ربما تساءل كثيرون عن جدوى وجود مؤرخين ومفكرين في البرلمان، ولهؤلاء الحق في ظل ما عاشوه وما عايشوه من الجفاف المعرفي والفكري في ظل عهد ثورة يوليو 1952، لكن حقبة الليبرالية تدين بالفضل لكثير من أصحاب القلم والرؤية حتى على مستوي التشريع. وسوف نذكر مثلين بارزين يتصلان معا من حيث الموضوع وإن اختلف زمن مقاربتهما من خلال التشريع الناجز المحكم.
المثل الأول الذي أذكره كثيرا على سبيل المثال هو أن المؤرخ العظيم الأستاذ عبد الرحمن الرافعي كان يفخر كثيرا، وحق له أن يفخر بدوره في العناية بإسهامه التشريعي الذي أتمه في أثناء عضويته لمجلس الشيوخ، وهو من كان بلا جدال صاحب الاقتراح ومشروع قانون منع تملك الأجانب للأراضي الزراعية. يروي الأستاذ عبد الرحمن الرافعي الخطوات التي مر بها هذا المشروع منذ قدم هو نفسه مذكرة مشروعه في نهاية 1948 وحتي صدر في عهد وزارة الوفد الأخيرة، وسنقتطف من هذا الحديث فقرات تلقي الضوء على طبيعة هذا الإنجاز ومشاعر نواب الشعب تجاهه، وهو التشريع الذي لا يزال ساريا حتي يومنا هذا: “في 8 ديسمبر سنة 1948 قدمت إلى مجلس الشيوخ مشروع قانون بمنع تملك الأجانب للأراضي الزراعية والعقارات المبنية أو المعدة للبناء في المملكة المصرية، وكان غرضي من هذا المشروع صيانة الأملاك المصرية من أن تنتقل إلى الأجانب وحفظها للمصريين”.
عُرض هذا التقرير على المجلس بجلسة 24 يناير سنة 1949، فوافق عليه بالإجماع، وقرر إحالة المشروع إلى لجنة الموضوع وهي لجنة العدل، وقد بحثته هذه اللجنة بحثا مستفيضا، ووافقت عليه بعد إدخال تعديلات عليه أهمها: قصر حظر عدم تملك الأجانب على الأراضي الزراعية، دون العقارات المبنية أو المعدة للبناء، وحضر جلسات اللجنة مصطفي مرعي بك وزير الدولة في عهد وزارة إبراهيم عبد الهادي باشا وأعلن باسم الحكومة موافقته على المشروع بعد التعديلات سالفة الذكر، ودافع عنه دفاعا حارا شكرته عليه، وقال “إن مجلس الوزراء بحث المشروع وانتهي إلي قبوله والموافقة عليه”.
ويعطي الأستاذ عبد الرحمن الرافعي لزميله القانوني العظيم مصطفي مرعي، وقد كان كمثله من أقطاب الحزب الوطني الذي كان في ذلك الوقت أحد أحزاب الأقلية، حقه في الثناء على الدور الذي لعبه من أجل تهدئة خواطر السفارات الأجنبية تجاه المشروع: “وقد بذل مصطفي مرعي بك جهودا موفقة لدى سفارات بريطانيا وفرنسا واليونان لإقناعها بأن المشروع لا ينطوي على روح عدائية للأجانب بل يهدف إلى صيانة الثروة الزراعية، وأنه مشروع اجتماعي له نظائره في التشريعات الأوروبية والأمريكية، وقد اقتنعت السفارات بدفاعه”. وبعد إقرار المشروع في مجلس الشيوخ أحيل إلى مجلس النواب فأقره أيضا وصدر به القانون رقم 37 لسنة 1951 في 10 مارس من تلك السنة ونشر في “الوقائع المصرية” عدد 17 مارس سنة 1957.
المثل الثاني ألجأ فيه إلى تسجيل إشادة نائب سعدي هو الأستاذ محمد شوكت التوني بدور رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا في حماية الثروة العقارية وقد تناولت في كتابين من كتبي (هما كتابي: زعيم الأمة مصطفى النحاس باشا ومن قبله كتابي: عن إسماعيل صدقي باشا) دور هذين الرجلين وغيرهما من الزعماء في الحفاظ على ثروة مصر العقارية. ومن الحق أن أشير إلى أن المصريين جميعا كانوا يتصبرون على تجرع آثار طغيان إسماعيل صدقي باشا بسبب كثير من مواقفه الوطنية الذكية ومنها موقفه الواضح في الحفاظ على أرض وطنه من أن تمسسها إجراءات من أي نوع وبأي مبرر. ومن هذا القبيل فإن أعمالنا الأدبية وليس السياسية فحسب تؤكد على ذكر هذا الفضل لذلك الرجل. وقد رأيت أن من الخير أن أدلل على هذا المعنى بأية فقرة مستطردة تأتي في سياق كتابة عامة لأي سياسي من غير أنصار صدقي.
وهذه فقرة لنائب سعدي (شاب في ذلك الوقت)هو الأستاذ محمد شوكت التوني المحامي يجيد فيها عرض القصة بطريقة قريبة من المدارك العمومية: “في سنة 1931 كان يقوم على الحكم في مصر المرحوم إسماعيل صدقي (باشا)، وكان قد تولي الحكم بعد تعطيل دستور الأمة وإقالة وزارة الوفد، ثم ألغى الدستور عن غير الطريق الدستوري الشرعي، وأبدله دستورا آخر..”. وكان صدقي (باشا) ـ وله مساوئ ومحاسن كحاكم ـ وإن كنت قد حاربته طوال حياتي منذ اشتغلت بالسياسة والمحاماة إلى آخر عهده بالحكم، إلا أنني، وعلى بعد من زمانه، قد عثرت له على محاسن يجب أن تذكر له وتشكر، وهي حماية الثروة العقارية بإصدار قانون التسوية العقارية، بعد أن ثارت أزمة سنة 1930، وبيعت الأراضي الزراعية في أجود بقاع مصر بعشرات الجنيهات للفدان لواحد، واشتراها اليهود، وكادوا يستولون بهذه الطريقة على جميع الأراضي الزراعية، إذ اتضح أن جميع مالكي هذه الأراضي، كبارهم وصغارهم، كانوا مدينين، وديونهم تستغرق أضعاف ثمن ما يملكون من أراضي.
ويستطرد الإستاذ التوني إلى رواية ما كان يتوقعه ويخشاه: “ولا شك عندي أن اليهود كانوا يهدفون إلى جعل مصر الوطن القومي وأرض الميعاد عن طريق تملك الأرض الزراعية، كما فعلوا أخيرا في فاجعة فلسطين”، “غير أن موقف إسماعيل صدقي بإصدار قانون وقف البيوع الجبرية، وتسوية الديون العقارية، أنقذ ما بيع من الأراضي، وأوقف ما بقي منها في أيدي أصحابها، وحفظ على البلاد ثروتها العقارية الزراعية”.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا