بدأت خطوات التمرد ضد جلوب والتي صادفت قبولاً ذكيا عند صاحب القرار الذي هو الملك حسين كما صادفت تطلُعاً مشرئبا إليها عند الناصريين والاتجاهات العروبية في الشارع العربي والإسلامي على حد سواء. وعلى حين كان جلوب باشا يظن بل يعتقد أن حُسن معاملته للبدو كافية له وكفيلة بأن ينال حب الأردنيين والعرب فإن واقع الأمر كان مختلفاً تماما عن تصوره، فلم يكن القبول الذي حظيَ به جلوب بين العشائر كفيلاً بقبول أوسع عند الفلسطينيين والعرب والأردنيين بعد كل مظاهر النكبة التي حاقت بالوطن الفلسطيني والعربي في 1948.
ومن الإنصاف أن نعترف بالدور الفاعل الذي لعبه اللواء علي أبو نوار حين أصبح ياوراً خاصاً للملك حسين بعد ما كان مُلحقاً عسكرياً للأردن في باريس، فقد استطاع هذا الضابط النابه أن يوثِّق للملك حسين (ومؤسسة الملكية الأردنية) العلاقة بضباطه، وهي العلاقات التي لا تزال تمثل أحد صمّامات الأمن في الوضع السياسي الأردني. ولما كان فخر البريطانيين بالمكانة التي وصل إليها جلوب في الجيش الأردني قد مثل فخراً غير معقول، من قبيل أن ينشروا مقالاً عن أنه ملك الأردن غير المُتوج فإن قرار الملك حسين بدا وكأنه ثورة ناجحة بكل المقاييس. وربما أننا في عصرنا الحالي لا نستطيع أن نقدر مدى الشجاعة في قرار الملك حسين لكن التاريخ يُحدثنا عن بعض ما يصور هذه الشجاعة بل المخاطرة، فقد حدث أن بعض الضباط الموالين لجلوب باشا حاولوا بالفعل أن يقوموا بثورة مضادة تعيد جلوب باشا إلى موقعه، لولا أن الملك حسين كان من القوة بحيث إنه خرج ليعلن بكل وضوح في الإذاعة بأنه هو المسؤول عن القرار، وأنه هو الذي أمر بطرد جلوب باشا، وأنه موافق على هذا التوجه.
ذكريات وزير الدفاع الذي ودعه عند إقالته
روى الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي حوارا له مع فلاح المدادحة وزير الدفاع الذي شهد إقالة جلوب باشا وطرده، وتولى توديعه في المطار وهو راحل إلى بريطانيا، ومن هذا الحوار نجتزئ بعض الفقرات الموحية بصورة الحقيقة: “…………. “ووصلت إلى مبنى القيادة، ومشيت صوب وزارة الدفاع الوطني حيث يقع مكتب السيد فلاح المدادحة، وزير الدفاع الأردني… قلت لوزير الدفاع الأردني: تكلم وحدثني عن جلوب… قال: أنا «فرحان».. أنا سعيد جداً.. لقد استعدنا معاني كرامتنا.
إن منصب وزير الدفاع في عهد جلوب لم يكن أكثر من.. طرطور! كان يفعل كل شيء ولا يترك لنا شيئا. كنا بوجوده مجرد أصفار. ولم نكن نستطيع أن نقف امامه أو نمارس سلطاتنا بوجوده، كنا نجهل كل ما يدور حولنا. كان يدفن أسراره في قلبه ولا يستشيرنا في شيء، وأنا لا أستثني من هذا الوصف أحداً. لقد تولى وزارة الدفاع أكثر من وزير، لقد شغل هذا المنصب في الماضي فوزي الملقي وأنور نسيبه وفرحان شبيلات وسليمان طوقان، ولكنهم كانوا، وأنا منهم، مجرد طراطير!.. أسرار الجيش كلها عند جلوب.. أسرار المال كلها عند جلوب.. الخطط والسياسة كلها عند جلوب.. أما نحن فكنا نكتفي بما يتفضل به علينا من معلومات!..
قلت: واليوم؟
قال وجسمه يقفز من مكتبه: اليوم.. يوم الحرية!
قلت: أريد أن أسمع رأيك.. أنت وزير الدفاع، في الجنرال جلوب!
قال: رأيي أنه خائن.. وقد قلت له هذا الرأي عام 1948 أمام الملك عبد الله وتوفيق أبو الهدى..
قلت: اريد أن اسمع القصة..
قال: كنت يومها وزيراً للدفاع في وزارة توفيق أبو الهدى. وكنا مجتمعين في القصر الملكي مع الملك عبد الله، وجلوب، لبحث موضوع الهدنة في حرب فلسطين، وبدأ جلوب يتكلم، قال لنا: إن مخابئ الأسلحة خالية من الذخيرة! قال لنا: أنه لا يستطيع أن يحارب لأكثر من مدة خمس ساعات! قال لنا: إن الجيش «تعبان» وأن علينا أن نقبل الهدنة. ثم نهض جلوب ورفع يده بالتحية العسكرية للملك عبد الله واتجه لينصرف.
نهضت أنا من مقعدي وقلت له: انتظر يا باشا.. أريد أن أقول لك شيئا!.. أريد أن أقول لك أنك … خائن! أنت خائن كبريطاني، وخائن كأردني! إنك لو صادقتنا وراعيت مصلحتنا لكنت خائنا لبلدك البريطاني، ولو أنك راعيت مصلحة بريطانيا لكنت خائنا لهذا البلد، أنت خائن على كلّ الوجوه، وانا بوصفي وزيراً مسؤولاً لا أصدق حرفا واحداً من كلامك!
– قلت له: وبماذا أجاب جلوب؟
– قال: اكتفى بالابتسام، بينما نهض الملك عبد الله من مقعده وأمرني بالسكوت!
– قلت: هل خطر ببالك أن تذكر جلوب بهذه القصة وأنت تحمله بسيارتك أمس من بيته إلى المطار لآخر مرة؟
– قال: أقول لك الحق، لقد أشفقت عليه، كان صامتا كصمت الأموات، ولم يتكلم، ولم يُعلق، وعندما أشرفنا على المطار مال ليقول لي:
– لا أدري سببا لهذه المفاجأة، ليس لي ذنب في كل الذي حصل!
– قلت له.. للجنرال جلوب
– لم تكن يا «باشا» سوى موظف.. والموظف دائماً عُرضة لمثل هذه ا لإجراءات..
كتاباته المناوئة للعهد الجديد في الأردن
غادر جلوب باشا عمان في 3 مارس 1956 عائداً إلى بلاده، وبعد بضعة شهور بدأ ينشر كتاباته المناوئة للعهد الجديد في الأردن، ويرى الأردنيون أن جلوب باشا لم يكن من الذين يكذبون لكنه كان يقتصر فيما يرويه على نصف الحقيقة فتكون النتيجة كتابة موجهة ضد الحقيقة، ويبدو لي أنه كان يصدر في هذا السلوك عن نفس العقلية التي قاد بها الجيش الأردني وهي عقلية الدهاء الميكافيلي الذي يجعل صاحب الأمر من أمثاله يلتزم بالأخلاق على حين يسمح بصعود غير الأخلاقيين. كسب جلوب باشا كراهية العرب جميعاً باستثناء بعض البدو الذين كانوا قد نشأوا على الإعجاب المحب بشخصية “المستعربة” لكنهم بالطبع سرعان ما تنازلوا عن هذا الإعجاب حين عرفوا أن سياسات جلوب باشا كانت جزءاً أصيلاً في الخيانات التي سببت نكبة فلسطين.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا