من الأمجاد غير المشهورة وغير المذكورة للملك فاروق ١٩٢٠- ١٩٦٥ ما قام به عن شجاعة واقتناع من استضافة الزعيم العربي الكبير محمد عبد الكريم الخطابي ١٨٨٢- ١٩٦٣ زعيم ثورة الريف، وقد أتم الملك فاروق هذا التصرف الشجاع ببساطة شديدة، ومن دون بروباجاندا، ويكفي لإدراك مدى نبل الملك فاروق في هذه الجزئية أن نتصور أن الرئيس جمال عبد الناصر كان هو الذي أتم هذه الخطوة، ومدى ما كان يمكن للشعراء والموسيقيين والمطربينة أن يُتَوجوا عمله به مع كثير من الدراما والمفارقات والمبالغات فضلاً عمّا تقنعنا صحافتنا بأنها تنقله عما يرويه الصحفيون والمراسلون في جميع أنحاء العالم من ارتعاش أمريكا واهتزاز الاتحاد السوفييتي من جسارة الزعيم الذي لم يخش سطوة الجمهورية الفرنسية والإمبراطورية البريطانية.
من الطريف أن الملك فاروق كان يصدر في هذا التصرف عن روح وطنية عامة، وهذا هو الشاعر الكبير علي الجارم ينظم قصيدته “ضيف كريم” ليُرحّبَ بزعيم ثورة الريف ترحيباً حاداً يذكر بأمجاده. وقد نجح الشاعر علي الجارم في تصوير بطولة الخطابي وكأنه هو الذي رمى القيد الذي قيّدوه به، وهو يُسارع إلى وصف ظروف السجن والليل البهيم الدافع إلى ابتئاس الزعيم وجزعه، ويصف أيضاً حنين الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي إلى الوطن بكلّ جوارحه، بينما هو في الباخرة التي كانت تقله وهو مقيد الحرية لا يرى أمامه إلا ماء البحر، وهو يشتكي وحشة الليل كما يشتكي وحشة الصباح:
ورمَى بالقيدِ في وجهِ الريَاحْ
حَلّقَ النسْرُ كما شاء وَصاحْ
تنجلى الأصداءُ عن بيضِ الصفاح
وجلا عن ريشِه العارَ كمَا
تعرفُ الجنُّ متى أو أيْنَ طَاح
وأطاحَ القفصَ المشئوم، لا
جَزِعًا، بين أنينٍ ونُواح
كم قضى الليل به مستيئسًا
قَلِقَ الأضلاعِ، خَفَّاقَ الْجَنَاح
ولكم حنّ إلى أوطانِه
لُججٍ خُضْرٍ دميماتٍ شِحاح
يُرسِلُ العينَ فلا يلقَى سوى
فإذا غاب تشكَّى للصبَاح
يشتكي لليل في وحشتِه
ثم يواصل الشاعر علي الجارم الحديث عن طبيعة كفاح الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي، وارتباطه بالحرية والإباء، وكيف تتواصل يد الإحسان بأطراف الرماح في ظروف القيد والاسر التي تُصبح فيها اللهاة ظمأى للماء القراح:
رحمةُ اللهِ عليه! أين رَاح؟
ذهب الماضي مَجيدًا حافِلًا
وإباءُ الحرِّ شيءٌ لا يُبَاح!؟
أإسارُ الحرِّ حقٌّ سائغٌ
هزّت الفِتنَةُ أطرافَ الرمَاحْ!؟
وإذا مُدَّتْ لإحسانٍ يَدٌ
ضنّتِ الأنفسُ بالماءِ القَرَاح!؟
وإذا جفّتْ لَهاةٌ ظمأً
ملأ الأفواهَ شَغْبٌ وصِيَاح!؟
وإذا مال أخٌ نحو أخٍ
و يُصور الشاعر علي الجارم معاناة البطل الأسير حين يمرض فلا يجد الطبيب، وحين يشكو فلا يُسمحُ له بالشكوى، ولا يقبل منه في أي حال من الأحوال، منطق الشكوى ولا المعاناة.
لطبِيبٍ، قيل: لا تشكُ الْجِرَاح!؟
وإذا أنّ جَريحٌ دَنِفٌ
حَرَجٌ إنْ ردّد الشكوَى وبَاح!؟
هل على المفجوعِ في أوطانِه
يتمنَّى الحرُّ ذنبٌ أو جُناحْ؟
أو على من رام أن يحيا كما
بعدَ عشرينَ، لإطلاقِ السَّراح!؟
أو على المعاني ملامٌ إنْ رنَا
كذلك فإن الشاعر علي الجارم يشيد بثبات محمد عبد الكريم الخطابي على العهد، والبسالة وشمم الريف وعزته، وأصالة العروبة وجرأة الفتوة، وهو في مقابل هذا يصف أعداء الحرية من أعداء الخطابي بأخلاق الذئاب وعهودهم، وظلمهم الذي يصل إلى حد الذبح بغير سكين، وبغير قبول للشكوى:
ونبا عن خُلُقِ الْعُرْبِ السمَاح
ثم قالوا: لم يصُنْ ميثاقَهُ
عربيُّ النبْعِ، ريفيُّ الْجِماح!؟
أيُّ عهدٍ يرتضيه باسلٌ
غيرِ سكِّينٍ، ولا أشكو الذباح!؟
أيُّ عهدٍ هو أن أُذْبحَ من
شاتِهِ المِخلَبُ والنابُ الوَقَاح
هو عهدُ الذئبِ يُمليه على
إنْ مشَتْ يومًا إلى الحقِّ الصرَاح
وهو القوّةُ، ما أجرأَها!
ويدٍ تدفَعُ من غيرِ سِلَاح!
كم سلاحٍ صالَ من غيرِ يدٍ
ويصل الشاعر علي الجارم إلى الأبيات التي يخصصها لمديح موقف الملك فاروق تجاه الزعيم الخطابي فيُشير بحرص شديد إلى ما يعتبره أنه الحقيقة الأولى وهو أن رحاب مصر فسيحة لبني العرب، وأن همة الزعيم الخطابي كهمة الملك فاروق وكذلك أيديهم التي اتسمت بالكرم، وكذلك طموحهما، وهو يقول إن همتهما تتشابهان كما طموحهما. ويختم الشاعر الجارم قصيدته الجميلة ببيتين يُلخّصان موقف الزعيم الخطابي حين وصل على مصر لاجئاً فلقي الراحة والبشاشة والارتياح:
في رِحابٍ لِبَني العُرْبِ فِسَاحْ
قصد الفاروقَ يبغِي موئِلًا
ويدٌ مُدَّتْ إلى أكرمِ رَاحْ
همّةٌ جاءت تناجي همَّةً
وطِماحٌ يتسامى لِطمَاح
مَلِكٌ يرنو لعُلْيَا مَلِكٍ
صَارِمٌ أرهفَه طولُ الكِفَاح
فثوى في خيرِ غمدٍ آمنًا
وارتياحٍ للندَى أيُّ ارتيَاح
لم يجدْ غيرَ بشاشاتِ المُنَى
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا