ذات صباح سألني، بطريقة غير مباشرة، من كان صاحب القرار في تشكيل وزارة مصرية عن رأيي في مرشح مشتاق لوزارة التربية والتعليم فقلت له من فوري: إنه لا يصلح لأنه كافر عميق الكفر بالمجانية!!، لم يتمالك من ألقى السؤال علىّ نفسه من الضحك على التعبير؛ وقال إنه سوف يذكر لي ما تنامى إلى علمه مما كان يدور في أوساط المشتغلين بالعمل العام من أن آراء هذا الطبيب الذي سأل عنه هي تقليد معلب من آراء وأفكار نشرتها أنا في الصحف قبل أن تراوده الرغبة في أن يصبح صورة لامعة من خبير تربوي ؛ وبالتالي فإنه يراني (في ذلك اليوم )مشاركا في المسئولية عن كفر الرجل ! أو عن صلاحيته.
قلت: الصحيح أنني مسئول عن كفره، فقد تقاعست عن تسفيه آرائه في الوقت المناسب وكانت النتيجة أن انتشرت هذه الآراء ومثيلاتها من ثرثرات الصالونات النسائية، وتفاقم الأمر حتى أصبح هناك تيار كبير في الرأي العام المصري لا يمانع في قبول فكرة إلغاء المجانية.
قال الرجل وهو يستفزني: أليست المجانية وسيلة، وأليس من الممكن التعويل على وسائل أخرى تؤدي وظيفتها؟
قلت: بل المجانية غاية، ووظيفة الساسة الكبار والصغار هي أن يبحثوا عن الوسيلة تلو الوسيلة ليحققوها ويزيدوها فعالية!
قال: وترشيدا!!
قلت: لا ترشيد في المجانية.
لم يكن الوقت في مثل تلك اللحظة يسمح بأكثر من هذه المناقشة؛ وإن كنت قد أوضحت لهذا المسئول السائل بعض الحقائق بعد أسابيع، وأصبحت بسبب ذلك (على ما أعتقد) مفروضا غير مرفوض أمري (أو غير مسموح برفض رأيي) على القرار التربوي، سمعت بعد هذا من كبار رجال السياسة واحدا تلو آخر أنهم لا يعرفون ما الذي أوقف مراكب ذلك المشتاق في ذلك اليوم! وإجابتي: سواء سئلت أم لم أسأل: إن الامور تجري بمقادير، وإن الله لايضيع عباده المساكين فقد تكفل بهم!!، هذا هو جوهر رأيي في المجانية أبنته في القصة التي انتهيت من سردها، قد كتبت فصولا موجزة فيه في كتابي الممنوع حتى الآن من النشر والذي يحمل عنوان: دفاعا عن المجانية، لكني في هذا المقام أجد من حق الذين يحبون التلخيص (بعيدا عن أسلوبي السرد والدراما كليهما) أن أقدم لهم رأيي في نقاط دالة، وهأنذا أفعل:
– المجانية أولا (وأخيرا) غاية لابد أن تدرك.
– وهي ثانيا مقياس الإيمان بالشعب وبالإنسانية.
–هي ثالثا الحد الفاصل بين الاستقلال والتقدم (معا) والتبعية والتخلف (حتما).
– هي رابعا ميدان المفاضلة (بالضاد) بين السياسيين المتأنسين والمتوحشين.
– وهي خامسا حد المفاصلة (بالصاد) بين الوطنيين واليوجينيين.
– وهي سادسا أدق ترمومتر للعناية بحقوق الإنسان.
– وهي سابعا أدق مؤشر لتطبيق تعاليم الإسلام (والأديان بصفة عامة).
– وهي ثامنا الدليل الحي على القبول بالديموقراطية والعمل من أجلها.
– وهي تاسعا المؤشر الحساس لاستشراف مستقبل النظام السياسي والاجتماعي لأية دولة.
– وهي عاشرا أفضل معايير قياس القوة الاقتصادية والتنموية في أي مجتمع.
مجانية التعليم هي الوظيفة التي لا يمكن للدولة أن تتخلى عنها
ولا وجود الأزهر وماأوقفه عليه أجدادنا من الأوقاف المتعددة التي جعلوا دخولها وريعها تتكفل بالمعاهد والمساجد ما عرف المصريون نور العلم
أعود وأقول ما أكرره في كثير من تعليقاتي على المتحدثين في الجلسات السياسية والعامة، وهو أنه إذا لم يكن للدولة من وظيفة إلا وظيفة واحدة فستكون هذه الوظيفة هي التعليم “العمومي المجاني الجيد”، أي التعليم موصوفا بثلاث صفات لا تقل أي منها أهمية عن الصفتين الأخريين. وهي وظيفة تفوق في أهميتها أهمية الأمن وأهمية الدفاع وأهمية السياسة نفسها والاقتصاد بالطبع.
ومع ما قد يبدو في هذه المقولة من تحيز واضح للتعليم وللعلم، فإنها حافلة بالتحيز للحقيقة الجوهرية في حياتنا، وهي أن التعليم الجيد وحده هو الكفيل بتحقيق مستويات أعلى وآمن وأضمن في الدفاع والأمن والاقتصاد والسياسة.. وفي المقابل فإن الأمن أو الدفاع لا يستطيع العكس أي لا يستطيع أيهما أو كلاهما تحقيق أي مستوى متقدم في التعليم ولا في غيره من قيم السياسة وأهداف المجتمع، فالدفاع نفسه لا يضمن الأمن وكذلك الأمن نفسه لا يضمن الدفاع تلقائياً.. وإنما هما يشعران بالقلق الدائب لاالدائم فحسب….. وهكذا. أما التعليم الجيد والمجاني والعمومي، فهو وحده الكفيل بتحقيق هذه المستويات المتقدمة في كل هذه الميادين.
قصة أول مجانية في ظل الاحتلال
أخيرا، فقد كان التعليم في ظل الحكم الانجليزي لمصر (أي منذ 1882) لا يعرف المجانية ولولا وجود الأزهر وماأوقفه عليه أجدادنا من الأوقاف المتعددة التي جعلوا دخولها وريعها تتكفل بالمعاهد والمساجد ما عرف المصريون نور العلم.
وحدث أن سعد زغلول باشا، لما أصبح وزيرا للمعارف 1906-1910 بدأ سلسلة زيارات ميدانية للمدارس في الأقاليم، وفي سنة 1908 زار أسيوط ضمن ما زار، وفي أحد الكتاتيب ، لمح أحد التلامذة متميزا بالنجابة في كل صورها، رغم سوء حال الكتاب، وسأل عنه شيخ الكتاب، ولما علم سعد زغلول أن والد هذا الفتى النجيب لن يستطيع أن يعلمه في المدارس الابتدائية لرقة حاله، منحه مجانية في المدارس الحكومية، وكانت هذه أول مجانية تمنح، وقد كسرت بها قاعدة تعميم المصروفات علي كل مَنْ يتعلم، وهو ما كانت قد فرضته سياسة الاستعمار السائدة في ذلك الوقت. هذا هو رائد علوم التربية والتعليم في مصر أو هو جون ديوي مصر الأستاذ إسماعيل القباني، ومن الطريف أيضا أن سعد باشا في زيارته لكتّاب آخر قرر منح مجانية مشابهة لتلميذ نجيب آخر، إلا أن والده آثر لابنه المجانية الأصيلة التي أتاحها الأجداد بأوقافهم على الأزهر الشريف، كان هذا التلميذ هو شيخ الأزهرعبد الرحمن تاج الذي واصل تعليمه حتى أعلى شهادات الأزهر الشريف وجامعة السربون بفضل المجانية التي مولتها أوقاف أجدادنا.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا