أبدأ الحديث عن جلوب باشا بذكر حقيقة مهمة تتعلق بمولده وعمره، وهي أنه على عكس ما هو متصور من كبر سنه أو من قربه في السن للملك عبد الله الأول (1882-1951)، فإنه من مواليد 1897 أي أنه حين كان قائداً للجيوش العربية في حرب فلسطين كان قد تجاوز الخمسين بعام واحد فقط، وهكذا فإنه كان قريباً في السن من القادة العرب الذين اشتهروا بعد ذلك بسبب الانقلابات العسكرية (حسني الزعيم ١٨٩٧ وسامي الحناوي 1898 ومحمد نجيب 1901). ثم أدخل في الحديث عن القيمة التاريخية السلبية لهذا القائد العسكري التي تمثَّلت في مرحلتين مُهمّتين أبدأ بثانيهما وهي طرده أو إقالته من قيادة الجيش الأردني في مطلع مارس 1956، وقد كان صاحب هذا القرار هو الملك حسين الذي كان لا يزال ملكاً حديث العهد بالمُلك (وُلد 1935 ونُصِّب ملكا 1952) كما كان لهذا القرار صدى رهيب في الأوساط العربية حتى بدا وكأنه الحدث التالي في الأهمية لقيام ثورة 1952 في مصر، ولم يكن في هذا التصوير مبالغة، فقد دشّن الملك حسين بهذا القرار صورة متميزة من استقلال الأردن، في ذلك العصر الذي ارتفعت فيه نغمة الحديث عن الاستقلال الوطني، كما دشن الملك حسين بهذا القرار وجوده هو نفسه في الصف العربي وفي الصف الناصري، وقوّم به مُبكّراً أي توجه أرعن لاستيلاء العسكريين على السلطة من خلال ما سُمِّيً بحركة الضباط الأحرار في الأردن، تقليدا لموجة (أو صرعة) الانقلابات العسكرية التي أحاطت بالأردن، وكان متوقعا أن تلتهمه كما التهمت مصر وسوريا (ثم العراق فيما بعد عامين وتركيا بعد أربعة أعوام) فإذا بالملك الشاب يتعاون تماما مع حركة الضباط الأحرار حتى بدا وكأنه احتواها ووجهها.
وكانت هذه الحركة تنظيما سرياً تعاون معه الملك حسين في الخلاص من هذا القائد البريطاني، وكان قائد هذه الحركة هو اللواء الركن علي باشا أبو نوار (1924 ـ 1991) وهو الذي تولى رئاسة الأركان في 14 مايو 1956 أي بعد طرد جلوب باشا، وترقّى لهذا الغرض من رتبة مقدم إلى رتبة لواء (اقتداء بما حدث مع عبد الحكيم عامر، وإن كان عبد الحكيم عامر كان حين رُقي لا يزال في رتبة الصاغ) وبهذه الترقية المُبكرة إلى لواء في 1956 (وهو في الثانية والثلاثين من عمره) أصبح علي أبو نوار أصغر لواء في تاريخ الجيش الأردني (كان عبد الحكيم عامر في الرابعة والثلاثين حين مُنح رتبة اللواء). أما أول المواقف المهمة في تاريخ جلوب باشا فهو دوره في حرب 1948، وهو موقف معقد كما أنه متراكم الجزئيات، وسوف نتناوله بالتفصيل في مدونة تالية.
الجيش الأردني تحت قيادته قبل حرب 1948
بدأ جلوب باشا حياته العسكرية (منذ 1915) بالخدمة مع الجيش البريطاني في فرنسا وبلجيكا في أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم نقل إلى العراق كمهندس حربي، وفي العراق أصيب بالرصاصة التي خلّفت أثرها في حنكه
بدأ موقف جلوب باشا من حرب فلسطين والصراع مع العصابات الصهيونية ثم الكيان الصهيوني يتشكل في طريق الفشل منذ عجز (وهو العسكري البريطاني المُتميّز) عن أن يُقنع بريطانيا بالسماح لكتيبة واحدة من كتائب الجيش العربي الذي يقوده هو نفسه بأن تُساهم في الحرب العالمية الثانية المندلعة في أوروبا، أسوة بما كان اليهود قد حصلوا عليه من فرصة عسكرية بالاشتراك بالفيلق اليهودي في الحرب من خلال الجيش الثامن البريطاني. ومع هذا فإنه في أثناء هذه الحرب العالمية الثانية سارع جلوب باشا بتحريك الجيش العربي الأردني لخدمة الثورة المضادة في العراق ضد حركة بكر صدقي الانقلابية. وهكذا كان جلوب باشا من حيث يدري أو لا يدري يصنع القُدوة المُبكرة للجيوش العربية في اقتصار دورها على خدمة الثورة المضادة بسرعة وفعالية وذلك في مقابل التقصير في خدمة الوطن.
الوقوف مع ديجول ضد حكومة فيشي
ومع هذا التحجيم الدولي المقصود لهذا الجيش الوليد فإن هذا الجيش الأردني نفسه (كان يسمى بالجيش العربي) وبقيادة جلوب باشا نفسه أتاح لأفراده فرصة تدريب جيدة حين ساهم ببعض قواته مع قوات فرنسا الحرة (بقيادة ديجول) في مواجهة القوات الفرنسية التابعة لحكومة فيشي، وهو ما افتخر به الملك عبد الله حين تحدث في مذكراته عن الزمن الذي حصلت فيه المعارك (يونيو 1942). وبهذه المساهمة انضم جلوب باشا نظريا إلى القادة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية كما انضم إلى الأجانب المستعربين المؤثرين في العرب والمؤثرين بالعرب. كل هذا مهّد للثقة في جلوب باشا ليكون من بين قادة العرب في حرب فلسطين، بيد أنه في واقع الأمر سرعان ما ظهر وكأنه لم يكن على مستوى هذا الشرف ولا هذه المسئولية، وزاد على هذا أنه تنصّل من مسئولياته كقائد للجيش وصوّر نفسه موظفاً يأتمر بأمر الملك والحكومة، ويلتزم بخُطط الحكومة الحربية.
بدايته العسكرية قبل قيادته للجيش الأردني
بدأ جلوب باشا حياته العسكرية (منذ 1915) بالخدمة مع الجيش البريطاني في فرنسا وبلجيكا في أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم نقل إلى العراق كمهندس حربي، وفي العراق أصيب بالرصاصة التي خلّفت أثرها في حنكه، فأعطته لقبه المشهور أبو حنيك، واستطاع أن يتّصل بالقبائل العربية على نحو مُكثّف حتى إنه أصبح بمثابة أحد أهم المفاتيح المهمة للتوازنات القبلية في تلك المنطقة المُتصلة من جنوبها بجزيرة العرب، وبما عرف بعد ذلك على أنه المملكة العربية السعودية، وقد قطع الصحراء العربية من العراق إلى الأردن (1924) في رحلة على ظهر جمل، ولما كانت العراق والأردن تخضعان للحكم الهاشمي فقد كان من الطبيعي أن ينتقل جلوب من العراق ليكون قائداً للجيش الأردني خلفا لابن وطنه فردريك بيك (1886 ـ 1970) والذي كان قائداً للدرك (الشرطة) في الأردن مع قيادته للجيش الأردني، وفردريك بيك هو نفسه الذي ينسب إليه كتاب المشهور عن عشائر الأردن الذي ترجمه بهاء الدين طوقان. لم يكن الانتقال من خدمة الهاشميين في العراق إلى خدمة الهاشميين في الأردن أمرا غريبا، فقد حدث هذا مع جون فيلبي أيضا، بل إن الركابي رئيس وزراء الأردن المشهور كان قد تولى رئاسة الوزارة في سوريا في عهدها الملكي مع الملك فيصل الأول.
صداقته للملك عبد الله
كان جلوب باشا صديقاً للملك عبد الله، وكانت صداقته تستند إلى التوافق والموافقة بأكثر مما تستند إلى الحب، وكان قادراً على أن يعزف ألحان الوفاق والاتفاق والموافقة على منوال الملك عبد الله ومعتقداته وأحاسيسه، كان كالأذكياء الذين يخصصون معظم جهدهم في الاستيلاء على ثقة الرأس الكبيرة إلى أقصى مدى، ويشغلهم هذا عن العناية بالنفوس الأخرى، وتقلب الأوضاع، ونمو الوعي، وازدياد خبرة مرؤوسيهم. ظل جلوب باشا قائداً للجيش الأردني ما بين 1939 و1956 وكان وثيق الصلة بأسرة الملك عبد الله وحاشيته، بل حمل أبناؤه الجنسية الأردنية ودفنوا في عمان بل إن ابنه جودفري اعتنق الإسلام وعاش في مجتمعات عربية، وتوفي في الكويت في 2004. وروى الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي أن جلوب باشا لم يتخلف عن مصاحبة الملك عبد الله في زيارته للضفة الغربية والقدس إلا في زيارة الملك عبد الله الأخيرة التي قتل فيها على أبواب المسجد الأقصى، وكان السبب هو ذهابه وجميع الضباط الانجليز إلى حفل أقامه المستر جاليتي في مدينة أربد بمناسبة ترقيته إلى رتبة البريجادير.
هل ذابت شخصية جلوب باشا في المجتمع العربي؟
عُرف جلوب بالتزامه باللغة العربية في حديثه، كما عُرِف بالجدية الشديدة والدأب على العمل، وقد نجح في تكوين الجيش العربي الأردني من عناصر متعددة منها الشركس والشيشان والأرمن بل واليونان كما كان يضُم عدداً من العناصر العسكرية العربية المُضطهدة في بلادها بسبب آليات الاستقلال والصراع على السلطة. وقد توالت نجاحات جلوب باشا المؤسسية الحدودة في الأردن فإليه يرجع الفضل في إنشاء “قوات البادية” التي لم يكن ينضمُّ إليها أحد من غير البدو، وإلى جلوب باشا يرجع الفضل في الاستقرار الذي تحقّق في المنطقة الواقعة جنوبي الأردن وشمال الحجاز.
وصف الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي جلوب باشا بأنه عاش الأربعين سنة الأخيرة من حياته بشخصين وحياتين: العربي المستشرق المسلم البدوي من شروق الشمس وحتى غروبها والبريطاني المتعصب البروتستانتي الانجيلكي من غروب الشمس حتى شروقها، وروي أنه كان يعتزُّ بكتاب لورنس “أعمدة الحكمة السبعة” ويضعه على الدوام في سيارته. ووصفه أيضا بأنه أحب الصحراء العربية لا الحياة العربية وأن حبه كان للخيام لا للمدينة أو العربية، وقال إنه كان يجد في حبه للصحراء هروباً من الواقع لأنه كان يكره الواقع، ويكره الحقيقة، وقد بلغ من هذا الحب أنه أرجع السبب في نكبة فلسطين إلى أن العرب الذين يسيطرون على الأمة العربية كانوا من الحضر لا من البدو.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا