كنت ومعي كل زملائي منذ المرحلة الثانوية مشغولين تماما بالبحث عن قصة السيارة رمسيس، وكيف بدأت؟ ولماذا انتهت؟ لكن مراجعنا التاريخية خلت كالعادة من أية إشارة من أي نوع. لكننا كنا نعتز بالسيارة لسبب علمي هو أن الأستاذ نبيل ناروز غبريال أستاذنا الأشهر في الفيزيقا في مدرسة المتفوقين الثانوية كان قد اشترى سيارة منها بعد تطويرها فكنا سعداء باعترافه بالمنتج المصري، وقد مارسنا عليها تحت إشرافه كل تجارب التشويق الفني، التي لا محل لذكرها في مقال، لكن الأمر وصل بنا إلى تصديق ما نقله أحد زملائنا عن والده المهندس من أن بإمكان أربعة شبان أقوياء أن يحملوها ويسيروا بها، وقد فعلنا هذا بمنتهي السعادة على مرات متعددة بحيث لم يفت أحد منا شرف حمل السيارة وتحريكها عدة بوصات بحيث لا يظهر لأستاذنا ما تم من تحريكها بغير علمه ولا علم الموتور .
ومن الإنصاف لتاريخنا أن أذكر أنه في نفس الوقت كان أستاذنا في الرياضيات الأستاذ سمير القرشي قد عاد من إعارته مصطحبا معه درة صناعة السيارات في العالم في ذلك الوقت، ومنذ ذلك الوقت، وهي السيارة البيجو ٥٠٤ فكانت عنايتنا بها متوجهة في المقام الأول إلى الإعجاز في خطوطها الهندسية الداخلية والخارجية المعتمدة سرا على حسابات التفاضل التي مكنتها من هذه الانسيابية التي لم تكن قد عرفت من قبل على هذا النحو في عصور التربيع والتدوير ..الخ .
ومن الإنصاف أن نعترف للمهندس عادل جزارين خبير تصنيع السيارات المعتمد في مصر بالفضل في تنويرنا في مذكراته (التي تدارسناها في كتابنا ثلاثية السياسة والصناعة والفن ) بما يعرفه عن قصة السيارة «رمسيس» التي استقر في وجدان المصريين الجمعي أنها كانت محاولة حكومية فاشلة للدخول الحكومي في صناعة السيارات، بينما روى عادل جزارين الحقيقة التي تشهد للمصريين بشرف المحاولة وتشهد لثورة يوليو وحكوماتها بالفشل الذريع، وهي أن هذه السيارة كانت في الحقيقة جهدا أهليا رائدا واكب نهاية عصر الجهود الأهلية لكنه لم يتح له أن يلقي ما كان ينبغي أن يلقاه من رعاية حكومات الثورة وتشجيعها، وإن كان قد لقي بعض التشجيع اليسير الذي يذر الرماد في العيون من باب إخلاء المسئولية علي نحو ما لانزال نفعل في مثل هذه الأحوال الاجتهادية بينما تضيع حكوماتنا أموال الشعب بإفراط وسهولة بل وبتلقائية شديدة في شركات خاسرة ونفقات مهدرة .
« ….. في سنة 1958 قام اثنان من الشباب المصري هم المهندس جورج حاوي، والسيد عصام، بالتقدم لوزارة الصناعة بمشروع صناعة سيارة صغيرة أطلقوا عليها اسم السيارة «رمسيس»، وقدموا للهيئة العامة للتصنيع عينتين من هذه السيارة لاختبارها قبل إعطائهما الترخيص»
«والسيارة هي أصلا السيارة «فريسكي» البريطانية بمحرك سعة 400 سم، ذات جسم من الصوف الزجاجي تمت صناعته محليا بعد أن تم استيراد مكوناته من إيطااليا، والمحرك كان ثنائي الأشواط ويدور في الاتجاهين، ولم يكن في السيارة تعشيقة للخلف، فكان من الضروري عند الرغبة في السير للخلف وقف المحرك وإدارته في الاتجاه العكسي»
وقد روى المهندس عادل جزارين في مذكراته ما يتذكره من تفصيلات مشاركته في اختبار وتقييم هذه السيارة: «وقد كلفت لجنة من الدكتور مهندس محمد العلايلي رئيس قسم السيارات بجامعة عين شمس، والمهندس شوقي النحاس ومني لاختبار السيارتين” “وقمنا بقيادتهما من القاهرة إلى مرسي مطروح والعودة، وقد تعطلت إحداهما في الطريق، كما ظهرت عدة عيوب في الأخرى، مما جعل رحلتنا متعبة للغاية، خصوصا أنها كانت في الصيف، وفي جو حار للغاية ” “ونتيجة الاختبار قمنا بطلب إدخال العديد من التعديلات علي السيارة قبل التصريح بإنتاجها، وكان من أهمها وجود فيتيس للسير للخلف، وكذلك إنتاج الجسم من الصاج بدا من الفيبرجلاس»
ثم يروي المهندس جزارين أن المشروع لم يتطور في اتجاه الإبداع وتطويره، وإنما وقع فريسة الأسلوب المصري في عهد ثورة يوليو حيث كان الاهتمام ينصب على تأسيس وتأصيل وتوظيف أكبر قدر من الهياكل الروتينية والبيروقراطية للاستفادة النفعية من حول فكرة صناعة السيارة الجديدة وليس لإفادتها: «…… تكونت شركة خاصة لإنتاج هذه السيارة خصص لها موقع في بداية الطريق الصحراوي للإسكندرية، وقد بدأت الشركة في تجميع السيارة المعدلة في يوليو 1959 بعد أن تعاقدت علي توريد المائة سيارة الأولي للهيئة العامة للتصنيع بمبلغ أذكر أنه 120 جنيها للسيارة تم دفع ثمنها مقدما كتشجيع للشركة الجديدة» «وقد استمرت الشركة في إنتاج بضع مئات من السيارات، وبنسبة تصنيع حوالي الـ 40% هي قيمة مكونات يتم الحصول عليها من السوق المحلية، بالإضافة إلى تصنيع بعض أجزاء الجسم الصاج يدويا داخل المصنع “
لكن هاهي الشركة الوليدة أو الرضيعة تخضع للطامة الكبرى التي هي التأميم لتقف في طابور الفشل الناصري ويصل الفشل ذروته حين تفتري الدولة بنفسها على سيارة وطنية فتدرجها تحت اسم الدراجة وتخترع لها اسم النقل الخفيف، لتتحول بالإبداع من المسميات إلى الأسماء، وكأنه كان محرما على مصر الدوح بتجاربها وتطلعاتها، على حين كان مستحبا لها النوح على تجاربها الوطنية: “……. تم تأميم الشركة في يوليو سنة 1961ودمجها في شركة صناعة الدراجات والموتوسكيلات لتصبح شركة لإنتاج وسائل النقل الخفيف تابعة لمؤسسة الصناعات الهندسية» .
ومع أن تدخل الدولة كان هو السبب الكارثي في الفشل مرة واثنتين كما رأينا فإن المهندس جزارين وهو واحد من رواد القطاع العام يجيد تقديم تشخيص خاطئ للقصة متجاوزا كل حقائق العلم والصناعة والوطنية فيقول: «وتعتبر هذه أول محاولة لتصنيع سيارة مصرية، وللأسف لم يكتب لها النجاح لعدم قيامها علي أسس اقتصادية سليمة وفنية»
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا