نبدأ بالقول بأن الإمبراطور هيلاسيلاسي عاش ثلاثاً وثمانين سنة وشهراً ١٨٩٢- ١٩٧٥ أي ما يقرُب من ألف شهر بالتمام ، و نثني بالقول بأنه ولد في نفس اليوم الذي كانت مصر تحتفل فيه بعيد ثورة 23 يوليو 1952 ، وقد تصادف أن بلغ الستين من عمره الطويل يوم قيام ثورة ١٩٥٢ ، ثم عاش مع الثورة 23 عاماً متصلة ، ولا نقف بالقبول عند هذا الحد وإنما نُشير إلى مفارقة مهمة وهي أنه ظلّ جاراً لصيقاً لمصر حتى مطلع عام 1956 حين اعلن استقلال السودان عن مصر وتقلّص نفوذ حاكم مصر إلى مساحة شمال وادي النيل وحده، فانقطعت جيرة مصر للإمبراطور هيلاسيلاسي ، واقتصرت أو وقفت على حدود السودان ، ولم يكن هيلاسيلاسي وحده في هذا الوضع وإنما شاركته وتشاركت مع إثيوبيا في انقطاع الاتصال الأرضي مع مصر ستة بلاد إفريقية أخرى هي أوغندا وكينيا والكونجو الديموقراطية وتشاد وإفريقيا الوسطى وإريتريا ، وهي مأساة مؤسفة ومحزنة إلى أبعد حد ، ولا يتذكَّرُها أي مصري مخلص لوطنه إلا بعيون دامعة ، حين يتأمل تاريخ أي دولة من هذه الدول الإفريقية السبع التي كانت جيرانا للملك فاروق وللرئيس محمد نجيب والحكام السابقين عليهم وجاءت تطورات تداول السلطة فيما بين قادة ثورة يوليو فلم تُصبح هذه الدول السبع جيرانا للرئيس جمال عبد الناصر.
لم يكن من العائلة الإمبراطورية و إنما متآمرا عليها
في حقيقة الأمر التي ربما يدهش لها القراء دهشة واسعة المدى عميقة المصدر فإن الإمبراطور هيلاسيلاسي لم يكن سليل عائلة ملكية ولا إمبراطوريه، ولا أسرة حاكمة لإثيوبيا وإنما تمّ تصويره على هذا النحو في الأدبيات العربية والناصرية عن جهل شديد وعن استسهال أو ما يسمى في اللغة الدارجة بالاستقراب التلفيقي وذلك على نحو ما كانت كثير من فصول التاريخ تُكتَب في عهد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ، وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فمن الطريف أيضا أن الشاه محمد رضا بهلوي لم يكن من أسرة حاكمة ولم يحكم قبله من أسرته إلا والده هو فقط، ومع هذا فقد كانت الأدبيات التاريخية المصرية تستسهل بل تستيغ ترديد القول بأنه وريث عرش الطاووس الذي يمتد إلى سبعة آلاف سنة، وكذلك كانت مصر الرسمية تفعل مع الإمبراطور هيلاسيلاسي بقدر من المجاملة المفتعلة والمتناقضة في ذات الوقت مع ما عرف عن مصر من الدعوة الملحة إلى إحلال الجمهورية محل الملكية أو الرجعية على حد التعبير الناصري المفضل .
وعلى أيه حال فإن الإمبراطور هيلاسيلاسي كان ابناً لحاكم (عمدة ) مدينة حبشية إسلامية شهيرة هي هرر، وقد كان والده حاكم هذه المدينة لفترة من الزمن ، ثم أصبح هذا الوالد وزيراً لخارجية الإمبراطور منليك الثاني.
كان الإمبراطور منيليك الثاني (1844 ـ 1913) أهم أباطرة الحبشة في العصر الحديث فهو مؤسس مدينة أديس أبابا (الزهرة الجديدة) و قد نجح في أن يُحقّق دولة ذات حدود وذلك بالاتفاق مع إيطاليا التي كانت تستعمر الصومال، ولأنه كان ذا عزيمة فقد عقد معاهدة مع الإيطاليين 1889 لكنهم لم يلتزموا بها في ظل مطامعهم في شرق إفريقيا التي كانت تتصور تكوين إمبراطورية إيطالية جديدة من الصومال و إثيوبيا و أرتيريا معا ، وقد ألغى الإمبراطور منيليك الثاني المعاهدة 1893 مع إيطاليا بعد اعتداءاتها المُتكررة على أرض الحبشة ثم حارب الإيطاليين وانتصر عليهم في 1898 مُسجلا أول نصر إقليمي للحبشة على الإيطاليين.
كان الإمبراطور منيليك الثاني انشائياً من الطراز الأول و كما ذكرنا فإنه هو الذي أنشأ العاصمة أديس أبابا ، كما أنه هو من أنشأ خط السكة الحديدية بين أديس أبابا وجيبوتي فضلاً عن كثير من المرافق المدنية الحديثة، وكان شبيهاً إلى حد ما بمُعاصره الخديو عباس حلمي الثاني الذي حكم مصر ما بين 1892 و 1914 بينما حكم هو إثيوبيا فيما بين ١٨٨٩و١٩١٣.
قصة الامبراطور المسلم حفيد و وريث الامبراطور منليك
زوّج الإمبراطور منيليك الثاني ابنته من محمد علي أمير إمارة الحبشة المسلمة ليُحقّق بهذا الزواج توافقاً مسيحيا إسلامياً في الحبشة، أنجبت هذه الابنة وريثاً لعرش الجد منليك هو ليج أياسو الذي جمع في شخصيته بين الإسلام والمسيحية، لكنه كان فيما يبدو أصبح مع مضي الوقت أميل إلى جوهر الإسلام وذلك بسبب ما لقيه من تآمر الغرب عليه، وقد حكم في الفترة ما بين 1913 ـ 1916 ( وهي الفترة التي شطبتها مراجع غربية من تاريخ إثيوبيا ) ونقل عاصمة حكمه إلى مدينة هرر الإسلامية ، وتعاون مع الزعيم الصومالي محمد عبد الله حسن الذي كان من أشد مقاومي الإنجليز، ومع أن هذا الإمبراطور ليج أياسو ورث الحكم عن جده الذي يعُده الغربيون من السلالة السليمانية فإن الدول الغربية شنت حرباً عليه واضطرته وهو صاحب العرش الرسمي والوريث الحقيقي إلى أن يهرب من الحبشة إلى أريتريا وفي 1921 تمكنت هذه القوى من خلال العميل الذي سمي بعد ذلك إمبراطوراً وهو هيلاسيلاسي نفسه من القبض عليه وسجنه ثم قتله قبل مطلع الثلاثينات.
في عدد من الروايات الضعيفة تضطرب صورة انتماء الإمبراطوملنيك نفسه ، فبعض هذه الروايات تبالغ فتقول إن الإمبراطور منليك لم يكن إثيوبي الأصل لكنه ينتمي إلى أذربيجان إيران ، وإن والدته الكنداكة ميكادا زنجية من القرم كانت ظروف السياسة قد منحتها مدينة نفادة في مصر، وبهذا فإن الكنداكة في هذه الروايات مصرية نفادية، ومن الطريف أن في مصر عائلات تنتسب باللقب إلى نفادة، فتُسمّى بالنفادي ، و من المنتميات إلى هذه العائلات على سبيل المثال السيدة سلفيا النفادي التي عملت رئيسة لتحرير مجلة البيت التي صدرت عن الأهرام في عهد الأستاذ إبراهيم نافع .
كيف استولى الإمبراطور هيلاسيلاسي على الحكم
كان اسم الإمبراطور هيلاسيلاسي حين وُلد : تفري مكونن، وظل هذا اسمه حتى بدأ مرحلة الوظائف العليا وأصبح أميراً فأصبح يُنادى بالراس تفري أي الأمير تفري ذلك أن الراس في اللغة الأمهرية تعني الأمير وفي الصحف المصرية الصادرة في العقود الثلاثة الأولى من هذا القرن نجد الإشارة إليه باسم الراس تفري، وأحيانا ما يتصوره القارئ المثقف باسم الرأس تافري ، بإضافة الهمزة من باب تعظيم اللقب وإعطائه مسحة من اللغة العربية في التعبير عن سلطة حاكمة أو الانتماء إليها.
بدأ الراس تفري استيلائه على حكم إثيوبيا بعد أن تمكّن كما ذكرنا من خيانة امبراطور الحبشة المسلم ليج أياسو الذي هو الوريث الشرعي وحفيد الامبراطور منليك ، وهي خيانة مكنت من سرقة العرش بتواطؤ غربي ، وهي ، كما وصفناها من قبل ، صفحة سوداء من الصفحات التي تُخفيها الأدبيات الغربية، ومن تم تُخفيها الأدبيات المصرية الناقلة عن الغرب.
وفيما يبدو فقد كانت للراس تافري نفسه أصول إسلامية من ناحية والدته ، مما ساعده على أن يخدع مسلمي الحبشة و ينال ثقتهم قبل أن ينقلب عليهم وعلى إمبراطورهم ويتولى الحكم بمعاونة الغربيين من الفرنسيين والبريطانيين الذين كانوا حريصين أيضا على مناوئة إيطاليا ، و عدم تمكينها من الانفراد على المدى الطويل بالقرن الإفريقي .
وفي 1928 تمكّن الإمبراطور هيلاسيلاسي وكان لا يزال على اسمه القديم من إعلان نفسه ملكاً ، وفي 1930 تمكّن من تنصيب نفسه إمبراطوراً باسم الإمبراطور هيلاسيلاسي و فيما بعد أضفى على اسمه لقب “الأسد القاهر من سبط يهوذا المختار من الله ملك إثيوبيا” ، وأقام احتفالات دُعيت إليها مصر ومثّل مصر فيها حافظ حسن باشا و صليب سامي باشا على نحو ما روينا في كتابنا “على مشارف الثورة”.
اقتداؤه بالملكية المصرية في عهد صدقي باشا
بدأ الإمبراطور هيلاسيلاسي حكمه لأثيوبيا بوضع دستور في 1931 وكان مقتديا إلى حد كبير بالوجه الأوتوقراطي لا الديموقراطي من نظام الملكية في مصر، وقد وضع هذا الدستور عقب وضع دستور إسماعيل صدقي باشا ١٩٣٠ المفرط في الأوتوقراطية ، وأخذ الإمبراطور هيلاسيلاسي ينتهج ما نعرفه اختصارا على أنه نهج الحكومات المصرية الإدارية في التعامل مع المجتمعات الغربية ذات الأطماع القديمة و المُتجدّدة في إفريقيا.
وقد نجح في أول حياته فيما بعد الحرب العالمية الأولى في أن يحوز تأييد فرنسا له ليكون رجلها في الحبشة،و أن يقرن هذا بعدم ممانعة المانيا ، ومن ثم فإنه بدأ يستكمل مظاهر الدولة والعلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى ، وفيما بعد ذلك اعتمد على بريطانيا و الولايات المتحدة الأمريكية اللتين أجادتا توظيفه في سياستهما الإمبريالية من دون أن يجني لبلاده فائدة مقابلة اللهم إلا اطمئنانه على كرسيه الوثير .
الإمبراطور هيلاسيلاسي فقد عرشه مرتين وعاد إليه
ومن الطريف أن هذا الإمبراطور هيلاسيلاسي الصناعي العصامي فقد عرشه مرتين كما سنرى، وعاد إليه في هاتين المرتين ، وذلك بالطبع قبل أن يفقده في المرة ألخيرة بلا عودة :
كانت المرة الأولى قبل الحرب العالمية الثانية حين تمكنت إيطاليا في عهد الزعيم موسوليني رئيس الوزراء من ضم بلاد الحبشة تحت تاج الملك الإيطالي فيكتور عمانويل ، وهرب الإمبراطور هيلاسيلاسي وبقي هارباً حتى أعاده الإنجليز إلى عرشه في 194١
أما المرة الثانية فكانت في ١٣ديسمبر 1960 حيث قامت ثورة أرتيرية معارضة تبعتها ثورة إثيوبية، بينما كان الامبراطور يقوم بزيارة إلى جنوب أمريكا ، وقد استمرت الثورة (التي تمكنت من خلعه) أربعة أيام فقط عاد بعدها إلى الحكم بفضل تأييد القوى الغربية ، ونحن نعرف أن هذا التعبير المهذب كان يُستخدم للتعبير عن الإنجازات السرية القوية المرتبطة بالتجاوزات المعهودة للمخابرات الأمريكية.
دور الإمبراطور هيلاسيلاسي في الحرب الإيطالية الحبشية
نعود إلى تفصيل القول في بدايات صعود أسهم الإمبراطور هيلاسيلاسي في السياسة الإقليمية .
ظلّت الأوضاع هادئة في بلاد الحبشة حتى 1935 حين افتعل الزعيم الإيطالي موسوليني الذي كان يُسيطر على الصومال نزاعاً حدودياً مع الحبشة ومن ثمَّ بدأ في مهاجمة الحبشة، وشن حملة عسكرية ضد الأحباش ، وهنا تجلّت مهارة الإمبراطور هيلاسيلاسي السياسية وقُدرته على دخول التاريخ إذ أنه رفض الانصياع للقوة، وقاد مقاومة شعبية مسلّحة رغم عدم تكافؤ القوة مع الإيطاليين، وقد رأى أن يهرب بنفسه إلى السودان ( أي إلى مصر التي عادة ما ينكر دورها ) ومنها إلى بريطانيا.
وفي بعض المصادر أنه بدأ بالهرب إلى الصومال الفرنسي، ثم ذهب إلى القدس، ومنها إلى جبل طارق وبعدها وصل إلى إنجلترا عن طريق عبارة بريطانية.
ومن لندن بدأ كفاحه الدولي، وتمكّن هذا الإمبراطور هيلاسيلاسي الشاب رغم ضعف إمكاناته من ان يحصُل على قرار من عُصبة الأمم (وهي الهيئة الدولية التي كانت موجودة قبل نشأة الأمم المتحدة) يُؤيد حقه وحق بلاده وينُصُّ بالعبارة الصريحة على أن إيطاليا دولة مُعتدية، بل فرضت هذه العُصبة عقوبات صريحة على إيطاليا في مارس 1936، لكن الإيطاليين قابلوا هذا القرار بمزيد من الاعتداء حتى إنهم أعلنوا ضم الحبشة إلى مُمتلكاتهم في مايو 1936 بل أعلنوا أن الملك الإيطالي فيكتور عمانويل الثالث هو امبراطور الحبشة.
في المقابل فإن الرجل الذي تنبأ للإمبراطور هيلاسيلاسي بالمجد وهو الناشط ماركوس جارفي فرّ من الحبشة بعد غزو إيطاليا لها واصفا هيلاسيلاسي بـ “الجبان” وانتهز الفرصة فانتقد ممارسات “العبودية” في عهده حيث كانت لا تزال سائدة حتى ذلك الوقت و لم يتم إلغاؤها إلا عام 1942.
وفي مقابل هذا التعنت الإيطالي لم تجد عصبة الأمم حرجاً في أن تتراجع عن موقفها المناهض لإيطاليا، وكان هذا التراجع صورة مُبكّرة وحاسمة من صور سقوط عصبة الأمم التي سرعان ما فقدت وجودها في ظل وجود رغبة أمريكية دءوبة ومُستترة في إنشاء هيئة أخرى بديلة.. ومن العجيب أن عصبة الأمم لم تجد رجلاً رشيداً يمنعها من أن تُصدر في منتصف 1937 قرارها المُخزي برفع العقوبات عن نظام موسوليني، وكان الأمر في هذا شبيهاً إلى حد كبير بموقف الأمم المتحدة الآن من أزمات سوريا واليمن وغيرهما في ظل الطغيان الإقليمي.
أصبح للحبشة حاكم عسكري إيطالي هو المارشال جراتسباني، وكان نموذجاً للعسكري الفظ المُتعجرف الذي قتل كثيرا من المواطنين المقاومين للاحتلال ، وهدم بعض الكنائس ، وأعدم بعض رجال الدين ، ومارس أبشع سمات الحكم العسكري، وكاد الأمر يستمرفي تصاعد لولا هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية.
عودة الإمبراطور هيلاسيلاسي وتتويج الانتصار واحتلال إثيوبيا لأرتيريا
و مع هزيمة إيطاليا ، تمكّن الإمبراطور هيلاسيلاسي الذي كان يعيش في الخارج من أن يعود إلى وطنه ليقود مقاومة جديدة ضد عدو أصبح ضعيفاً وغير مرهوب الجانب، وهكذا أصبح الإمبراطور هيلاسيلاسي صورة إلى حدِ ما من الزعيم الفرنسي ديجول ومن الزعماء الآخرين الذين هزمتهم دول المحور، وأنصفتهم نتيجة الحرب العالمية الثانية المُتمثلة في انتصار الحلفاء.
وعلى نحو ما يقتدي المظلومون بالظالمين فإن الإمبراطور هيلاسيلاسي رأى أن يفعل في أريتريا ما فعلته إيطاليا في بلاده، وهكذا سارع في البداية بإعلان اتحاد بين بلاده وبين أريتريا في 1952، لكنه سرعان ما استغل الظروف المواتية التي لم يقدرها غيره ، وكان في مقدمة هذه الظروف بل كان أهم هذه الظروف ما اعترى جاره الأقوي الذي هو مصر من تطورات جديدة أدت إلى انكفاء هذا الجار الجبارعلى نفسه بعد ثورة يوليو 1952 وهو ما انتهى بالفعل بعد فترة قصيرة من تمكن الرئيس عبد الناصر( و إزاحة الرئيس محمد نجيب) بإعلان انفصال السودان عن مصر تحت مسمى الاستقلال .
وفي حقيقة الأمر فإنه منذ استولى الجيش على مقدرات الأمور في مصر ، وجد الإمبراطور هيلاسيلاسي الظروف مواتية له للخروج إلى الساحل الشرقي لإفريقيا ، ليكون كتلك الدولة الكبيرة المؤثرة والقائمة في مصر والسودان ، بدلا من وضعه كدولة داخلية لا سواحل لها ، و كان قد أعلن في ١٩٥٢عن الاتحاد مع أريتريا مع حفظ حقوقها في الاستقلال والحكم الذاتي ، و أن يكون لها برلمان خاص بها ، لكنه سرعان ما نفذ خطته الخبيثة ، بمشورة ودعم غربيين ، و أعلن عن ضم أريتريا إلى اثيوبيا تحت حكمه هو.
أمريكا رتبت الأمور لتفقد مصر السودان على حين تتضخم إيثوبيا بضم أرتيريا
وظفت حكومات الغرب زعامة الرئيس المصري جمال عبد الناصر بأفقه المحدود وخوفه من الإسلام في تكميم ثورات المسلمين في أرتيريا لصالح الإمبراطور هيلاسيلاسي كما فعلت ذلك في زنجبار لصالح القس جوليوس نيريري وفي قبرص لصالح مكاريوس وفي السنغال لصالح الرئيس سنجور .
ومن الجدير بالذكر أن المخابرات البريطانية كانت قد قدمت أقصى قدر ممكن من الخدمات المخلصة للإمبراطور هيلاسيلاسي في هذه المغامرة الاستعمارية المحسوبة من خلال عملها الدؤوب على إثارة النعرات الدينية والقبلية في ارتيريا .
حدث هذا في نفس الوقت الذي كانت مصر تتخلى فيه عن السودان، وتتخلى بالتالي عن جيرتها المباشرة وحدودها المباشرة مع كل من أرتيريا و إثيوبيا ، بل إنها تخلت أيضا عما كانت تملكه من تراث عميق وناعم يقضي كان يقضي بتبعية الكنيسة الاثيوبية (الروحية والفعلية) للكنيسة المصرية ، ومن ثم تنشأ على يدي الإمبراطور هيلاسيلاسي في اثيوبيا كنيسة باسم جديد/قديم يُغازل عقيدة المسلمين في هدوء ، و يناكفهم كما يناكف الكنيسة المصرية في هدوء أيضاً، وكان هذا الاسم هو كنيسة التوحيد الارثوذوكسية الإثيوبية.
وفي هدوء شديد وبخُططِ مُتدرّجة نجح الإمبراطور هيلاسيلاسي في ان يفصل الكنيسة الحبشية عن الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية ، ومع أن الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية لم توافق على هذا فإن أحداً لا يعرف أنها لم توافق ، ذلك أن الرئيس عبد الناصر ، فيما يبدو بوضوح من تطورات الأحداث ، وافق على هذا الفصل من دون أن يهتم برأي الكنيسة المصرية أو يفكر في السؤال عنه ، وهكذا تدخلت السياسة في الدين دون أن يستطيع رجال الدين أن يقولوا شيئاً، وأصبحت هناك كنيسة أثيوبية تعترف بنفسها، ولا تعترف بتبعيتها لكنيسة الإسكندرية (المصرية) بينما لا تعترف الكنيسة المصرية الأرثوذوكسية (كنيسة الإسكندرية) بانفصال كنيسة الحبشة عنها حتى الآن.
و هكذا كانت قيادة ثورة يوليو ١٩٥٢ تنفذ تخطيطا أمريكيا مستترا (لا تدري قيادتها حدوده ولا جذوره ) وكان لهذا التخطيط نتيجة جوهرية قاتلة جعلت الدولة المصرية في عصر الحسابات الغائبة تفقد أكثر بكثير من ضعف مساحتها الباقية في الوقت الذي تضاف فيه دولة كاملة إلى إثيوبيا باسم الاتحاد الذي سرعان ما يتحول بتواطؤ دولي إلى ضم بل واستعمار كامل .
علاقة الإمبراطور هيلاسيلاسي المعقدة مع الرئيس جمال عبد الناصر
كانت علاقة الإمبراطور هيلاسيلاسي بالنظام الناصري في مصر معقدة إلى أبعد حدود التعقيد الظاهر والباطن ، ولا تزال هذه العلاقة بحاجة إلى فهم مسرحي يتعقب طبقاتها بالمسح و الاستقصاء والإضاءة . فمن الطريف الذي لم تذكره كتُب التاريخ حتى الآن أنه تصادف في بداية عهد ثورة 1952 أن جرت حركة ديبلوماسية (أي تنقُّلات وتعيينات في سفراء مصر في الخارج) فكان من مُقتضيات هذه الحركة الدبلوماسية أن عُيّن السفير إسكندر إبراهيم الوهابي ليكون سفيراً لمصر في بلاد أثيوبيا، وكان اسم السفير كما يرى القارئ من الأسماء التي لا تدل للوهلة الأولى على أن صاحبها مسيحي، لكنه كان مسيحياً، وكان هذا السفير صديقاً حميماً لأستاذ أساتذتنا الدكتور محمد عبد الوهاب مورو أستاذ الجراحة وعميد كلية الطب ورئيس جامعة القاهرة، ومن هنا عرفتُ اسمه وقصته، فلما ذهب السفير لتسلّم عمله في اثيوبيا ، وعرف الإمبراطور هيلاسيلاسي بديانة السفير توجه لزيارته في سفارة مصر تكريماً له، فانزعج الرئيس جمال عبد الناصر من هذا السلوك ونقل السفير إسكندر الوهابي من أثيوبيا على الفور.
ومن الطريف أيضا أنه على عادة النظام المصري وعبقريته في تصوير كل هزيمة على أنها نصر ، فقد فعل الرئيس عبد الناصر شيئاً من هذا القبيل في الموضوع الكنسي الذي خذل فيه كنيسته الوطنية، ذلك أنه عندما حان موعد افتتاح الكنيسة الكبرى المُسمى بالكاتدرائية المرقسية في أرض الأنبا رويس بالعباسية والتي أقيمت على نفقة الدولة المصرية ، قرّر الرئيس عبد الناصر دعوة الإمبراطور هيلاسيلاسي لحضور هذا الإفتتاح الذي تم في يونيو ١٩٦٨ ، وهكذا ظهر الإمبراطور هيلاسيلاسي في الإفتتاح إلى جوار الرئيس المصري وكأنه في الوضع الطبيعي الذي يتصوره أتباع الكنيسة المصرية كواحد من رعاياها، بينما كان هذا الظهور نفسه ، في حقيقة الأمر ، و بالمعايير القانونية والبروتوكولية، بمثابة اعتراف مصري رسمي باستقلال الكنيسة الإثيوبية ، وبسلطان الإمبراطور هيلاسيلاسي وكنيسته حتى إنه تلقى الدعوة وحضر الإحتفال باعتباره ضيفاً لا تابعاً وباعتباره رأس دولة ذات كنيسة، وقد جلس كما أتاح له البروتوكول الرسمي إلى جوار رئيس الجمهورية رأساً برأس بما يعني أن كنيسته أصبحت برأس الكنيسة المصرية التي لم تعترف حتى ذلك الحين بانفصالها!!
ظلت علاقة الإمبراطور هيلاسيلاسي بالرئيسين عبد الناصر والسادات في الإطار المحترم لعلاقة الشخصيات الكبيرة التي تبدو محتفظة برونق صاف أو رونق يخلو على الأقل من أية خلافات ظاهرة ، وكان هذا طبيعيا وسهلا بحكم فارق السن فقد كان الإمبراطور هيلاسيلاسي يكبرهما بأكثر من ربع قرن ، و من الجدير بالذكر أن الإمبراطور هيلاسيلاسي كان قد قام بزيارة رسمية إلى مصر في ١٩٦٣ تلقى فيها تكريما رفيعا ، وقد زار بيت الرئيس جمال عبد الناصر و صافح أولاده و جذب الذكورمنهم فقبلهم ، وقد بلغ تكريم مصر له أن كان رئيس بعثة الشرف المرافقة له هو السيد زكريا محيي الدين نائب رئيس الجمهورية .
يذكر أيضا أن الإمبراطور هيلاسيلاسي كان من الزعماء الذين منحوا قلادة النيل العظمى .
النجاح المصري في استمالته لإبعاده عن الانضمام إلى دعم إسرائيل بفعالية
لا يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تزداد الصورة تعقيداً إذا علمنا أن الإمبراطور هيلاسيلاسي كان إمبراطورا و رئيساً لدولة تضم يهوداً من الذين يُخطّط الكيان الصهيوني لنقلهم إلى أرض فلسطين لتقوية وجود الكيان الصهيوني، وهكذا كانت علاقات مصر بأثيوبيا (على المستوى الفني) تتحسّبُ لأي قرار أثيوبي وتبعاته فيما يتعلّق بالمكونات الديموجرافية للكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وقد اقتضى هذا مجاملات لا حصر لها للإمبراطور ليأخذ (من باب المجاملة) مكانا بروتوكوليا على حساب المد الناصري المقبول إفريقيا، واعتمدت الناصرية في احتواء الإمبراطور هيلاسيلاسي على جهود الرئيس الغيني الذكي أحمد سيكوتوري، وتنازلت مصر ومعها الدول العربية والإسلامية للإمبراطور عن مكانة دولة المقر لمنظمة الوحدة الإفريقية، وكان الإمبراطور هيلاسيلاسي في غاية السعادة بهذا الطراز من المجاملة، ومن الإنصاف أن نقول إن تلك المرحلة جنّبت العرب المحاربين لإسرائيل قدراً كبيراً من خيانات محتملة كان من الوارد حدوثها من قبل بعض سلطات إثيوبيا .
ووصل الأمر في هذا الصدد أيضا إلى أن الرئيس أنور السادات استقبل الإمبراطور هيلاسيلاسي استقبالا تاريخياً في مصر في مايو 1973 في إطار سياسة تعبئة الرأي العام العالمي ضد استمرار وتعسف و ممارسات الاحتلال الإسرائيلي.
سياسته الإفريقية بدأت نشطة بالتعاون مع سيكوتوري
في عصر الحرب الباردة حاول الإمبراطورهيلاسيلاسي أن يبدأ سياسة إفريقية نشطة، بعد أن وجد نفسه مضطرا بذكاء إلى الانضمام إلى ماسمي بحركة عدم الانحياز ، وهكذا وثّق علاقاته المظهرية بعدد من زعماء إفريقيا، ولجأ إلى التقارب مع الزعيم الغيني أحمد سيكوتوري .
شارك لإمبراطورهيلاسيلاسيفي عدد من المؤتمرات الإفريقية التي أخذت تدعو إلى الوحدة والتعاون بين أقطار إفريقيا كمؤتمر مونروفيا في ليبيريا عام 1961 ولاجوس عام 1962 والذي انبثق عنه مشروع منظمة إفريقيا، ثم شارك في مباحثات و مفاوضات تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية التي تجلّت صورتها في مؤتمر انعقد في أديس أبابا عاصمة إثيوبيا في مايو 1962 بحضور وفود ثلاثين دولة إفريقية، وقد تجلّى ذكاء الإمبراطور هيلاسيلاسي وقُدرته على الإقناع والحسم والحث على العمل الجاد في خطابه الافتتاحي لهذا المؤتمر التاريخي ، وقد وصلت به البلاغة إلى القول بأنه يتمنّى أن يعيش هذا الإتحاد ألف عام .
وفي خطابه الافتتاحي قال الامبراطور الإثيوبي أيضا : “لا يمكن أن ينفض هذا المؤتمر دون تبني ميثاق إفريقي موحد، ولا يمكن أن نغادر القاعة من دون إنشاء منظمة إفريقية واحدة… فإذا ما أخفقنا فسوف نكون قد تخلينا عن مسؤولياتنا تجاه إفريقيا وشعوبها، أما إذا نجحنا فهنا وهنا فقط سوف نكون قد بررنا وجودنا”.
و بناء على هذا الحماس المدروس تمَّ تكليف الحكومة الإثيوبية بأن تكون هي مقر التصديقات على ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية، وأن تكون مسئولة عن تسجيل ذلك الميثاق في الأمم المتحدة، كما اختيرت العاصمة الإثيوبية(كما أشرنا ) لتكون مقراً للمنظمة التي عاشت فترة طويلة بنفس الاسم حتى تغيّر اسمها إلى الإتحاد الإفريقي في 2002.
و من الطريف أن الإمبراطور هيلاسيلاسي في فترة عنفوانه نجح في أن يكون الوسيط المقبول من الجزائر والمغرب في حرب الرمال ١٩٦٣ عن طريق اتفاقات رعاها هو، وهي اتفاقات باماكو الشهيرة ، ولم ينل الرئيس جمال عبد الناصر شرف رعايتها لأنه كان للأسف الشديد قد تورّط في الوقوف العسكري ضد المغرب.
لكن الإمبراطور هيلاسيلاسي كان ، مع مضي الزمن و بحكم سنه و ملله من ممارسات العسكريين ، قد بدأ يتباعد عن الوجود الإفريقي النشط ، ولم تكن ثقته في الناصرية ولا ما تبقى منها و لا ما تجدد بعدها ، كفيلة بالبناء من أجل أي تحالف استراتيجي ، وهو أمر مؤسف على كل حال .
سنوات حكمه : استقرار بلا تنمية
على الرغم من الاستقرار الظاهري الذي عاشته إثيوبيا في ظل حكم الإمبراطور هيلاسيلاسي فإن ارتفاع مستوى الدخل في دول العالم من حولها وبعيداً عنها جعلها تبدو واقفة عند حدود القرون الوسطى ، كما دفع بحكوماتها المحدودة الحركة والأفق إلى الانشغال بممارسة الفساد عن توجيه الجهود نحو التنمية الحقيقية.
قلنا إن الإمبراطور هيلاسيلاسي تعرض لانقلاب عسكري في 13 ديسمبر 1960، وقد عبّر هذا الانقلاب عن معارضة أرتيرية و معارضة اثيوبية مؤيدة لها لكن المخابرات الأمريكية و القوى الدولية مكّنت الإمبراطور هيلاسيلاسي الذي كان يتجول في أمريكا الجنوبية من أن يعود إلى بلاده وعرشه بسرعة ، و من دون أي تكريس لأيّ نجاح انقلابي رغم ما كان معروفاً عن رغبة الغرب في نشر الانقلابات العسكرية متى توافر لها من يدينون بالتبعية الروحية للغرب و الإمبريالية أو يتعشقون الماركسية ومعسكرها الشرقي .
وفي غياب الإصلاحات الهندسية والمالية تعرضت إثيوبيا للجفاف والمجاعة في مطلع السبعينيات في الوقت الذي كانت الشيوعية الدولية ترى في القرن الإفريقي مساحة كفيلة بأن تنشر فيها و منها المد الشيوعي استناداً إلى رغبة سوفييتية في التواجد النشط في هذه المنطقة الحساسة وبالموازاة لتواجد متحقق على الشاطئ الآخر في اليمن الجنوبية من خلال الانقلاب الماركسي الذي تمكن من حكم اليمن الجنوبية بالحديد والنار بعد أن تكرست آثار و معقبات هزيمة مصر في 1967 وتراجع دورها العربي و الإقليمي.
ديكتاتور من النوع المتوسط
بطريقة مُجملة نستطيع أن نقول إن الإمبراطور هيلاسيلاسي كان فيما يصفه الغربيون من دون تشخيص صريح : ديكتاتوراً نمطيا تقليديا من النوع المتوسط، أو فوق المتوسط ، فهو لم يسرف في الطغيان إلا على المسلمين الذين كانوا قد وثقوا به عن حسن نية ، وإن كان قد أسرف في إحكام القبض على زمام الأمور بطريقة خانقة للتطور الطبيعي، وقد صادفه سوء الحظ حين حدثت المجاعات في سنته الأخيرة في الوقت الذي كان يحتفل به احتفالات باذخة بذكريات إمبراطورية مظهرية، ويبدو أنه لم يكن واعيا بالقدر الكافي بتطورات العقليات السياسية الشعبية لأبناء إثيوبيا وشبابهم، ولهذا فإنه مع كبر سنه لم يبادر إلى فهم طلبات الثورة التي بدأت في آخر أيامه، بل إنه أسهم بقرارته الخاطئة والسلبية في تفاقم المجاعة التي حصدت أرواح ما يقرب من مليون إثيوبي في بعض التقديرات ، أو ما لا يقل عن مائتي ألف إثيوبي في أكثر الإحصاءات تخفيفا من الكارثة التي تسبب فيها ، ويبدو أنه لم يكن له حليف قوي وفاعل ودارس يستند إليه في شيخوخته على نحو ما كان له في شبابه حين تحالف مع بريطانيا.
وفي كل الأحوال فأن سياساته التي طالت فترتها في مجاورة لصيقة لحكم العسكر ، قد ساعدت على أن يظل الوضع السياسي في اثيوبيا مفتقداً إلى الاستقرار الحضاري طالما ظلت مصر أوالسودان أو كلتاهما تحت حكم عسكري بأية صورة من الصور ، وذلك على الرغم من توهينه الهادئ والمستمر لعلاقة بلاده بمصر والسودان لكن الجغرافيا حاكمة ، وكذلك الاقتصاد ، وقد صار الأمر في غاية الوضوح وبخاصة مع الارتفاع الحاضر في قيمة إثيوبيا ، حتى إنه ليمكن القول الآن بأن مستقبل إثيوبيا يعتمد أساسا على مستقبل الديموقراطية في مصر والسودان ، وعلى الرغم من أن اثيوبيا خطت خطوات رائعة في الديموقراطية وحقوق الإنسان فإن عدوى الانقلابات العسكرية في القاهرة والخرطوم قد تؤثر عليها بأكثر من كل جهد سياسي صادق نحو تبنّي الديموقراطية، فلا يزال تراث العبث المصري ـ السوداني القديم قادراً على أن يُجدّد محاولاته الشريرة لقلقلة الوضع في بلاد الجيران الأفارقة، وذلك أن العسكر منذ 1952 وحدوا جهودهم لقلقلة افريقيا من حولهم لا لتنميتها، ولعسكرتها لا لتحضُّرها، ولتعاون مخابراتها وليس لتضافر علمها.
كان يجيد صناعة الصورة
كان الإمبراطور هيلاسيلاسي يتمتع بقدرات مظهرية عالية فكان يظهر في جلسته الرسمية مُحاطاً بأسدين وكأنه روّضهما، وواقع الأمر أنه كان دجّنهما أيضا فنزع أنيابهما ، وأثقل حركتهما، وكان قادراً على صك كثير من التعبيرات البلاغية والخطابية ومنها قوله إن عظامه سوف تحكم بلاده من تحت الأرض.
نجح في تقديم نفسه للغرب على أنه عدو للإسلام
من إحقاق الحق أن نقول بلا مواربة إن الإمبراطور هيلاسيلاسي قدم نفسه للغرب باعتباره عدوا للإسلام قادراً على استئصال وجوده ونفوذه في الحبشة، وكان هذا ممّا يُسعدُ المتطرفين في الغرب لكن هذا التوجه لم يكن يُجبرالغربيين على تمويل مثل هؤلاء الحكام بسخاء ، وبخاصة أن مصادر التمويل المتاحة في عصرنا الراهن من الإمارات وغيرها لم تكن مُتاحة في ذلك العصر بمثل ما هي متاحة به الآن من السفه المطلق .
ومجمل القول في الإمبراطور هيلاسيلاسي وعلاقته بالأديان أنه كان عدواً ظاهراً ومُستتراً للإسلام كما كان عدواً ظاهراً ومُستتراً للمسلمين ، ومع أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يتفوق عليه في عداوة الإسلام والمسلمين من أجل الكرسي ، فآن الكرسي نفسه ستر عداوة الرئيس عبد الناصر للإسلام ، لكن هيلاسيلاسي لم يتمكن من أن يستتر بكرسي مشابه ، ومن ثم فإنه آذى نفسه ووحدة وطنه بهذه العداوة، كما أنه ظل تابعاً مطيعاً للغرب من غير أن يُفيد شيئاً جديدا من هذه التبعية في عصر الحرب الباردة التي حضرها أو خاضها كمراقب بلا قيمة ولا إسهام ، وهكذا فإن علاقته بإفريقيا على سبيل المثال سرعان ماتحولت إلى علاقة مظهرية و لم تتعد موقفين اثنين أو ثلاثة نجح فيهما وكان من الواجب عليه أن يواصل النجاح فيما نجح فيه، لكنه كان كعادة أمثاله من أسلافه ميّالاً إلى الاستنامة وراحة البال دون أن يحسب حساب التطور الطبيعي أو يُدرك أبعاده.
كيف أصبح بمثابة المهدي المنتظر الإفريقي الأسود
من العجيب أن الحظ المواتي كان قد أسعف هذا الإمبراطور هيلاسيلاسي بنبوءة أطلقها رجل دين أسود في أمريكا بأن حاكما أسود سيظهر في إفريقيا وسيكون هو مخلص العالم، وهكذا تقمّص الإمبراطور هيلاسيلاسي هذا الدور، حتى آمن به كثيرون في أمريكا وأمريكا اللاتينية، وبلغ هؤلاء أعلى نسبة لهم في دولة جامايكا ونسبوا أنفسهم إليه على اسمه القديم الراس تافاري ، قبل أن يُنصّب نفسه إمبراطوراً في 1930 ويتخذ الاسم الجديد الذي يدل على قوة الثالوث الأعظم ، لاجئا إلى تقليد قديم لأباطرة الحبشة حيث كانوا يُسمون أنفسهم بأسماء جديدة عند تتويجهم أباطرة.
وقد بدأت قصة ألوهية الإمبراطور هيلاسيلاسي بنبوءة أطلقها ناشط حقوق السود في جاميكا ماركوس جارفي حين قال لأتباعه عام 1920 إن عليهم “التطلع لإفريقيا عندما يتوج بها ملك أسود حيث يصير يوم الخلاص في متناول اليد ، فلما توج الراس تافاري في إثيوبيا اعتبر الكثيرون ذلك علامة على صدق النبوءة. وهكذا أصبح الراس تافاري ( في جامايكا ، وعلى بعد 8 آلاف ميل من بلده) بمثابة الإله مجسدا أو “جاه” (بديل المسيح) وصارت إثيوبيا في عقيدة هؤلاء بمثابة أرض الميعاد. وهكذا اكتملت الأسطورة على صورة عملية : فقد اتخذت حركة الراستفاريين الوليدة عندئذ في جامايكا من إمبراطور أرض الميعاد إلهاً.
استمتاعه بالتأليه
و من الطريف أن الإمبراطور هيلاسيلاسي نفسه استمتع بهذه الوضعية غير المنطقية ، وشجعها من دون أي حياء أو خوف من اللامعقولية ، حتى إنه زار جامايكا بنفسه عام 1966 و لم يحاول معارضة هذه الحركة بل إنه وقف يحي الآلاف الذين كانوا يتحرقون شوقا إلى نظرة من إلههم، وكانت من بينهم ريتا مارلي زوجة المغني الشاب بوب مارلي الذي كان يقوم بجولة في الولايات المتحدة حينئذ، وهي التي قالت العبارة المشهورة : إنه عندما لوح لها الإمبراطور هيلاسيلاسي شاهدت آثار المسامير في كفه، مشيرة إلى أن مشاعرها الدينية تأججت في تلك اللحظة، ولدى عودة زوجها دخلا في طائفة الراستفاريين.
وبعد ذلك بثلاث سنوات بدأ الرستفاريون في الانتقال لإثيوبيا حيث منحهم إمبراطورها قطعة أرض، وقد وصل عددهم لاحقا إلى 300 شخص. و يقال أن طائفة الراستفاريين يبلغ تعدادها الآن مليون نسمة كما يتردد الآن أن هذه الطائفة في مجموعها تعتقد في هيلاسيلاسي أحد اعتقادين :
إما أنه لا يزال حيا وبصحة جيدة
أو أن جسده صعد إلى السماء
ومن الواضح أن مفكري هذه الطائفة ومنظريها تأثروا ببعض عقيدة المسلمين عن السيد المسيح وذلك بأكثر مما تأثروا بروايات اليهود والمسيحيين .
ورغم أن معظم طائفة الراستفاريين أدانوا تنظيم الجنازة التي نظمت للإمبراطور في ٢٠٠٠، فإن بعضهم وصل إلى أديس أبابا لحضور الدفن بدعوى أنهم ذهبوا لمجرد المراقبة لا المشاركة، وذكر أحد الراستفاريين السودانيين المقيمين في إثيوبيا وهو راس لومومبا للصحافة أن الإمبراطور هيلاسيلاسي هو مسيحهم المخلص وإلههم المنتظر. و لا يزال معظم أتباع طائفة الراستفاريين في جامايكا يؤمنون بأن هيلاسيلاسي إله، وأنه لم يمت، وأنه لا يزال حيا وبصحة جيدة .
وهكذا وصل الإيمان بهذا الإمبراطور هيلاسيلاسي حدوداً معروفة من الإيمان بمثله ممن يتقمصون دور المهدي المنتظر أو المسيح المُخلّص.. الخ ويحُلّون بهذا التقمص إشكاليات إيمانية عند جماعات بشرية تجمع في فلسفتها بين البأس واليأس.
ومن الطبيعي أنه لما حدثت وفاة الإمبراطور هيلاسيلاسي على النحو المهين الذي حدثت به ، لجأ الكهنة الذين ينتفعون من تأليهه إلى القول بأن جسده هو الذي هلك ، وأنه بقي مسيحاً قادراً على تخليص الأرواح ولعل هذا هو ما أتاح الفرصة لكثير من التضاربات حول وفاته ومصير جثمانه، فقد بلغت غطرسة الطاغية الديكتاتور منجستو هيلا مريام حد الأمر بأن يدفن جثمان الإمبراطور هيلاسيلاسي على بطنه ، أو بطريقة تجعل رأسه تنظر لأسفل إمعاناً في إذلاله، ومن الجدير بالذكر أن السبب في وفاته (رغم تقدم سنه) لم يعرف على وجه التحديد، وقد قيل إنه تم الأمر بتسميمه بحقنة كفيلة بأن تمنع جثمانه من التعفن ، كما قيل بأنه مات خنقاً بوضع وسادة على فمه حتى اختنق ، أما الرواية الرسمية التي أعلنها التلفزيون الرسمي في البداية فقالت بأنه مات نتيجة لمضاعفات عملية جراحية في البروستاتا بعد فحص روتيني لها.
سهولة الانقلاب عليه
كان من السهل على أي انقلاب عسكري مدعوم بالسلاح والتغطية الدبلوماسية الخارجية أن يتمكن من إزاحة الإمبراطور هيلاسيلاسي بسهولة ، وهذا هو ما حدث في 1974 ثم كان من السهل بعد ذلك أن يتم التخلّص من حياته ، وهو ما حدث في أغسطس 1975 حيث انتهت حياة الإمبراطور هيلاسيلاسي بالموت [سمّاً أو خنقاً أو قتلاً ] ، بعد عام من إنهاء حكمه و إمبراطوريته.
و من الجدير بالذكر أن الانقلاب العسكري بدأ بقيادة العسكري الاثيوبي الاريتري المولد أمان عندوم و عندما طلب الانقلابيون من ولي العهد أن يوافق على تتويجه امبراطورا فإنه رفض ، وهكذا اعلن الانقلابيون إلغاء النظام الملكي.
دفن جثمان الإمبراطور هيلاسيلاسي أولا في حمامات القصر الإمبراطوري تحت مكتب الرئيس الطاغية الديكتاتور منجستو هيلا مريام ، ولما عثر على رفاته تحت أحد المراحيض في 1992 نقل إلى كنيسة تسمى كنيسة بآتا مريم وبقي فيها ثمانية أعوام .
إعادة الاعتبار
ظل اسم الإمبراطور هيلاسيلاسي في غياهب النكران والنسيان منذ وفاته في 1975 وحتى نهاية حكم خلفه الديكتاتور منجستو هيلا مريام في 1991، وفي العام التالي للعام الذي تخلّصت فيه إثيوبيا من الديكتاتور منجستو هيلا مريام بدأت محاولات و سياسات إعادة الاعتبار للإمبراطور هيلاسيلاسي وتدرجت هذه السياسات في إعادة الاعتبار حتى جاء عام 2000 وهو العام الذي فيه دفن جثمانه في الكاتدرائية الكبرى ، وفي نوفمبر 2000 أجريت مراسم الصلاة عليه بعد 25 عاماً من قتله ، فيما يتوافق أيضا مع الذكرى السبعين لتتويجه كإمبراطور.
وكانت جثته قد حفظت منذ ١٩٩٢ بكنيسة بآتا مريم وحتى أقيمت الجنازة . وقد تمت الصلاة على جثمان الإمبراطور هيلاسيلاسي على نهج سمي بالطراز الإمبراطوري ! و تمّ دفنه في كاتدرائية الثالوث المقدس التي كان قد أسّسها واتخذ اسمه موازيا لاسمه، . وقد بدأ موكب الجنازة فجرا من كنيسة بآتا مريم وسار لمسافة عشرة كيلو مترات إلى كاتدرائية الثالوث المقدس مارا بميدان ميسكال في وسط العاصمة أديس أبابا ، وقد ارتدى القساوسة ثيابهم الفخمة بينما اصطف قدامى المحاربين داخل الكاتدرائية وقد ارتدوا قبعات تزينها شعور الأسود ، و حضر مراسم الجنازة عدد من أفراد العائلة المالكة السابقة و بضعة آلاف من الشعب على الرغم من الأمل الذي كان يحدو بعض أنصاره في أن يكون تتويج الدفن بحضور أضعاف هذا العدد، ومن الجدير بالذكر أن الحكومة الإثيوبية رفضت منح هذه الجنازة أية صفة رسمية
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا