ التابعي وهو واحد من أصحاب الأساليب العربية الجميلة الذكية راعه هذا الذي يفعله الدكتور عزيز صدقي من حديث متكرر يُضخّمُ به الإنجازات إن وُجدّتْ، ولم يجد مناصاً من أن يكتُبَ مُنتقداً له ولأسلوبه، وأن يلجأ إلى الرصيد الشعبي الفلكلوري فيُطلق عليه اسم: أبو لمعة.. هكذا بكلّ وضوح. وهكذا فإن دور الدكتور عزيز صدقي انكشف إلي حد كبير بذلك المقال الذي كتبه الأستاذ محمد التابعي وسماه فيه (أبو لمعة) بسبب كثرة تصريحاته عن إنجازات خيالية في قطاع الصناعة ، وتبشيره بالأرقام والمكاسب الثورية، والحقيقة أن هذا لا ينفي حقيقة مهمة وهي أن الدكتور عزيز صدقي، في المقام الأول ، رجل تنفيذي ، وقد نفذ ما يمكن وصفه على أقل تقدير بأنه سياسة تصنيع متعجلة و مظهرية مرتبطة بالتبشير بالاشتراكية ، مع إيماننا بأن مصر كانت تضم كثيرا من المهندسين الأكفاء ذوي النزاهة ممن تعاونوا مع الدولة في كافة تخصصات الصناعة والإنتاج ، وتقبلوا دعم قيادة هذا الرجل / وهو ما مكّن مصر بصورة أو أخرى من تخطي أزمات كثيرة سببتها الاندفاعات الناصرية النزقة .
ممارسته الخطرة لسياسات التلميع وهو رئيس للوزراء
على أن الأخطر من هذا أن الدكتور عزيز صدقي مارس هذا الأسلوب أيضاً في أثناء رئاسته للوزراء طيلة 14 شهراً في عهد الرئيس السادات لكن مُنتهى الخُطورة التي لم ينتبِه إليها أحد حتى الآن أن الدكتور عزيز صدقي كان قد بدأ يُمارس هذا الأسلوب فيما يتعلّق بالقوات المُسلّحة والمعركة القادمة، وكان ممّا شجّعه على هذا التوجُه أنه عمل رئيساً للوزراء في الفترة التي كان يتولى منصب وزير الحربية قائد عسكري مُغرم مثله بالتلميع والتصريح والظهور والحديث (وهو الفريق محمد أحمد صادق)، ومعه رئيس للأركان يُمارس نفس الصفات ويُسابق الوزير فيها (وهو الفريق سعد الشاذلي) وهكذا فإن الدكتور عزيز صدقي كان يُصرّحُ تصريحات عسكرية واستراتيجية و ظل يبدع في هذه المساحة حتى جاء المشير أحمد إسماعيل وزيراً للحربية في أكتوبر 1972 أي بعد عشرة شهور من رئاسة الدكتور عزيز صدقي للوزارة، وأصبح على الدكتور عزيز صدقي أن يلتزم بما التزم به الوزير الجديد من العدول عن سياسة الوزير القديم في التصريح والتلميع والحديث والإعلام.
ومن أطرف ما يُمكن لي أن أرويه في هذا المقام ما أشار إليه الفريق صادق نفسه في مذكراته التي حررها الأستاذ عبده مباشر من أن الدكتور عزيز صدقي حضر ، وهو رئيس للوزراء ، مناورة قامت بها قواتنا الجوية في حضور قادة من القوات السوفييتية وانتابه بعض السرور من الإنجاز الذي رآه أو الكفاءة التي أحسها في أداء القوات الجوية ، وذلك بما يتناسب مع معلومات سياسي قريب من صناعة الحروب الناصرية أو الهزائم ، أو بما يتناسب مع معلومات مدرس في كلية الهندسة عن الأداء العسكري، وهكذا فإنه لم يجد ما يمنعه من أن يُصرّح مباشرة للصحافة العالمية بأنّ زمن التفوّق الجوي الإسرائيلي قد انتهى إلى غير رجعة!! هكذا وبمُنتهى البساطة كان الدكتور عزيز صدقي على الدوام قادراً على أن يُطلق تصريحات جيدة الصياغة من هذا الطراز، ولك أن تتخيّلَ، قياسا على هذا، كل ما كان قد أطلقه عن الصناعة المصرية طيلة الفترة التي تولاّها فيها وأسّس لعلم هندسة التلميع.
تكوينه وسيرة حياته
ولد الدكتور عزيز صدقي عام (1920) في أول يوليو، وتخرج في قسم العمارة من هندسة القاهرة (1944) ، وابتعث إلي الولايات المتحدة حيث حصل علي الماجستير في تخطيط المدن، وفي الدكتوراه غيّر من تخصصه بعض الشيء (علي نحو ما هو معمول به في التعليم الأمريكي المتميز بسعة الأفق والسماح بالبعد عن التخصص الدقيق ذاته) وكانت رسالته فيما رواه عن نفسه متصلة بموضوع تصنيع مصر، وحاز بها درجة الدكتوراه من هارفارد، و لسنا ندري إن كان هذا الذي رواه عن موضوع رسالته من قبيل التقريب أم الحقيقة ، وعاد إلي مصر في نهاية 1951، فعين مدرساً بكلية هندسة الإسكندرية.
مع بدايات الثورة عرف الدكتور عزيز صدقي طريقه إليها (عن طريق الضابط مجدي حسنين الذي كان مسئولا عن هيئة التحرير، ثم خبا نجمه فأصبح أقصى ما وصل إليه في عهد الثورة أن عين سفيرا في تشيكوسلوفاكيا بينما صعد مساعده عزيز صدقي إلى رئاسة الوزارة ، ولنا ان نتوقف هنا وقفة تعبوية لنقارن بين موهبة الدكتور عزيز صدقي وموهبة الموهوب الدكتور يوسف إدريس الذي كان مساعدا للرئيس السادات في الوقت الذي كان عزيز صدقي فيه مساعدا لمجدي حسنين )، وعين الدكتور عزيز صدقي عضواً في المكتب الفني للهيئة العليا للتنسيق وفي 1953 أصبح الدكتور عزيز صدقي عضواً في مجلس إدارة شركة مصر للتأمين بعد أن وافق وزير المعارف علي إعفائه من تعهده (التقليدي) بخدمة الحكومة سبع سنوات. وعمل أيضا مستشاراً بمكتب رئيس الوزراء، فخبيراً بالمجلس الدائم للخدمات.
مديراً لمؤسسة الكفاية الإنتاجية.
وفي يونيو 1956 أصبح الدكتور عزيز صدقي أول وزير للصناعة بعد انفصال (أو تخصيص) وزارة مستقلة للصناعة في مصر وبقيّ في هذا الموقع باتصال (حتى ما قبل نهاية عهد وزارة علي صبري بشهرين حيث خرج من الوزارة) مع اختلاف في صفته الوزارية فحتي أكتوبر 1958 كان وزيراً للصناعة في وزارة جمال عبد الناصر ووزارة الوحدة الأولي. وحين كان النظام يقتضي أن يكون هناك وزير مركزي للصناعة ووزيران تنفيذيان في مصر وسوريا أصبح وزيرا مركزيا للصناعة ثم أصبح أيضا بمثابة الوزير التنفيذي لها في مصر منذ إبريل 1959 (حين أقيل فتحي رزق وزير الصناعة والتنفيذي ، ويقول سيد مرعي في مذكراته إن ذلك كان بفضل خط مفتوح بين الدكتور عزيز صدقي والرئاسة) وحتي تم الانفصال (أكتوبر 1961) وفي التشكيل الجديد الذي أعقب الانفصال برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر أصبح الدكتور عزيز صدقي أيضاً وزيراً للصناعة، وهكذا في وزارة علي صبري الأولي (سبتمبر ١٩٦٢- مارس ١٩٦٤). وفي وزارة علي صبري الثانية (مارس 1964) أصبح الدكتور عزيز صدقي بعد 8 سنوات من دخوله الوزارة نائباً لرئيس الوزراء مع عشرة آخرين من نواب رئيس الوزراء كانوا هم علي التوالي: الدكتور نور الدين طراف الذي رأس المجلس التنفيذي قبل ذلك، والمهندس أحمد عبده الشرباصي، وكمال الدين رفعت الذي قفزت أقدميته بحكم أنه كان قد صار عضوا في مجلس الرياسة ، والدكتور محمود فوزي والدكتور عبد المنعم القيسوني والدكتور كمال رمزي إستينو ثم الدكتور عزيز صدقي ثم الدكتور مصطفي خليل وعباس رضوان والدكتور عبد القادر حاتم وعبد المحسن أبو النور.
وقد أصبح الدكتور عزيز صدقي نائباً لرئيس الوزراء ( وكان بمثابة النائب السابع) للصناعة والثروة المعدنية (هكذا كانت نصوص ذلك التشكيل الطريف) ووزيراً للتعدين والبترول ووزيراً للصناعة الخفيفة (هكذا لأنه كانت قد استحدثت وزارة الصناعة الثقيلة تولاها المهندس سمير حلمي إبراهيم الذي أصبح فيما بعد، في عهد الرئيس أنور السادات رئيسا للجهاز المركزي للمحاسبات) ويشرف علي وزارتي الصناعة الثقيلة (التي أسلفنا ذكرها) و وزارة القوي الكهربائية التي تولاها أحد زملائه وهو الدكتور محمد عزت سلامة، وفي أثناء عهد هذه الوزارة عين المهندس أمين حلمي كامل وزيراً للصناعات الخفيفة التي كان يتولاها الدكتور عزيز صدقي نفسه.
بعد اختلافه مع نظام الرئيس عبد الناصر
وفي أغسطس ١٩٦٥ استقال الدكتور عزيز صدقي من مناصبه، وابتعد عن الحكم، ولم يشترك في وزارة زكريا محي الدين التي تشكلت في أول أكتوبر 1965 ولا في وزارة صدقي سليمان في ١٠ سبتمبر ١٩٦٦، لكنه كان قد عين مستشاراً لرئيس الجمهورية لشئون الإنتاج في أغسطس 1966.
وفيما بعد هزيمة ١٩٦٧ تشكلت وزارة الرئيس عبد الناصر (يونيو 1967) وقد تولي أمور الصناعة فيها المهندس صدقي سليمان بالإضافة إلى نيابته لرئيس الوزراء ووزارة السد العالي والكهرباء ولم يدم هذا الوضع إلا حتى السادس عشر من أكتوبر ١٩٦٧ حين عاد الدكتور عزيز صدقي إلى مجلس الوزراء (في تعديل محدود) مرة ثانية بعد غياب عامين، كوزير للصناعة والبترول والثروة المعدنية وبهذا عادت إليه اختصاصات كانت من نصيب صدقي سليمان ومحمود يونس عند تشكيل هذه الوزارة.
يجدر بنا أن نذكر أنه في العامين الذين كان الدكتور عزيز صدقي فيهما بعيداً عن وزارة الصناعة تولي هذه الوزارة الدكتور مصطفي خليل في وزارة زكريا محي الدين (10/65 -9/66) والمهندس أحمد توفيق البكري في وزارة المهندس محمد صدقي سليمان ثم المهندس محمد صدقي سليمان نفسه في وزارة الرئيس عبد الناصر، وكأنما كانت هذه الوزارة دوماً في عهد الرئيس عبد الناصر (أو في الأغلب الأعم من ذلك العهد) من حظ من تولوا رئاسة الوزارة قبلها أو بعدها.
وفي وزارة الرئيس جمال عبد الناصر الأخيرة (مارس 1968) احتفظ الدكتور عزيز صدقي بذات المنصب، وكذلك في وزارة الدكتور فوزي الأولي (أكتوبر 1970وحتي نوفمبر 1970).
ومع تشكيل الدكتور محمود فوزي لوزارته الثانية، أصبح الدكتور عزيز صدقي نائباً لرئيس الوزراء ومعه من النواب ثلاثة أخرون هم زميله سيد مرعي ومحمود رياض وشعراوي جمعة وكان منصبه: نائب لرئيس الوزراء للإنتاج والتجارة. وظل هكذا في التعديل التالي (مايو 1971) حتى إذا كان سبتمبر 1971 أصبح نائباً أول لرئيس الوزراء، وله ذات المناصب الوزارية، وحتى إذا جاء يناير 1972 أصبح رئيساً للوزارة.
وصوله إلى القمة في الاتحاد الاشتراكي أيضا والبرلمان
على صعيد الاتحاد الاشتراكي كان الدكتور عزيز صدقي عضواً في اللجنة المركزية (1968) وفاز بعدد محدود من الأصوات في انتخابات اللجنة التنفيذية العليا وهو ما ترك في نفسه أثراً سيئاً تجاه المجموعة التي أبعدت عن الحكم في 15 مايو ١٩٧١.
وبعد نجاح حركة الرئيس السادات التصحيحية في 15 مايو ١٩٧١ تولي الدكتور عزيز صدقي مسئولية إعادة بناء الاتحاد الاشتراكي فأجاد استبقاء الروح في هذا التنظيم، بل إنه قدمه في صورة توحي بأنه لم يفقد روحه القديمة!! وهي براعة تنظيمية لم يكن من السهل أن يصل إليها أحد ممن كانوا في الصف الأول يومها.
وفي مجلس الأمة مثل الدكتور عزيز صدقي دائرة شبرا الخيمة في برلمان (1969) وكان أكثر النواب في جميع انحاء الجمهورية حصولاً على الأصوات حيث حصل على ما يقرب من 99%، ومن العجيب أن الدكتور أحمد فؤاد محي الدين بعد ذلك رشح نفسه في هذه الدائرة أيضاً.
وفي أثناء تولية مناصبه الوزارية رأس الدكتور عزيز صدقي مجلس إدارة مؤسسة النصر (فبراير ١٩٦١) والهيئة العليا لمجمع الحديد والصلب (١٩٦٩) وتولي الإشراف على هيئة السنوات الخمس وعلى الرقابة الصناعية، ورأس بحكم منصبه (لفترات طويلة) الهيئة العامة للتصنيع.
صاحب اول حظ مع الرئيس السادات
من الأقوال الشائعة أن الدكتور عزيز صدقي لم يكن محظوظاً مع الرئيس السادات، مع أنه كان صاحب أول حظ مع الرئيس أنور السادات في مناصب الدولة، فهو أول رئيس وزراء مدني يختاره الرئيس أنور السادات بإرادته هو، ذلك أن الدكتور محمود فوزي جاء بحكم عوامل كثيرة منها سنه وخبرته وأقدميته فضلا عن انه كان لا بد من شخصية مثله لتهدئ من الصراع على الحكم أو لتؤجله إلى حين التقاط الأنفاس في مطلع رئاسة رئيس جديد تحيط به المطامع. أما الدكتور عزيز صدقي فهو أول رئيس وزراء اختاره الرئيس أنور السادات بإرادته.
والحقيقة أن الدكتور عزيز صدقي كان قد وقف بقوة فائقة في صف الرئيس أنور السادات في يومين مهمين ، وقد كان ثانيهما أهم من أولهما بكثير، فأما أولها فهو يوم ترشيح الرئيس أنور السادات لرئاسة الجمهورية، وأما ثانيهما فهو يوم حركته التصحيحية في 14 مايو، وقد كان للدكتور عزيز صدقي فضل كبير في 14 مايو، وقد كان هو نفسه معتزا تماما بالقيمة الكبيرة لوجوده في معسكر الرئيس أنور السادات يومها ومعتزا بالحديث عن دوره في اتصالاته بالعمال، بل إن الحقيقة التي لا يمكن لأحد أن ينكرها هي أن الدكتور عزيز صدقي يومها كان قد أصبح تقريباً الوزير التنفيذي الأول في البلد، وقد تولي الدكتور عزيز صدقي إبراز انتصار الرئيس أنور السادات بأفضل من كل تصوير أنجزه غيره من أصحاب القلم أو الشرطة أو الدبابة ، ذلك أنه هو ، و ليس غيره ، الذى نظم الجموع في سيمفونيات التأييد السريعة بحكم تمكنه من جموع عمال القطاع العمال الذين كانوا يخضعون لقبضته الذكية القوية .
و قد تميز الدكتور عزيز صدقي في رئاسته الوزارة بالقدرة علي تنفيذ الحلول شبه الحاسمة بالطريقة الجزئية ، ومن خلال دولاب البيروقراطية المتاح ، ومن خلال الإدارات الحكومية نفسها، وقد بذل جهداً متكررا مثابرا ، حتى وصف عن حق بأنه كان يعدو بين المحافظات ومعه الوزراء وكثيراً ما كان يقوم بالزيارة الواحدة للمحافظة مصحوباً بأكثر من نصف عدد الوزراء ، فيستمع إلي المشكلات المحلية ، ويتحرك من فوره من علي المنصة لحلها بسرعة بحيث لا يخرج من بين الناس إلا وقد تم إصدار القرار فعلاً في وجود الوزير المسئول وبدأت عجلة حل المشكلات في الدوران وهو أسلوب ممتاز لا نزال نتمنى أن نجد من يطبقه مرة ثانية!!
وقد ظهرت نتائج نشاط الدكتور عزيز صدقي وزياراته الميدانية وتحركاته وتصرفاته بسرعة بالغة، وأعرب الرئيس أنور السادات نفسه عن سعادته بهذا الذي تحقق.
الوزراء الجدد في وزارة الدكتور عزيز صدقي
حين كلف الرئيس أنور السادات الدكتور عزيز صدقي تشكيل الوزارة أعطاه فرصة أربعة أيام لاختيار الوزراء. ولهذا فإن وزارة الدكتور عزيز صدقي كانت في تكوينها وزارة مدروسة جيداً.
وقد دخلها على سبيل المثال الأمام الأكبر عبد الحليم محمود وكان أول وزير للأوقاف يصعد شيخا للأزهر في عهد الثورة، وقد جاء خلفاه في المشيخة بعد ذلك من موقع الوزير أيضاً.
كذلك ضمت هذه الوزارة اثنين كانا مرشحين لتولي وزارة الخارجية على المدي القريب وهما الدكتور محمد حسن الزيات الذي عين أولا كوزير الدولة للإعلام (وقد تولاها بالفعل)، والدكتور محمد زكي هاشم وزير السياحة.
وقد ضمت هذه الوزارة من الكفاءات عدد من الأعلام ممن بقوا بعد ذلك لامعين دوماً في مجال تخصصاتهم، من أمثال الدكتور محمود محفوظ، وهو أبرزهم بلا شك، الدكتور شمس الدين الوكيل، والدكتور فؤاد مرسي، والأستاذ علي عبد الرازق، ونقيب العمال صلاح غريب، والدكتور عثمان بدران والدكتور مصطفي الجبلي، والمهندس عزيز يوسف سعد.
وقد كان الدكتور عزيز صدقي أول رئيس للوزراء في عهد الثورة كله (وليس في عهد الرئيس أنور السادات فحسب) أتيحت له هذه الفرصة.
كان لوزارة الدكتور عزيز صدقي الفضل في اختيار 15 وزيراً جديداً، فضلاً عن عودة كل من الأستاذ محمد عبد السلام الزيات نائباً لرئيس الوزراء (كان قد ترك الوزارة قبلها بشهور قليلة) والمهندس محمود رياض وزيراً للمواصلات (كان قد ترك الوزارة منذ أكتوبر 1965)
وقد دخل الوزارة في أثناء عهد الدكتور عزيز صدقي اثنان آخران ليس للدكتور عزيز صدقي علاقة باختيارهما للوزارة، وهما المشير أحمد إسماعيل والفريق أحمد كامل البدري.
وبهذا يصبح مجموع الوجوه الجديدة على مجلس الوزراء في عهد الدكتور عزيز صدقي ١٩ شخصية وهو رقم كبير. وبالإضافة إليهم جميعاً أصبح الدكتور إسماعيل صبري عبد الله وزير دولة للتخطيط بعدما كان نائب وزير وعضوا في مجلس الوزراء .
أما الذين خرجوا من الوزارة في أثناء عهد وزارة الدكتور عزيز صدقي فثلاثة هم وزير الخارجية (الدكتور محمد مراد غالب) وقد نقل سفيراً بوزارة الخارجية في سبتمبر 1972 وخلفه وزير الدولة الاعلام (الدكتور محمد حسن الزيات) ولم تكن الوزارة بحاجة إلي من يخلف الزيات فقد كان النائب الدكتور محمد عبد القادر حاتم يتولي الإعلام بالفعل، والآخران هما الفريق اول محمد احمد صادق (وقد خلفه المشير أحمد إسماعيل) والفريق المهندس محمد إبراهيم سليم وزير الدولة للإنتاج الحربي وقد عين في منصبه السابق مديراً للكلية الفنية العسكرية.
غرامه المتكرر بالمعارك السياسية
كان الدكتور عزيز صدقي مُفعماً بالحيوية القادرة على الاشتباك مع الجميع، ولم يحدُث لأيّ وزير مدني من وزراء عهدي الرئيسين عبد الناصر والسادات أن اشتبك مباشرة في مثل أو كلّ هذه المعارك التي اشتبك فيها الدكتور عزيز صدقي.
كانت أبرز و”أبكر” معارك الدكتور عزيز صدقي مع النائب عبد اللطيف البغدادي الذي كان مُدركاً لخطورة المضي في سياسات عزيز صدقي التوسّعية بلا دراسة أو تخطيط ،وكان يُجاهر بهذا، ويتصدّى له في مجالس الرياسة والوزراء والبرلمان ولجان الوحدة وغيرها من المجالس، وقد أوردنا كثيراً من قصص المعارك التي دارت بين هذين الرجلين في كتابنا شهيد النزاهة الثورية : عبد اللطيف البغدادي ، وفي كتابنا ثلاثية السياسة والصناعة والفن : مذكرات أساتذة الهندسة.
كذلك فإن الدكتور عزيز صدقي لم يُكْمِل عمله نائبا لرئيس الوزراء مع السيد علي صبري وترك الوزارة و المسئوليات الوزارية قبل نهاية عهد وزارته ، وخلفه الدكتور مصطفى خليل في تحمُّل أعباء منصبه.
ولم تكن علاقة الدكتور عزيز صدقي بالسيد بزكريا محيي الدين ولا بالمهندس محمد صدقي سليمان تسمحُ له بأن يعمل تحت قيادة أيّ منهما حين رأسا وزارتين مُتعاقبتين 1965 و1966.
كذلك فإن الدكتور عزيز صدقي بدأ عهده في عهد السادات بموقف حاد ضد قادة الثورة الباقين من عهد الرئيس جمال عبد الناصر حين أصدر أو نشر بيانا كان جوهره القول القاتل و القائل بأنّه ليس من حق الذين تركوا الرئيس جمال عبد الناصر في الطريق ان يعودوا إلى مواقع جديدة بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر ، وبالطبع فإنّ أعضاء مجلس قيادة الثورة سرعان ما كالوا له من السباب ما يتوافق مع يعتقدونه من ألوهيتهم وأُلوهية العسكر ، إذا ما قورنوا بهذا المدني الدخيل على دولتهم و سلطتهم حسب مُعتقدهم العميق.
خلافه مع صديقه المهندس سيد مرعي
لم تقف خلافات الدكتور عزيز صدقي عند هذا الحد ذلك أنه بدأ يختلف مع صديقه المهندس سيد مرعي الذي كان قد بقي معه في الصفّ الأول من رجال الدولة المدنيين ، ومع أن سيد مرعي كان قد سبق الدكتور عزيز صدقي في الخروج من منظومة الوزراء في عهد عبد الناصر (خرج 1961 وخرج الدكتور عزيز صدقي 1964) فإن عودة سيد مرعي في يونيو 1967 سبقت عودة الدكتور عزيز صدقي بشهور، وقد كان الرئيس السادات من الذكاء بحيث اختار الدكتور عزيز صدقي بحيويته لقيادة المنظومة التنفيذية رئيسا للوزراء في يناير ١٩٧٢ وفي نفس اليوم عهِدَ إلى سيد مرعي (بحكمته التي تفوق حيويّته) بأن يقود التنظيم السياسي الذي هو الاتحاد الاشتراكي وذلك بالتوافق مع انتقال محمد عبد السلام الزيات المسئول عن الاتحاد الاشتراكي ليكون نائبا لرئيس الوزراء الدكتور عزيز صدقي ، وذلك قبل أكثر من عامين من قرار الرئيس السادات بأن يُعهَد إلى سيد مرعي في 1974 برئاسة مجلس الشعب خلفا لحافظ بدوي.
وبالطبع فإن خلافات الصديقين القديمين المهندس سيد مرعي والدكتور عزيز صدقي انتقلت بل انتعشت في موقعيهما الجديدين (رئيس الوزراء وأمين الاتحاد الاشتراكي العربي) ، وعلى وجه العموم فإنه يمكن لنا من خلال قراءة مذكرات المهندس سيد مرعي و رواياته أن ندرك أنه لم يكن مرتاحا أبدا إلي أن يسبقه الدكتور عزيز صدقي ، مع أنهما كانا صديقين منذ كانا لا يزالان وزيرين في أول الطريق تجمعهما نفس الظروف والهموم ، وحتي فوزهما بذلك العدد المحدود من اللجنة التنفيذية في انتخابات 1968، ولكن يبدو أن الفروع العالية من الشجر لا تتحمل ما تتحمله الفروع الدنيا منها ، ولهذا لا يبدأ الصراع بين الزملاء الأصدقاء إلا عندما يصلون إلى القمة.
خلافه مع الدكتور عبد العزيز حجازي وممدوح سالم
وخذ بعد هذا كلّه خلافا من نوع آخر تقليدي كان قد اختفى طيلة عصر ألوهية الرئيس عبد الناصر ، وهو الخلاف الكلاسيكي و الأزلي بين أي رئيس للوزراء وأي وزير للمالية أو الخزانة، وقد اندلع هذا الخلاف بين الدكتور عزيز صدقي والدكتور عبد العزيز حجازي على أقوى ما يكون وربّما أن هذا الخلاف كان سبباً لصعود أسهُم الدكتور عبد العزيز حجازي الذي لم يكن يجد دافعاً يدفعه إلى أن يُلفق لرئيس الوزراء ما يريده بل على العكس وجد ان على رئيس الوزراء أن يلتزم بأرقامه هو، وبالاعتمادات أو الموازنات التي سبق اعتمادها والموافقة عليها، وفيما يبدو فإن الدكتور عزيز صدقي لم يكن يعرف أن الرئيس عبد الناصر نفسه ، والرئيس السادات من بعده ، كانا قد وعد الدكتور عبد العزيز حجازي بهذا الالتزام حتى يُمكن له إدارة اقتصاد الأزمة بينما كان الدكتور عزيز صدقي يظّن أن من واجب وزير الخزانة أن يخضع لتوجُّهات رئيس الوزراء في إرضاء الجماهير هنا وهناك من اجل دعم الجبهة الداخلية.
وهكذا فإن الدكتور عبد العزيز حجازي لم يكن هو الآخر بمنأى عن تمييد الأرض تحت أقدام الدكتور عزيز صدقي، والمثل علي ذلك هو ما ذكره الأستاذ موسي صبري (نقلاً عن الدكتور عزيز صدقي فيما يبدو) فيما يتعلق بقضيايا من قبيل كادر الجامعة وكادر القضاء .
ولم يكن اللواء ممدوح سالم هو الآخر بمنأى عن أن يكون ضد الدكتور عزيز صدقي، وكان هذا واضحا علي الأقل في اعتقاد الدكتور عزيز صدقي الذي كان يروي أن أجهزة الأمن كانت تدس عليه أن يتطلع إلي رئاسة الجمهورية !
خلافاته مع وزيري الحربية والخارجية وجهده في العلاقات السوفييتية
و لانزال في الحديث عن خلافات الدكتور عزيز صدقي ومعاركه المتعددة ، فنجده وقد قادته خطواته أيضا إلى اختلافات حادة مع وزيري الحربية والخارجية الذي بدأ عهده في رئاسة الوزارة وهما في موقعيهما أقصد بهذا الفريق محمد أحمد صادق والدكتور محمد مراد غالب، و من الإنصاف أن نقول إن هذه الخلافات لم تكن شخصية ، وإنّما كانت مرتبطة بالموقف المصري من الاتحاد السوفييتي الذي كان الفريق صادق ينتقده بأكثر من الدكتور عزيز صدقي والذي كان الدكتور محمد مراد غالب يعجز عن تغييره بأكثر ممّا يستطيع عزيز صدقي.. وهكذا فإنه في سبتمبر 1972 واكتوبر 1972 على التوالي هدأت معارك الدكتور عزيز صدقي مع وزارتي الخارجية والدفاع حيث جاء إلى الوزارتين على التوالي رجلان يكبُرانه في السن ويفوقانه في الهدوء والحكمة والاستيعاب وهما الدكتور محمد حسن الزيات (المولود 1915) والمُشير أحمد إسماعيل (المولود 1917)
ومن الإنصاف أن نذكر أن جهد الدكتور عزيز صدقي في الصعيد الخارجي كان ناجحاً إلي حد معقول بحكم دأبه ، وقدظهر هذا بوضوح فيما يخص العلاقة مع الاتحاد السوفيتي ، وقد استطاع تحقيق كثير من المكاسب (المحدودة بالطبع) لبلاده ، وكان الرئيس أنور السادات قد جعله في محل النائب علي صبري في التعامل مع السوفييت، وكان السوفييت قد بدأوا تكوين أرضية جديدة من الثقة بهم في نهاية عهد وزارة الدكتور عزيز صدقي بفضل ما تصادف وجوده من ثقة متبادلة بين الزعيم أندروبوف الذي كان في ذلك الوقت مديراً للمخابرات وبين المشير أحمد إسماعيل (الذي كان مديراً للمخابرات قبل أن يصبح وزيرا للحربية و قائدا عاما ).
خلافه مع الأستاذ محمد حسنين هيكل
أما الخلاف غير المتوقع الذي تطوّر على نحو سريع فكان هو خلاف الدكتور عزيز صدقي مع الأستاذ محمد حسنين هيكل ، الذي لم يكن طيلة السبعينيات وما بعدها يرتاح إلي الدكتور عزيز صدقي بأية درجة ، ذلك أن الدكتور عزيز صدقي كان من الذكاء والحكمة والوطنية بحيث أدرك الخطورة الكائنة في أن تقتصر معرفة الشعب بمُجريات الأمن العسكرية والسياسية على مقال الأستاذ محمد حسنين هيكل الأسبوعي الذي كان قد وصل الأمر (المغلق) بفرضه على الجماهير فرضا ، حتى تقرر أن تتم قراءته في الإذاعة في مساء الجمعة (هكذا) وذلك كي يتعالم به بعض المسيسيين في الاتحاد الاشتراكي ممن لا يستطيعون القراءة ، بينما كان كل واحد منهم يُصور للناس على أنه من القادة السياسيين الناصريين ، وهنا كان قرار الدكتور عزيز صدقي وهو رئيس للوزراء قراراً شُجاعاً بوقف هذه البدعة ، ومنع إذاعة هذا المقال الأسبوعي ، والاكتفاء بأن ينشر المقال في الأهرام، مع التصريح للإدارات المختصة و المعروفة (وقتها) بأن تمارس الرقابة سلطتها عليه.
وكان هذا الموقف سببا جعل الأستاذ محمد حسنين هيكل (على حد ما يروي الكثيرون) لا يكف عن التآمر علي الدكتور عزيز صدقي طيلة أربعين عاماً، وقد كان من أكثر من عملوا على إنهاء عهده في رئاسة الوزارة، وظل يتآمر عليه في كل ميدان حتى تمكّن منه في النهاية بأسلوب مباغت تعجب منه الأقربون من الرجلين والأبعدون على حد سواء.
اندفاعاته إلى قرارات غير ناضجة مع قدرته على إشاعة الأمل
أذكر بكلّ وضوح ما وعتْهُ ذاكرتي الأولى حين قرّر الدكتور عزيز صدقي بدون دراسة مبدئية وافية ان يرفع بداية مرتبات المُعيّنين في تلك السنة التي كان فيها رئيسا للوزراء، ونظراً لحرصه على المجد ونسبة الفضل لنفسه فإنه ، فيما بدا وقتها بوضوح ، لم يُنسّق الامر مع وزرائه، ومن ثم أصبح مُرتب المُعين في 1972 مرشحا لأن يفوق يفوق من يسبقه بعام وعامين ممّن لم تشملهم زيادة الدكتور عزيز صدقي التي اختص بها [حسب قراره] المعينين في ذلك العام وحده. ومن العجيب والمدهش ان هذا الوضع الشاذ استمر على هذا النحو، وكان في رأيي بداية لتدهور الصورة المنضبطة لقُدرة الحكومة على العدل الاجتماعي، وقد تفاقم هذا الأمر بعد فترة قصيرة بما قرّرته الحكومة في قانون جديد لم يكن الدكتور عزيز صدقي هو أباه ولا من تبنّاه ولكنه كان المشجع عليه بأسلوبه ، وهو القانون ٨٣ لسنة ١٩٧٣ ، الذي وافق عليه مجلس الشعب ، والذي اعتبر مجموعة من الشهادات بمثابة شهادات عليا بينما لم تكن تعامل كذلك فيما مضى، ونتج عن تطبيق هذا القانون (على النحو الذي صدر به من مجلس الشعب وما استتبعه من تسويات بأثر رجعي) أن سبق هؤلاء الحاصلون على مؤهلات لم تكن تُحسبُ على انها مؤهلات عُليا أقرانهم الذين كانوا قد عُينوا بالفعل بمؤهلات عُليا وتدرّجوا تبعاً لهذا في وظائف الحكومة الأدبية (من ناحية) وفي درجاتها المالية (من ناحية أخرى).
وعلى الرغم من هذه الحالة القريبة إلى الفوضى منها إلى النظام ، فلا شكّ في أنّ الدكتور عزيز صدقي أعطى للجماهير أهم شيء كانت تحتاجه في ذلك الوقت، وهو “الأمل” في تغيير الأوضاع في أي لحظة على نحو يفوق الحلم، ومن المُؤكّد أن مثل هذه الخطوات غير المدروسة كانت تُمهّد للروح التي تمكّنت من تحقيق العبور و النصر الوحيد في 1973 على خلاف كل الحسابات.
أشاعوا أنه تصور نفسه بمثابة الزعيم ونستون تشرشل
ولم تقف معارك الدكتور عزيز صدقي عند هذا الحد، ذلك أنه أعلن أنه سيأخذ بتقليد تشرشل في الحرب العالمية الثانية حين كان وهو رئيس للوزراء يُوجّه حديثاً للشعب كل شهر، كان هذا القرار في ظاهره المبكر إلغاء لدور الدكتور عبد القادر حاتم نائب رئيس الوزراء المسئول عن الإعلام لكنه كان في باطنه غير المشهور إلغاء قاسيا لدور ما تبقى من الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي ، وهكذا فإنه عن طريق التقارير والدس استطاع هؤلاء أن يُوقّفوا أحاديث الدكتور عزيز صدقي (إلى جوار المدفأة) لأن تشرشل لم يكن رئيس وزراء موظفاً مثل الدكتور عزيز صدقي وإنما كان هو الرجل الأول مثل الرئيس السادات. أي أن الدكتور عزيز صدقي أخذ لنفسه وضع السادات ولا بد له أن يتوقف، ولم يكن إيقاف حديث الدكتور عزيز صدقي الشهري بحاجة إلى قرار من الرئيس السادات وإنما كان يكفي أن يصدر مثل هذا القرار حتى من مدير الإذاعة.
نهاية عهد وزارته
على هذا النحو حوصر الدكتور عزيز صدقي.
و هكذا كان الدكتور عزيز صدقي كما رأينا محل ضربات كثيرة من رجال الصف الأول، ولكن الذي لا شك فيه أن كل هذا لم يكن ليعني الرئيس أنور السادات بدرجة كبيرة ، لأنه كان يخطط بشرود ممتاز لحرب أكتوبر ، لكن الرئيس أنور السادات في الوقت ذاته لم يكن على استعداد لأن يتحمل تكلفة استمرار وجود الدكتور عزيز صدقي علي رأس الوزارة مع كل هذه الخلافات المتنامية الكفيلة بتشتيت الانتباه عن الالتفات العميق إلي الاهتمام بمجريات الأمور في العمليات الحربية !!
وهكذا نشأ ما وصفه البعض بأنه سوء حظ الدكتور عزيز صدقي مع الرئيس أنور السادات،مع أن الرئيس أنور السادات ظل يقدر عزيز صدقي، ومع أن الدكتور عزيز صدقي لم ينضم أبداً إلي جبهة معادية للسادات.
ومع هذا فإن مكانة الدكتور عزيز صدقي كانت بعيدة عن السلطان حتي إنه في تكوين مجلس الشوري مثلاً لم يحسب حسابه كرئيس وزراء سابق، كما أنه لم يكن يدعى إلى حضور الاحتفالات الوطنية التي كان يحضرها الرسميون السابقون ..
الوزراء الذين لم يعملوا إلا مع الدكتور عزيز صدقي
من أطرف الأمور أن ثمانية من الوزراء الذين اختارهم الدكتور عزيز صدقي سرعان تركوا الوزارة مع التشكيل التالي أي عند خروج الدكتور عزيز صدقي من رئاسة الوزارة وهؤلاء هم :
• الدكتور يحي الملا وزير الصناعة والبترول والثروة المعدنية
• الدكتور فؤاد مرسي وزير التموين والتجارة الداخلية
• الدكتور أحمد عفت وزير النقل البحري
• الدكتور مصطفي الجبلي وزير الزراعة واستصلاح الأراضي
• الدكتور زكي هاشم وزير السياحة
• عبد المنعم يونس عمارة وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء
• الدكتور شمس الدين الوكيل وزير التعليم العالي
• الدكتور حسن حميدة وزير النقل
أفضل حظوظه كانت مع الصحفيين الذين عملوا معه
كانت أفضل حظوظ الدكتور عزيز صدقي هي تلك التي كانت مع الصحفيين الذين عملوا معه ، فقد تولى الأستاذ صلاح منتصر الدعوة إلى تكريمه في عهد الرئيس حسني مبارك وتم هذا التكريم بالفعل ، كذلك فقد أشاد الأستاذ محمد الحيوان بدوره في رئاسة الوزارة في عنوان كتاب نشره بعنوان “فكرية تسقط الحكومة” مشيرا بهذا العنوان إلى القبول الشعبي الذي حققه الدكتور عزيز صدقي بأحاديثه إلى الشعب مما كان سبب في إقالته بسبب هذا القبول الذي لا تسمح به الشموليات العسكرية .
دوره فيما قبل ثورة يناير ٢٠١١
نقفز إلى السنوات القليلة التي سبقت ثورة يناير2011 حين كان بعض الوزراء السابقين وكبار الجامعيين قد اجتمعوا حول الدكتور عزيز صدقي لتكوين جبهة سياسية تقوم بدور ما في تحريك الحياة السياسية نحو المثاليات أو الآمال، وقد دعيتُ أكثر من مرة دعوات كريمة متفضلة بإبداء الثقة بي للقاء مع هؤلاء فكُنتُ أتعجّبُ من هذا التفكير الاستعادي أو الاسترجاعي لشخصية انتهى وجودها السياسي منذ مارس ١٩٧٣ (أي منذ أكثر من ثلاثين عاما) من دون أن ينشُر مُذكّراته أو دراساته أي أنّه كان لا يزال يُفضّل التريث والتربُّص ثم إذا هو بعد ثلاثين عاما يُبلْوِر هذا التريّث والتربُّص في تحفز محسوب بدلا من ان يبلوره في تذكر مطلوب .. وكنت أتعجبُّ ممّن هم في مقام أساتذتي كيف لهم أن ينضمّوا جميعاً تحت قيادة مثل هذه الشخصية بكلّ ما فيها من ذكاء ودهاء وطموح وجموح.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا