على عادة أهل القرآن الذين يُبسّطون معانيه للشباب بضرب أمثلة من الحياة العامة يمكن لنا القول بأن سعد زغلول باشا والهلباوي باشا كانا في وقت من الأوقات أبرز محاميين مصريين، ولد سعد زغلول 1859 وولد الهلباوي قبله بعام 1858، ومارسا المحاماة بحصيلة الثقافة العامة التي حصلاها، والعلم الذي تلقيّاه في الأزهر، ونجح مسعاهما في هذه المهنة، وكان النجاح يُعبّر عن نفسه بما يُعبّر عنه كلُّ نجاح مهني من إبراز النتائج، والاقتناع بالكفاءة، واستقطاب العملاء، والحفاظ على المكانة.
ثم افترق الطريقان فإذا سعد زغلول يسير في طريق غير ممهّد لكنه يقوده في النهاية إلى القضاء والوزارة والزعامة ورئاسة الوزارة والمجد وإذا الهلباوي يسير في الطريق الذي مهده لنفسه من قبل فيُصادفه سوء الحظ ذات مرة، وإذا هو يعيش أسيراً لسوء الحظ طيلة حياته.
بالطبع فإننا نقول إن سوء الحظ الذي صادف الهلباوي باشا كان يوم صادفه كان يبدو يومها، وكأنه حُسن حظ لكن سرعان ما تحوّل إلى لعنة، وليس إلى سوء حظ فقط، ذلك أنه في قضية من القضايا (هي القضية التي عُرفت فيما بعد بقضية دنشواي وصارت أهم قضية سياسية في تاريخ مصر وضميرها) كان النائب العام الذي سيتولّى الدعوى العمومية غائباً، وكان نظام العمل في القضاء المصري يُتيح أن تنتدب السلطة المُخصصة (وزير الحقائية على سبيل المثال) أحد المحامين ليقوم بمهمة الادعاء العام في القضية، وقد رأت السلطة يومها أن تعهد بهذه المهمة إلى أول المحامين أي إلى أكبرهم شأنا، وأولهم في كشف الأسبقية أو الأهمية أوالمهارة أوالكفاءة على حسب ما نقول .
وكان هذا المحامي هو إبراهيم الهلباوي الذي أخذته نفسه كالعادة فدفعته موهبته كعادة النوابغ إلى استعراض مهاراته، وكأنه نائب عام، فأخذ يتّهم مواطنيه المظلومين بأقصى التهم، ويُحرّضُ عليهم، ويحرص في تحريضه، شأنه شأن كل نائب عام طموح، على أن يحصل لهم على أقصى العقوبة، ويبذل جهده في هذا السبيل على نحو ما يبذله حين يُدافع عن متهم فيحرص على أن يحصُل له على أقصى ما يُمكن من البراءة.
وهكذا قدم الهلباوي خطاباً لا نقول إنه سيء، وإنما هو في الحقيقة خطاب إجرامي، إجرامي في حق نفسه، وفي حق المهنة، وفي حق المواطنين، حتى إنه استحق أن يوصف فيما بعد بجلاّد دنشواي نظراً لدوره المقيت والكريه والمستفز في هذه القضية! إذا أردت شعورا صادقا يتعاطف مع الانسان فعليك أن تتذكر التعبير الفلكلوري الجميل الذي يقول: ليت الأرض انشقت وبلعتني؟ هل تذكر التعبير العمري الورع الجميل الذي كان سيدنا عمر بن الخطاب يُردّدُه ويقول : ليت أم عمر لم تلد عمر؟
تُصوّر بعض أدبياتنا أن الباشا الهلباوي ندم على ما فعل وبدأ يُحاول أن يُصلح خطأه، لكنني لا أستطيع أن أُمرّر هذه الفكرة ببساطة، ذلك أن الباشا الهلباوي ظلَّ يُكابر مُتصوّراً أنه لم يخطئ ذلك الخطأ الفظيع، وإنما أخطأ التقدير فحسب، ودليلي على هذا من التاريخ نفسه ذلك أن الهلباوي حين اندلع الخلاف بين سعد ومخالفيه انحاز إلى مُخالفي سعد على الرغم من أنه كان عضواً في لجنة الوفد المركزية، لكن آثر أن يكون مع المُنشقين لا مع سعد، وهكذا أصبح من مُؤسسي حزب الأحرار الدستوريين مع أنه كان في حاجة إلى أن يثبت توبته بأن يغتسل في غمار شلال النهر الهادر لثورة 1919، بل وأن يكون من أقصى المتطرفين في تأييد حقوق الشعب على نحو يبتغي فيه أن يتفوق فيه على ما فعل سعد زغلول نفسه، لكن الباشا الهلباوي كان يعتزُّ بعقله أكثر مما كان يعتز بقلبه، أما سعد زغلول باشا فكان يعتز بقلبه أكثر، وإن أبدى للناس أنه يعتز بعقله في المقام الأول.
اختير إبراهيم الهلباوي عضوا في لجنة الثلاثين التي وضعت دستور ١٩٢٣، وتكاد الأدبيات التاريخية التي تناولت هذه الفترة تجمع على أن العناصر الفاعلة في لجنة وضع دستور 1923 كانت: إبراهيم الهلباوي، وعبد العزيز فهمي، وتوفيق دوس، وعبد الحميد بدوي.، هل أعود إلى العبارة التي بدأت بها فأقول إن الهلباوي كان كمن كُتب عليه الشقاء، وإن سعداً كان كمن كُتبت عليه السعادة؟ في واقع الأمر فإنني لا أستطيع هذا لكنني في الوقت نفسه لا أستطيع أن أمنع أحداً أن يقول بهذا كما أني لا أستطيع أن اقنع احداً آخر بغير هذا.
عاش الباشا الهلباوي 13 عاما بعد وفاة سعد زغلول فلم يستطع أن يُعيد تقييم موقفه على نحو يغفر له عنه العامة، ولا عند الخاصة، وإنما أصبحت صورته في ادق وصف لها صورة المخطئ الذي عرف الخطأ، فاعتذر عنه اعتذاراً غير كاف، وتاب عنه توبة غير كاملة، ولد الباشا الهلباوي في قرية من قرى كفر الزيات التي تتبع إقليم الغربية، ويُقال إن له أصولا مغربية، ودرس في الأزهر كسعد زغلول وإن لم يستكمل الدراسة أو يحصل على الشهادة، وحين تعدّى العشرين من عمره وقع عليه الاختيار مثل سعد زغلول ليكون مُحرّراً في الوقائع المصرية، وهي الصحيفة المصرية الوحيدة يومها، فلما حدثت الثورة العرابية كان من مؤيديها، وقد تعرض لفقدان الحرية، لكنه نال الإفراج لعدم كفاية الأدلة.
بدأ الباشا الهلباوي عمله في المحاماة في 1893 وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، ومكّنته مهاراته وكفاءاته أن يُصبح ذا خبرة كافية لأن يكون بمثابة ما نعرفه الآن على أنه المستشار القانوني للشركات والهيئات، وقد وصل به الأمر أن أصبح مستشاراً لديوان الأوقاف وللخاصة الخديوية مع ما هو معروف عن ملاءة المحفظة المالية لهاتين الجهتين.
وقع الباشا الهلباوي في سوء الحظ في 1906 في محاكمة دنشواي، ومن المصادفات أن محاكمة دنشواي كانت سبباً في حرص البريطانيين على تقديم أي أدلة لاسترضاء الرأي العام والشعب المصري، وكان من الخطوات المهمة في هذا السبيل أن يُعين وزير مصري من أبناء الشعب، وكان سعد زغلول (بك) في ذلك الوقت هو أصلح المصريين لهذه الوظيفة السياسية، فقد كان يشغل منصب المستشار في محكمة الاستئناف ويعمل بالقضاء منذ عشر سنوات، وهكذا اختير سعد زغلول وزيراً للمعارف في 1906 بعد حادث دنشواي وكان لا يزال برُتبة البكوية فكان أول وزير يُعيّن بالبكوية قبل أن ينال الباشوية.
لكن الباشا الهلباوي مع هذا ظلّ محل تقدير بين أهل مهنة المحاماة، فلما اتجهت النية إلى تأسيس نقابة للمحامين وكان عبد العزيز فهمي بك (باشا فيما بعد) أوفر المرشحين حظاً ليكون أول نقيب للمحامين أسر بعض المحامين إلى عبد العزيز فهمي أن الهلباوي باشا يُريد أن يستأثر بهذا الشرف، فوافقهم عبد العزيز فهمي، وقدّم الهلباوي على نفسه ليكون أول نقيب للمحامين في مصر ثم خلفه في هذا الشرف.
وإذا جاز لنا أن نشير على القارئ بما يجعله يستبين الأمر فإننا نقارن بين موقف الهلباوي من سعد زغلول باشا والحركة الوطنية وموقف رجل آخر من رجال الحركة الوطنية، لزم الجماعة الوطنية، وترك الكبر والغرور، نعني بهذا محمد سعيد باشا (المولود ١٨٦٣) والذي كان سببا في خروج سعد زغلول من الوزارة في 1912 (وعاد لتولي رئاسة إحدى الوزارات الإدارية في 1919) لكنه مع ما بدا من نجاح ثورة 1919 ومشروعية تمثيل الوفد لرغبات الأمة انضم تماماً إلى سعد زغلول بل إنه ” سار في ركابه” على حد تعبير المؤرخ عبد الرحمن الرافعي بل وقبل أن يكون وزيراً في وزارة سعد زغلول (1924) على الرغم من أن سعد نفسه كان وزيراً في وزارته (1910 ـ 1912) مع أنه كان قد وصل إلى الوزارة قبله.
أما الباشا الهلباوي فقد أمضى بقية حياته وطنياً مفارقاً للأغلبية مع أنه كان في وسعه أن يتنازل عن غلوانه، كتب الهلباوي مذكرات جيدة الصياغة، حسنة المعاني وقد نشرها مركز تاريخ مصر الحديث والمعاصر، في الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتناولناها في موضع آخر.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا