أبدأ الحديث عن الكونغو فأُجاهر بالقول إنني لست من المُعترضين على ما يُسمّى بتدخُّل عبد الناصر في الكونجو، بل بالعكس فأنا من اللائمين على أن هذا التدخُّل لم يكن بالقوة المطلوبة، وإنما كان صوريا ومظهريا، ولم يتعد الحدود الدنيا الرمزية وتوقف عندها.
ومن المؤسف أننا لا نزال مُقصّرين في فهم هذه الجزئية المهمة من جزئيات تاريخ الحقبة الناصرية بالرغم من اتصالها بالأمن القومي المصري في أخطر مُنعطفاته، وباختصار شديد فإن علاقة مصر بالكونغو أكبر بكثير من تصوُّرات المصريين عن هذه العلاقة. ونحن نعرف من التاريخ الحديث أن حدود مصر الطبيعية في عهد الخديو إسماعيل شملت الكونغو ثم نعرف من التاريخ المعاصر أن الرئيس عبد الناصر لم يتسلم رئاسة الجمهورية في يونيو 1956 إلا بعد أن كان حقّق أمل الغرب القديم في فصل مصر عن السودان وذلك بما عُرف على إنه إعلان استقلال السودان في يناير 1956 حين كان الرئيس عبد الناصر لا يزال رئيساً للوزراء، يتأهّبُ لأن يوافق عليه الغرب رئيساً لجمهورية مصر بعد أن تنفصل السودان وبعد أن تنقطع علاقة الجوار المصرية مع سبع دول إفريقية كانت ترتبط بحدود مُتصلة بمصر حتى نهاية عهد الرئيس محمد نجيب وحتى العهد الذي كان عبد الناصر رئيساً للوزراء بدون رئيس للجمهورية (أي منذ نوفمبر 1954) وكانت هذه الدول هي إثيوبيا (التي كانت لا تزال ترتبط بمصر ارتباطاً عضوياً من خلال الكنيسة المصرية على سبيل المثال قبل أن تُسارع بالاستقلال عن هذه الكنيسة لتقطع أي علاقة مع الحكم المصري)، واريتريا وتشاد وكينيا وأوغندا والكونجو وأفريقيا الوسطى.
فقدت مصر علاقة الجوار المباشر بالكونجو في يناير 1956 مع ما سُمّي باستقلال السودان، ولهذا فإن الوجود المصري في الكونغو في مطلع الستينات لم يكن اختراعاً على نحو ما يُصور أعداء الناصرية ومن العجيب أن يُشاركهم الناصريون في تصورهم هذا بقصر نظرٍ شديد، وإنما كان هذا الوجود المصري في الكونغو اتصالا بماض قريب، لم ينقطع بعد، لأن أربع سنوات من فقدان الجوار والحدود المشتركة (١٩٥٦-١٩٦٠) ليست بكافية للقضاء على الماضي.
أما الزعيم باتريس لومومبا فقد ولد عام 1925 في قبيلة المونغو، وكان من أبناء النخبة في بلاده وفي قبيلته، وهكذا فإنه حظي بالتعليم وإن كان تعليمه قد تمَّ في المدارس التبشيرية لكن توظّفه المُبكّر في البريد أعطاه حصانة ضد الانخراط في الهوية الأوروبية، وحفظ عليه إيمانه بوطنه وهوّيته، وبخاصة عندما كان يرى فظائع الاستعمار البلجيكي في معاملة المواطنين السود، وهي فظائع مشهورة، جعلت من صورة البلجيكيين في أدبيات تلك المرحلة صورة مُشابهة لصورة البرتغاليين في فظائعهم التاريخية.
لم تكن حياة الزعيم باتريس لومومبا الوظيفية والعامة خالية من المتاعب والمنغصات حتى إنه تعرّض للإتهام بالسرقة، وحُكم عليه بالسجن، وقضى فترة العقوبة ثم خرج إلى الحياة العامة، وكان الزعيم باتريس لومومبا من الذين لبوا دعوة الزعيم الغاني نكروما إلى ما سُمّيَ بمؤتمر أكرا في 1958 وهو المؤتمر الذي مهّد لمنظمة الوحدة الإفريقية التي رأسها نكروما نفسه وإن كان الجزء الأكبر من هذا المجد قد نُسب إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر لسبب وحيد هو سطوة الإعلام الناصري والقوة الناعمة لمصر، وهي قوة وجدت توظيفاً جيّداً من الرئيس عبد الناصر ومن إعلامه، لكن هذا التوظيف مع نجاحه الإعلامي والدعائي والمعنوي آذى الأفريقيين من حيث لم يحتسبوا وإن كانت قواعد علم الاجتماع السياسي قد بصُرت بالنتائج بدون مواربة.
فقد أصبح الزعماء الأفريقيون الجُدُدْ مُطالبون بنبرة عالية من تحدي الغرب حتى لو لم يملكوا القوة اللازمة لحماية هذه النبرة واستمرارها، وهكذا فإنه في الوقت الذي كان الزعيم باتريس لومومبا قد وصل إلى ذروة البلاغة والحماسة في خُطبه ومقالاته، فإنه لم يكن قد وصل إلى ما يُوازي هذه الذروة في تكوين وتنظيم المؤسسات العسكرية الشعبية (كتنظيمات الحرس الثوري) الكفيلة بحماية الاستقلال بل وحمايته هو نفسه.
وعلى الرغم من أن المكانة الدولية للاستعمار البلجيكي لم تكن في أوج قوّتها وتأثيرها في نهاية الخمسينات فإنها كانت تحتفظ بقُدُرات مؤثرة في الواقع الفعلي بحكم علاقة السلطة الفاعلة في هذا الاستعمار بالمخابرات الأمريكية وأجنحتها الإمبريالية، بل وبالجنود ذوي الميول الغربية في الجيش البلجيكي نفسه.. وهكذا تعرض الزعيم باتريس لومومبا للاعتقال في 1959 ولم يُفرج عنه إلا لحضور مؤتمر المائدة المُستديرة في بروكسل وذلك على نحو ما جرى مع سعد زغلول وانذاره في مصر في ثورة 1919، بل إن الزعيم باتريس لومومبا نُقل من السجن إلى مؤتمر بروكسل بالطائرة مباشرة.
كانت النتيجة الطبيعية لمثل هذه المؤتمرات الاستقلالية هي تقرير إجراء الانتخابات النيابية، ومن الطريف ان عدد الأحزاب الكونغولية التي شاركت في هذه الانتخابات كان أكثر من مائة حزب لكن حزب الزعيم باتريس لومومبا المُسمى بالحركة الوطنية فاز بأكثر من ستين في المائة من الأصوات، وبهذا تكرّست زعامة باتريس لومومبا على غير رغبة من البلجيكيين وحلفائهم الغربيين وبخاصة الأمريكان.. لكن الضغط الشعبي وضرورة حفظ ماء الوجه الغربي دفعت بالأمور إلى الصواب الطبيعي وهو أن يتولى الزعيم باتريس لومومبا رئاسة الحكومة في 21 يونيو 1960، وقد أتم تشكيل الحكومة في يومين أي في 23 يونيو.
جاء الملك بودوان ملك بلجيكا ورئيس وزارئه لحضور حفل إعلان الاستقلال، الذي دُعي إليه عدد من الزعماء الأفارقة، وهنا ظهرت الصورة القُصوى من حماس الزعماء وهي صورة نادرة في العلاقات الدولية، لكن الكونجو دفعت ثمناً غالياً لها، ذلك أن رئيس وزراء بلجيكا تقدّم لإلقاء كلمته لكن رئيس وزراء الكونغو المُنتخب الذي هو الزعيم باتريس لومومبا منعه من أن يتكلّم لأن اسمه لم يكن وارداً في قائمة المتحدثين في الحفل وأراد ملك بلجيكا أن يستبقي نفوذه فقام وألقى كلمة قال فيها إن بلجيكا ضحّت بشبابها وأموالها من أجل تعليم الشعب الكونغولي ورفع مُستواه الاقتصادي وحذّر أبناء الكونغو من السلوك المتسرع الذي قد يؤدي إلى تدمير المدنية الأوروبية التي نقلها البلجيك إلى ذلك الوطن، وكان لكلمة ملك بلجيكا وقع سيء على الكونغوليين حتى إن الزعيم باتريس لومومبا قاطع أفكار الملك البلجيكي بخطابه الذي عرف فيما بعد باسم خطاب «الدموع والدم والنار»، والذي قال فيه: أيها المناضلون.. أنتم اليوم مُنتصرون: «أتذكرون السخرية والعبودية التي فرضها علينا المُستعمر؟ أتذكرون إهانتنا طويلاً لأننا في نظرهم زنوج؟ لقد استغلوا أرضنا ونهبوا ثرواتنا.. لقد تعرضنا للرصاص والسجون وذلك لمُجرّد أننا نسعى للحفاظ على كرامتنا كبشر».
وهكذا تحوّل احتفال إعلان الاستقلال ليكون بدءاً لمرحلة جديدة من المتاعب والظلم للكونكوليين، فقد قرّر الملك البلجيكي ورئيس وزارته في تلك اللحظة إنه وإن كانت الكونجو قد استقلت فإن الزعيم باتريس لومومبا لا ينبغي أن يبقى على قيد الحياة، وهكذا بدأت الخطوات المعروفة في الكتالوج الأمريكي بعد أن ظهر أن بلجيكا تريد الإنتقام لكنها عاجزة عنه في ظلّ الظروف الدولية الجديدة، وهكذا جاءت الخطة الأمريكية التي لم يكن أحد في ذلك الوقت يعرف أبعادها على النحو الذي نعرفه الآن بكلّ شفافية ووضوح، وفي غضون أيام قليلة بدأت النظائر المعروفة للاضطرابات العمالية، وحركة تمرّد، وجبهة الإنقاذ وتلك الآليات المقيتة التي تمّ استدعاؤها بسهولة.، كما بدأ الإعلان عن تمرّد عسكري وأن عسكر الكونجو كانوا يأنفون أن يرأسهم عسكري غربي، أو غير وطني، كذلك بدا الحديث عن انفصال إقليم كانتانا الذي هو مصدر ثروة الكونغو.
وهكذا فإنه إذا كان الرئيس محمد مرسي قد استطاع أن يُلاعب الدولة العميقة عاماً كاملاً فإن الرئيس الزعيم باتريس لومومبا فقد كلّ شيء في ثلاثة أسابيع فقط مع أن هذه الأسابيع الثلاثة كانت كفيلة بتتويج زعامته للأبد، وقد تمّت المسرحية بقرار من رئيس الجمهورية صاحب المنصب الشرفي الذي أصدر قراره بعزل الزعيم باتريس لومومبا وتجريده من صلاحياته، وإقالة الحكومة وعندما حاول البرلمان أن يتصدّى لرئيس الجمهورية فإن القوى الناعمة كانت قادرة على أن تُحطّم كل الشرعيات والمشروعيات من خلال تعاونها مع رئيس هيئة اركان الجيش موبوتو الذي صار (كالعادة فيما عرفناه بعد ذلك من الانقلابات العسكرية الجاهزة) رئيساً للكونجو مع انه كان صنيعة من صنائع الزعيم الوطني الزعيم باتريس لومومبا.
وبدأت المواجهة بين الشعب والجيش وطالت هذه المواجهة، ومع أن الشعب كان يُسيطر على مُعظم البلاد فإن موبوتو بفضل الدعم العسكري الغربي الذي كان جاهزاً ومُتربّصاً تمكّن من سحق المقاومة الشعبية وسحق الشرعية معها، وتقديم نفسه على أنه محارب للشيوعية وهو المصطلح المرادف لمصطلح مكافحة الإرهاب في عصرنا الذي نعيشه، كان الانقلاب العسكري لموبوتو في 1965 هو اول الانقلابات العسكرية في إفريقيا باستثناء ما نعرفه مما حدث في البلاد العربية في شمال إفريقيا.
أما قصة اغتيال الزعيم باتريس لومومبا التي لم يبخل الامريكان ولا الغرب بتسريب كثير من تفصيلاتها من باب تحطيم الروح المعنوية للأفارقة الوطنيين فقصة مأساوية بكلّ الأبعاد ومن العجيب أن الزعيم باتريس لومومبا والوطنيين الكونغوليتين وقفوا في أصعب اللحظات دون أية مساعدة ذات قيمة من أيِّ من القوى ذات التأثير في عالم الستينات، وهكذا فقد الزعيم باتريس لومومبا حياته في يناير 1961 بعد سنة واحدة من استقلال بلاده وتولية الحكم لمدة 3 أسابيع فقط.
أما التدخل المصري في الكونغو فقد كان باختصار شديد على مُستويين: المستوى اللاحق هو المشاركة بالوجود العسكري من خلال السفارة المصرية في الكونغو حين تطورت الأحداث واقتضت وجود قائد عسكري في البعثة الدبلوماسية وكان هو العميد (المشير فيما بعد) احمد إسماعيل. وفي السفارة المصرية فقد كان السفير هو الدكتور محمد مراد غالب (وزير الخارجية في 1972) الذي عمل قبل ذلك وبعد ذلك في موسكو. كما كان مستشار السفارة هو محمد إبراهيم كامل (وزير الخارجية فيما بعد في ديسمبر 1977). وكان قد سبق هذا مستوى آخر هو المشاركة في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام بإحدى الفرق وكان الذي اختير لقيادة هذه الفرقة هو العقيد (الفريق فيما بعد) سعد الشاذلي.
أما البطل الحقيقي الذي يفوق دوره المنفرد دور كل هؤلاء فهو المستشار عبد العزيز إسحاق وهو الرجل الذي استطاع تهريب عائلة الزعيم باتريس لومومبا من قلب الكونجو إلى مصر، وهو أقصى انتصار حقّقته مصر في أزمة الكونغو، وقد تمكّن من اصطحابهم عبر الجزائر (ترانزيت) ثم برشلونة (لمدة يوم) ثم سويسرا (لمدة يومين) ثم إلى القاهرة وجاء أبناء الزعيم باتريس لومومبا الثلاثة فرانسوا باتريس (الصغير) وجوليانا. وبعد عام جاءت الزوجة ومعها ولدها الرابع رولا. وفيما بعد فقد تولّى هؤلاء الأبناء مناصب سياسية في بلادهم.
وقد روى الفريق الشاذلي أن موقع الكتيبة المصرية في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام تحدد في موقع يبعد عن العاصمة ألف كيلو متر حتى لا تكون قريبة من الأحداث، ومع هذا فإن مجرّد وجود الكتيبة المصرية في الكونغو قد خدم العملية الوحيدة الناجحة التي قامت بها مصر وهي تهريب أولاد الزعيم باتريس لومومبا. كذلك فإن وجود هذه الكتيبة على الحدود مع إفريقيا الاستوائية (التي كانت تخضع للاستعمار الفرنسي) كان يُمثل إزعاجاً معنوياً للفرنسيين الذين يضطرّون للعبور من معبر تُسيطرُ عليه قوات مصرية تتبع الأمم المتحدة، لكنها مصرية!!
أما موبوتو (1930 ـ 1997) فأصبح على يد محمد حسنين هيكل من الزعماء الذين ينقل عنهم أقوالهم وحكمهم ويُقدّمهم للرأي العام العربي على أنهم حلفاء الرئيس عبد الناصر وذلك على الرغم من دوره المقيت في القضاء على زعامة وطنية وروح وطنية كانت كفيلة بإعادة الأمل في إفريقيا بدلا من حالها الذي لا يخفى على أحد. ومع أن موبوتو لم يكن يملك الطائرات الكفيلة بمُساعدته في غدره بالزعيم باتريس لومومبا فإن الأمريكيين سرعان ما زوّدوه بالطائرات وساعدوه أيضا بالإمكانات اللوجستية التي مكّنت من القبض على الزعيم الوطني باتريس لومومبا. وقد ظلّ موبوتو يحكم كرئيس منذ 1965 منذ انقلابه الثاني وحتى وفاته في 1997 أي أنه حكم كرئيس 32 عاماً. وهو الذي غيّر اسم الدولة إلى زائير. وإن كان موبوتو قد قام بانقلابه الأول في 1960 عندما خان رئيسه الزعيم باتريس لومومبا وأصبح بمثابة الرجل القوي في الدولة وهو رئيس للأركان منذ 1960.
بقي أن نفرق بين الدولتين اللتين تحملان اسم الكونغو، فالكبرى هي الكونغو الديموقراطية التي كانت قد سُمّيت باسم زائير على يد موبوتو فيما بين 1971 وحتى وفاته 1997 ثم عادت إلى اسمها الأول: الكونغو الديموقراطية، وكالعادة في إفريقيا على سبيل الاختصار والحسم المعلوماتي التقريبي فإنها تُنسب على عاصمتها فتُسمّى “الكونغو كينشاسا”.. هي الآن بعد أن تم تقسيم مصر والسودان ثم بعد أن تقسيم السودان نفسه هي ثاني أكبر البلاد الإفريقية مساحة بعد الجزائر، ورابع دول إفريقيا من حيث عدد السكان بعد مصر ونيجيريا وأثيوبيا، ومتوسط الناتج المحلي الاسمي للفرد 462 دولار في العام.
أما الدولة الأخرى فهي جمهورية الكونغو (بدون صفات) وهي التي تنسب إلى عاصمتها برازافيل، وكانت تسمّى بمُستعمرة الكونغو الفرنسية، وبالكونغو الوسطى، وتقع إلى الغرب من شقيقتها الكبرى الكونغو الديموقراطية، وهي دولة صغيرة يقترب سكانها من أربعة ملايين، وإن كانت كبيرة المساحة بالنسبة لعدد سكانها ومن الطريف أنها نالت استقلالها في 1958 أي قبل الكونغو الكبيرة بعامين، لكنها لم تصبح معروفة باسم جمهورية الكونغو إلا في 1960، ويبلغ متوسط الناتج المحلي الأسمى للفرد 1654 دولار في العام أي قرابة أربعة أضعاف أو 360% من متوسط الناتج المحلي الأسمى للفرد في الكونغو الكبيرة.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا