كان عبد الفتاح باشا حسن نموذجاً للكفاءة الوطنية القادرة على أداء كلّ المهام السياسية بأمانة واقتدار وهدوء، وربما يُمثل هذا الرجل أكبر دليل على عداوة ثورة يوليو 1952 للكفاءات الوطنية التي عملت بالسياسة أو بالحزبية بسبب كفاءاتها وليس لأيّ سبب آخر، فقد لقيَ هذا الرجل من عنت الثورة مراحل متعاقبة من العقاب غير المبرر حتى توفي في مطلع عهد الرئيس حسني مبارك، وقد شهدته في نهاية حياته مريضاً مثاليا هادئاً محبوباً يتعلق ذووه وعارفوا فضله ومُحبّوه به ويتمنون لو أن عمره طال بعض الشيء.
هو من الجيل الذي ولد في أول القرن العشرين (1902) وتخرّج في كلية الحقوق (1924) أي أنه يصغر عددا من رموز عهد الثورة كالدكتور محمود فوزي (1900) والرئيس محمد نجيب (1901) والمهندس أحمد عبده الشرباصي (1898). وفي بعض الروايات فإن الرئيس جمال عبد الناصر كان يودُّ أن يستفيد من كفاءته ليكون وزيراً من وزراء العهد الجديد لكنه اعتذر عن تلبية رغبته، وأن هذا الاعتذار المُبكّر أجّج الخلاف والعداوة، لكني لا أعتقد أن الاعتذار كان سبباً ولا أن قيادة الثورة كانت جادة في عرضها الاستعانة به وإنما كان العرض محاولة لهز صورة الولاء الوفدي عند أمثاله من رجال الدولة المحترمين.
بدأ عبد الفتاح باشا حسن اتصاله بأجهزة الدولة الحاكمة حين انتدب لمكتب مراجعة الأحكام العسكرية 1943 فالتقى بوزير الداخلية فؤاد سراج الدين وفي هذا اللقاء اعتذر عن العمل لأن رأيه سيُعرض على مدير الامن العام وهو شخص غير قضائي، وهو لا يعتبر هذا مما يليق به فما كان من سراج الدين الذي كان في بداية حياته وكيلاً للنيابة (وكان تاليا لعبد الفتاح حسن في التخرج والمولد) إلا أن أبدى اقتناعه واستصدر قرار بتشكيل مكتب من مجموعة من القضاة كان عبد الفتاح حسن نفسه وحاداً منهم ليتولّى هذا المكتب مهمة أشبه ما تكون بمهمة وزارة الاستئناف بحيث تُعرض عليها الأحكام الصادرة من المحاكم العسكرية فيُصبح قرارها بالتصديق أو الإلغاء بمثابة قرار مُلزم للحاكم العسكري العام. وهكذا استقر هذا الوضع حتى بعد نهاية عهد الوزارة الوفدية في 1944.
أما عبد الفتاح حسن فإنه ارتبط بالعمل مع الوفد وفؤاد باشا سراج الدين من ذلك الوقت فأصبح بإلحاح منه مديراً لمكتب وزير الداخلية، فلما ترك الوفد الحكم أصبح عبد الفتاح حسن مفتشا للداخلية واحتفظ بهذا المنصب في وزارتي أحمد ماهر والنقراشي ثم انتقل إلى مجلس الدولة عند إنشائه في عهد إسماعيل صدقي (1946) لكنه استقال من مجلس الدولة 4 مايو 1947 ليتفرّغ للمحاماة.
وقبل الانتخابات النيابية الأخيرة في الحقبة الليبيرالية، وهي الانتخابات التي فاز فيها الوفد انضم عبد الفتاح حسن للوفد وأصبح مرشحا للوفد في دائرة بسيون في مواجهة عبد الحميد الجندي مرشح السعديين، والمرشح المستقل عمر المراسي وقد تمكن بالفوز بهذه الدائرة في جولة انتخابات الإعادة. وفي 20 مارس 1950 عين وكيلاً برلمانيا لوزارة الداخلية وأصبح بمثابة الوزير التنفيذي نظراً لانشغال سراج الدين بوزارة المالية والعمل الحزبي والسياسي وفي 24 يونيو 1951 عُيّن وزيراً للدولة، وبعد 3 شهور فقط عُيّن وزيراً للشئون الاجتماعية في 24 سبتمبر 1951، وأصبح يتولّى وزارة الداخلية بالنيابة في حالات غياب فؤاد باشا سراج الدين.
يتمثل الجهد السياسي لعبد الفتاح باشا حسن في ميدانين كبيرين مهمين: ثانيهما هو تنظيم الطابع المؤسسي لعمل وزارة الداخلية من ناحية وهو جهد كبير لا يزال يلقى احترام من يعرفون فضله فيه، اما الميدان الأول فهو دوره الكبير في المقاومة الشعبية للاحتلال الإنجليزي من منطقة القناة في 1951 عقب إلغاء المعاهدة في أكتوبر 1951 وهي المقاومة التي كانت بمثابة العامل الحسم في خروج البريطانيين من مصر وإن نُسبت الأمور شكليا إلى اتفاقية الجلاء التي عُقدت في 1954.
كان عبد الفتاح حسن باشا يتولى رعاية العمال المصريين الموسميين الذين طلبت منهم وزارة الوفد أن يُقاطعوا العمل في معسكرات الانجليز، وقد تكلّفت وزارة الوفد بتعيين عشرات الألاف منهم خلال أيام من تركهم هذا العمل مع المستعمر، وهو إنجاز تنفيذي يصل إلى حدود الإعجاز في ظل سطوة البيروقراطية. وقد كان لعبد الفتاح باشا حسن مع فؤاد باشا سراج الدين دور كبير في إتمام هذا الإنجاز الإداري غير المسبوق.
كذلك فقد نجح عبد الفتاح حسن في إتمام مقاربات ذكية لعقاب العمل في معسكر الانجليز إن تقدم بصفته وزيرا للشئون الاجتماعية بشكوى إلى مكتب العمل الدولي، واستدعى السلطات الدولية للتحقيق في شكواه، وكانت النتيجة قراراً واضحاً بتجاوز الانجليز لحدود القانون في تعاملهم مع العمال المصريين.
كان الرئيس جمال عبد الناصر دائم التربص بعبد الفتاح باشا حسن بمناسبة ودون مناسبة وكان الرئيس السادات كذلك بل كان أكثر تعبيراً عن خوفه من عبد الفتاح حسن وقُدراته رغم أدبه وكياسته وهدوئه، وكان الرئيس السادات يُحذر مُساعديه منه بالاسم بصوت عالٍ، ومن الطريف أن الرئيس عبد الناصر كان إذا ما اعتراه خوف من سقوط النظام أو أراد تمرير فكرة أن هناك مؤامرة عليه، فإنه كان يُسارع إلى اعتقال عبد الفتاح حسن باشا اعتقالاً تحفُّظياً، وقد حدث هذا في المسرحية المُسماة بانقلاب سيد قطب 1965 مع انعدام أي علاقة لعبد الفتاح حسن بسيد قطب وجماعته، وحدث هذا عقب نكسة 1967 أما المرة الأكثر مدعاة للأسى فكانت عقب انتهاء حرب 1956 حيث قدم عبد الفتاح حسن ضمن مجموعة من الوفديين للمحاكمة أمام محكمة عسكرية رأسها الفريق الدجوي وحكم عليه فيها بسنوات طويلة من السجن بدون أي تهمة حقيقية.
والظاهر من أوراق التاريخ ووثائقه أن الانتباه إلى قيمة عبد الفتاح باشا حسن لم يكن أمراً مصرياً خالصاً وإنما كان بمشورة من المخابرات الغربية الأجنبية التي شاركت في الإعداد لحريق القاهرة وللانقلاب العسكري (الذي نعرفه على أنه ثورة 23 يوليو 1952) ويتضح هذا من لجوء حكومة أحمد نجيب الهلالي باشا إلى اعتقال عبد الفتاح حسن باشا في مارس 1952 تحت دعوى المشاركة في حريق القاهرة استناداً إلى اتهامه بأنه خطب خطبة أجّج بها حماس الوطنيين ضد الإمبريالية العالمية ومن الطريف أن التحقيق أثبت أن هذه الخطبة كانت تالية لحدوث الحريق بأيام لكن الواقعة تدلنا على طبيعة التربص(الغربي) المفتعل الذي اصبح مُسيطراً على التعامل الأمني المصري مع هذا الرجل وأمثاله من الوطنيين الشُرفاء.
في عهد الرئيس أنور السادات كان عبد الفتاح حسن موجوداً في الحياة العامة بوقار واحترام وتقدير فلمّا تأسس الوفد من جديد كان من أقطابه، كما كان من أقطابه في البرلمان، وكان السادات كما ذكرنا يعبر عن انزعاجه من هذا الوجود وقد توصل دهاقنة عهد 1952 إلى تجديد العزف على نغمة إفساد الحياة السياسية قبل الثورة فاستصدروا تشريفا يُسقطون به عضوية البرلمان عن الوفديين القُدامى، وسرعان ما وافق مجلس الشعب بطريقة الحشد على إسقاط العضوية عن عبد الفتاح حسن باشا باعتباره رجلاً شريفاً وإن لم ينص القرار على معنى الشرف الواضح في مضمون القرار والتشريع.
كان من الطبيعي أن يُحارب عبد الفتاح حسن في حريته في نهاية عهد السادات فيما عرف باعتقالات سبتمبر 1981 وأن يكون من الذين أُفرج عنهم جماعة في بداية عهد الرئيس مبارك ولم يلبث بعدها ان توفي. في الذكرى الأولى لوفاته احتفل الوفد بوفاته احتفالاً كبيراً في بسيون وخطب فؤاد سراج الدين خطبة من خطبه المؤثرة والتاريخية. نشر عبد الفتاح مذكرات متميزة هادئة وهادفة وقد تناولناها بالمُدارسة منذ عشرين عاما في كتابنا “في رحاب العدالة: مذكرات المحامين.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا