الرئيسية / المكتبة الصحفية / أخطر أمراضنا هو تطور دلالة مصطلح المجانية

أخطر أمراضنا هو تطور دلالة مصطلح المجانية

انتعشت في مجتمعنا المعاصر ظاهرة ملحوظة تستدعي الأسف لكنها أصبحت بمثابة حقيقة تاريخية في مصر المعاصرة وهي أن الفهم الدلالي لكلمة “المجانية” أو “مجانية التعليم” في وصف “التعليم” قد تطور لتصبح الكلمة مرادفاً للسوء والإهمال وعدم الإثمار، حتى إن الشباب الآن إذا أخطأ في شيء أو إذا جهل شيئا استسهل أن يقول لك إنه من خريجي التعليم المجاني. ويكثر استعمال هذا العذر الواهي حتى من غير خريجي التعليم المجاني لأن اللفظ أصبح مصطلحا دالا في المقام الأول على التعليم السيء فحسب. ومن الإنصاف الحزين والمؤسف أن نعترف أن الرأي العام في مصر أصبح يستحيل عليه أن يتصور (مجرد التصور) أن بالإمكان أن تعود الدولة إلى تقديم تعليم مجاني قادر على أن يستوعب أبناءها ويقدم لهم فرصة الارتقاء الطبيعي بشخصياتهم من خلال الورقة والقلم والمدرسة والكرة والرحلة والجوالة والكشافة. لكنني في مقابل هذا أوقن أن هذا ممكن جدا، وأن هذا هو الواجب الأول على كل مسلم كما أنه هو الفرض الأول من فروض الوطنية.

يرتبط بهذه الظاهرة ما أصبح بمثابة أمر متفق عليه اضطرارا، وهو ما يظنه بعض المتأملين في التطور الاجتماعي، عن عذر أو عن حق، من أن التعليم المجاني الجيد هو شيء من رابع المستحيلات وجوداً وأملاً، بينما يشهد العصر الحاضر أن هناك أمما كاملة لا تزال تقدمه وتستمع بثماره وتعيش لذته، وأن هناك أمما كاملة أخرى نجحت بسرعة من خلال خططها التنموية في أن تقدمه وتستمع بثماره وتعيش لذته. لكن مواطنينا على ما هو شائع في مناقشاتهم الطريفة قد تعودوا أن يجيبوك بإحدى إجابتين: أين نحن منهم؟ إن ما يصلح (أو يمكن) هناك لا يصلح (ولا يمكن) هنا.

التعليم المجاني الجيد هو الحل
من البديهي أن الوعي العام الآن يجعلك تدرك حقيقة مثل هذا الموقف ولا تنخدع بما يفعله مثل هذا الموظف هروباً من مشكلة كان يمكن له حلها في لحظة لو كان تلقي التعليم الجيد

أكرر القول بأنني مع كل هذا الواقع الأليم المؤلم، بل بسببه وفي مواجهته، فإني لا أزال أعتقد أن التعليم المجاني الجيد هو (وهو وحده) الحل الوحيد لكل مشكلاتنا:
– فلا يمكن لنا أن نتصور أنفسنا على أي طريق من طريق الديمقراطية بينما تعليمنا نفسه يحارب ديمقراطية التعليم، ويحارب الديمقراطية في التعليم، بل إن تعليمنا القائم الآن قد تحول إلى أن أصبح هو نفسه الميدان الأول الذي يصور الطبقية في أبشع صورها. ومن العجيب أنني بدأت الآن أسمع من أساتذتي ثناء على استشرافي لهذه الحقيقة مع أنها كانت واضحة في إرهاصاتها.
– ولا يمكن لنا أن نتصور أن أي سلاح سيكون مفيدا في يد من أنكر التعليم أو من تنكر له التعليم.
– ولا يمكن لنا نتصور الأداء الفني والتقني والصناعي والتنموي وهو يعاني من ضغوط الأمية الثقافية والهجائية.
– ولا يمكن أن نتصور أي قدرة على استيعاب وسائط التواصل مع العالم من حولنا بينما نحن عاجزون عن أن نحقق المستوى التعليمي المطلوب للتعامل مع الدنيا وما أصبحت تموج به من هذه الوسائط.

نموذج تطبيقي لتعبير فكرة الجودة عن نفسها
ربما يكون من الأفضل أن أتوقف لأصور لك مثلاً بسيطاً جداً لحضور التعليم الجيد ولغيابه: فأطلب إليك أن تذهب بمشكلة ما إلى من هم جالسون أمام شاشات الكمبيوتر في أي مكان وأطلب منهم لها حلاً؟
– صاحب التعليم الجيد سيبدأ حواراً مع الجهاز الذي أمامه حتى يصل إلى حل المشكلة الجديدة التي طرأت عليه.
– أما الذي لا يمتلك التعليم الجيد (أو لا يتمتع به) فسيبدأ معك سلسلة من الاجتهادات المجهضة والمجحفة ليصور لك فكرة أن سؤالك ينقصه جزئية كاشفة أو أن جهازه بإمكاناته لا يتعامل مع هذه المشكلة.

وفي ضغوط العمل وبيئته فإن الذي لا يمتلك التعليم الجيد سيسلك وهو معذور مسلكاً من أربعة مسالك أو أربع مقاربات:
– سيقوم بنفسه (أو سيتصل بالهاتف) إلى من يعتقد أنه أكثر منه خبرة ليعرف منه طريقة لحل المشكلة.
– سيرمي الكرة في ملعبك لتحصل له على معلومة أو شهادة أو إفادة، هو يفعل ذلك قتلاً لوقتك، أو كسباً لوقته هو حتى يكون قد فهم الجزئية أو أزاحها من أمامه.
– سيسألك عن هدفك من حل هذه المشكلة (أو الحصول على هذه المعلومة) ليبحث لك عن طريق آخر يلجأ إلى أن يقترحه عليك في محاولة منه أن يحل المشكلة بعيداً عن قدرته هو على توظيف الجهاز أو الحاسوب لحلها.
– سيصطنع معك مشكلة أو معضلة تجعلك تشعر بأنك تطلب شيئاً سيجلب لك الخطر أو المخاطر أو المشكلات ومن ثم فإنك سوف تهرب سريعاً، ويهرب معك طلبك، وعلى سبيل المثال فإنك إذا كنت تريد السؤال عن رحلات الطيران للسفر إلى بلد معين في الأيام القادمة، فسيقول لك إن هذه الدولة بالذات تحتاج موافقتين أمنيتين قبل السفر إليها ولابد أن تترك له الجواز! حتى يمكنه مخاطبة الجهات المسؤولة عن إصدار مثل هذه الموافقات.

ما هي الخطوة التالية للوعي العام؟
ومن البديهي أن الوعي العام الآن يجعلك تدرك حقيقة مثل هذا الموقف ولا تنخدع بما يفعله مثل هذا الموظف هروباً من مشكلة كان يمكن له حلها في لحظة لو كان تلقي التعليم الجيد. لكن واقع الأمر والنظر إلى الوضع العام والناتج القومي والأداء يجعلك تجد نفسك أقرب للبكاء على حال الوطن. ولك أن تنقل هذه الصورة بحذافيرها أو تتخيلها في وصف أداء طبيب أقل إجادة، أو مهندس أقل اتقانا، أو مصرفي أبطأ إنجازا، فتتصور الإهدار الذي يُبتلي به اقتصادنا نتيجة لشيء واحد فقط هو غياب التعليم المجاني الجيد.

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com