كان الخديو إسماعيل هو الابن الأوسط لإبراهيم باشا ابن محمد علي، آل إليه العرش لأن أخاه الأكبر منه أحمد رفعت توفي في حادث غرق عند كفر الزيات حين اجتهد العمال في دفع المركبة التي انتقل بها عبر فرع رشيد من النيل، حيث استقل السكة الحديد الواصلة بين الإسكندرية والقاهرة، قبل أن يتم إنشاء كوبريي السكة الحديد العابر للنيل وعلى عادة المؤرخين والمرجفين في التعليق على مثل هذا الحادث فإنهم لم يُجدوا مانعاً من أن يجعلوا الخديو إسماعيل (بالشبهة) مُتسبّباً في وفاة من كان يسبقه في ترتيب الوصول إلى العرش، ويبدو بوضوح أن أصحاب الشأن من الأسرة العلوية في ذلك الوقت لم يعنوا بمثل هذه الأراجيف على نحو ما عُنِيَ بها الكُتّاب الأوربيون ومن نقلوا عنهم.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فإن من الموضوعات الشائعة التي أحاطت بمولد الخديو إسماعيل ووراثته للعرش ما تناقله الرواة من أن والدته ووالدة أخيه الأمير مصطفى فاضل (والد الأميرة نازلي فاضل) حملتا بهما في وقت مقارب، وظهرت علامات قُرب الولادة عليهما في وقت واحد، وأصبح هناك سباق بين البيتين، كلُّ سيدة تتمنى أن تلد ابنها قبل أخيه الذي سيولد للزوجة الأخرى، وقد حدث أن ولد الخديو إسماعيل قبل أخيه، بأيام معدودة، ولهذه القصة جاذبية كثيراً ما أُداعب بها الزملاء من أساتذة النساء والتوليد الذين يميلون إلى التبكير في إجراء القيصرية فأقول لهم إن العصر الذي كان يحقق أكبر فائدة من تبكير القيصرية كان في 1830 وليس الآن.
لكنني هنا ومن باب التحقيق التاريخي أستغل هذه القصة من وجهة نظر أخرى ذات جاذبية أخرى وهي القول باحتمال الجاذبية في القصة، فقد كان من الوارد جداً أن يكون أحد المولودين أو كلاهما أنثى وبهذا تنتفي قصة الأولوية والأفضلية من الأساس، على كلّ الأحوال فقد وصل الخديو إسماعيل إلى عرش مصر في عمرٍ قياسي يُعتبر أفضل عمر بالنسبة لحكام محمد علي جميعاً، فقد وصل وقد جاوز الثانية والثلاثين بقليل ( شأنه في هذا شأن عمه وسلفه الوالي محمد سعيد باشا ) فكان في وسعه أن يُحقّق أضعاف ما حقّقه لولا تورُّطه في السفه الذي قضى عليه وعلى عرشه وعلى تاريخه.
سُجل مولد الخديو إسماعيل على أنه في اليوم الأخير من سنة 1830 أي في 31 ديسمبر 1830 (في برج الجدي) ووصل إلى الحكم في النصف الأول من يناير 1863 وعُزل بإرادته أو بموافقته هو نفسه في 1879 بعد 16 عاماً من الحكم ثم عاش في المنفى حاكماً سابقاً 16 عاماً آخر. أي أنه عاش 64 عاماً، نصفها قبل الولاية، وربعها في الحكم، وربعها في المنفى، وهي تقسيمة هندسية تليق بحياة المهندس الوحيد الذي سبق الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي إلى حكم مصر، فلم يكن من بين حكام مصر المحدثين من أتم تعليمه الهندسي غير هذين الرجلين.
قبل أن يتولى الخديو إسماعيل عرش مصر كان قد تميّز في شخصيته بعدة مزايا لم تتوفر لغيره من حكام مصر قبل الرئيس محمد مرسي.
ــ فقد تميّز كما قلنا بدراسة الهندسة كما أشرنا وقد درسها في مدرسة السنترال في باريس.
ــ وقد تميّز بالنجاح كقائد عسكري حين أرسله الوالي السابق عليه وهو محمد سعيد باشا على رأس بعثة عسكرية إلى السودان.
ــ وتميّز بالنجاح في الوظائف السيادية التي تولاّها في ظل الدولة العثمانية في العاصمة إستانبول.
ــ وتميّز بعلاقات شخصية متعددة نمّاها وحافظ عليها في أثناء دراسته في باريس وشملت هذه العلاقات كثيراً من الفرنسيين وغير الفرنسيين.
حين تولّى الخديو إسماعيل حكم مصر كانت له رؤيته سواء تم تلخيص هذه الرؤية في عبارة “قطعة من أوربا” أو في أية عبارة مشابهة، لكن الذي لا شك فيه أنه كان يملك الرؤية وأنه انطلق من خلال الرؤية إلى الوسائل الكفيلة بتنفيذها كما انطلق إلى أمنيته بالآليات الكفيلة بتحقيقها. إذا ما تأملنا إنجازات الخديو إسماعيل بمنظور مُنصف فإننا نستطيع أن نقول إنه على الرغم من فرديته وديكتاتوريته وسفهه مارس كثيراً من الخطوات في الإصلاح السياسي والقانوني على نحو ما مارس في الإصلاح العمراني والحضاري، لكن أداءه الاستراتيجي سياسيا وعسكريا فاق هذا كله وهو أمر غير مشهور.
وإذا أردنا أن نقيّم الخديو إسماعيل من خلال رجاله فإننا نستطيع أن نُنْصفه من حيث أنصف نفسه بزميله علي باشا مبارك ١٨٢٣-١٨٩٣ رجل الهندسة والعمران والعلم والحضارة والتاريخ، ونستطيع أن نُنصفه من حيث أنصف نفسه بشريف باشا ومصطفى رياض باشا لكننا لا نستطيع إلا أن ننتقده ونرثى له في ثقته بنوبار باشا ١٨٢٥- ١٨٩٩ الذي لم يكن يستحق كل هذه الثقة التي منحها له فلم يوظفها في خدمة مصر ولا اقتصادها ولا في خدمة الخديو إسماعيل وعرشه. وإذا كان الخديو إسماعيل قد هزم بسبب فشله المالي فمن الواجب أن نتوجه بجزء من اللوم والانتقاد إلى مستشاره المالي أو مديره المالي الذي هو نوبار باشا بعد أن تخلص الخديو إسماعيل على حد ما تروي الروايات من أخيه في الرضاعة إسماعيل باشا المفتش.
يكاد القارئ لمذكرات نوبار باشا أول رؤساء الوزارة في عهد الخديو إسماعيل ١٨٧٨- ١٨٧٩يدرك أن صاحبها كان وغداً لم يتمتع بالإخلاص في خدمة العائلة العلوية التي وثقت به أكثر من اللازم، لكنه عُنيَ بالبقاء في السلطة بأكثر مما عُنيَ ببقاء السلطة نفسها، وهو خُلق معروف عند أمثاله من العصاميين النوابغ الذين لا يشْغلهم التاريخ ولا المستقبل بقدر ما يشْغلهم الحاضر والمستقبل القريب.
إذا ما أدركنا أنه كان من الممكن للخديو إسماعيل باشا خديو باشا أن يستعين بمن يضبط له الموازنة ويُراجعه في قراراته ويُصلح أخطاءه ويُوقّف اندفاعاته ويُعيد ترتيب العقود والاتفاقات بعيداً عن المظهرية فلربَّما نستطيع أن نتصور أن عظمة الخديو إسماعيل كحاكم لم يكن ينقصها إلا رجل أمين مخلص يُمسك “بالمحبس” و”الصنبور” بإخلاص وتجرُّد، لكن نوبار باشا فيما يرويه لنا عن نفسه كان صغير النفس لا تهمه مصر بقدر ما تهمه نفسه، ولا يهمه الخديو بقدر ما يهمه مستقبله مع الحكام القادمين وهو ما حدث بالفعل حيث تولى رئاسة الوزارة ١٨٨٤- ١٨٨٨مع الخديو توفيق ابن الخديو إسماعيل، وتولاها ١٨٩٤- ١٨٩٥ مع الخديو عباس ابن الخديو توفيق. أما الخديو إسماعيل نفسه فإنه على وجه العموم قدم لمصر ما عجز أسلافه عن تقديمه بل ما عجز خلفاؤه عن تقديم مثله بجودة تفوق جودة المُنتج في عهد الخديو إسماعيل.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا