احتل الدكتور عبد الحميد بدوي ١٨٨٧-١٩٦٥ مكانة سامقة في أربعة ميادين متكاملة هي: القانون، والقضاء، والتشريع، والإفتاء، وكانت وراء هذا الإنجاز السامق عوامل متعددة أسهمت في صياغته وتعليته يوماً بعد يوم، أولها أنه كان راسخ القدم في العلم والفهم على حد سواء، لم يكن نصوصياً متقيداً بظاهر النص، أو قديم النصوص، أو مشهور النصوص، وإنما كان نصوصياً واسع المعرفة.. متفحتاً على نصوص متعددة، وعلى زوايا متعددة وراء هذه النصوص، وقد مكنته سعة أفقه القانوني من أن يجد المخرج للصواب حين يصعب على غيره أن يجده في ظل الأفق المحكوم، على سبيل المثال كانت ثقافته العربية الإسلامية رافداً غير منظور في فهمه للتشريعات اللاتينية والأنجلوساكسونية على حد سواء، وكان يدرك أن الحياة القانونية الحديثة لم تبدأ في عصر النهضة، وإنما بدأت قبل ذلك بكثير في نصوص عربية تضمنتها كتب أصول الفقه، والفقه الخاص، كما كان يدرك أيضاً أن فلسفة القانون لم تبدأ على يد الىونان واللاتين، وإنما بدأت قبل ذلك عند قدماء المصريين، وفي شريعة حمورابي، وكان لهذا السبب يدرك أن الأصل في الأشياء أبعد بكثير من هذا الأصل الذي كان معظم معاصريه يعتقد أنه الأصل.
ولم يكن رسوخ قدم الدكتور عبد الحميد بدوي حائلاً بينه وبين طلب الاستزادة من العلم يوماً بعد يوم، وكان بحكم ثقافته المنظمة، قادراً على القراءة الموسوعية التي تفتح أمامه باب العلم الرحب، ولم يكن يقف عند حدود ما تزوده به الموسوعية، وإنما كان حريصاً على أن يختار موقفاً ينحاز الىه حتي لا يصبح رأيه مطاطياً، أو متعدد الدلالة، لهذا كان رأيه دائماً واضح المعالم، ولم يعرف عنه أنه كتب نصوصاً غامضة كي يحتاط بها مع تقلب العصور والظروف، وعلى الرغم من أنه كان يفتي بما يصون مصلحة الدولة التي ينتمي الىها، فقد كان قادراً على أن ينتقي من التسويغات ما يتفق مع الخط العام الذي آمن به منذ مطلع حياته، وهو سيادة القانون في روحه على ما تعدي ذلك من حب السياسيين لتطويع القانون لما يعتقدون أنه يعود عليهم بحب الجماهير.
وبالإضافة إلى رسوخ القدم، وسعة الاطلاع فإن الدكتور عبد الحميد بدوي رزق القدرة على الاستبصار، حتى إننا لا نستطيع أن نجد في تاريخ فتواه كله واقعة ابتعد فيها عن المنطق أو عن العقل وانحاز إلى اللامعقول أو اللامنطقي، على الرغم من أن قراءة النصوص المرجعية كانت كفيلة به بأن يندفع إلى مثل هذا التوجه اللامنطقي.
وعلى سبيل المثال فلربما أن هذا الاستبصار هو الذي مكنه من أن يجد تفسيراً ينجي به مصر (على حد عقيدته) من دخول الحرب العالمية الثانية، وقد وجد هذا التفسير في التفريق البسيط الذي يستعمله عامة الناس بين الهجوم والدفاع، وبين البدء بالحرب والتصدي لها.
وقد جمع الدكتور عبد الحميد بدوي مع هذه المزايا الثلاث علماً رفيعاً باللغة العربية، وبغيرها من اللغات جعله يفهم من اللفظ معانيه التي لا يستقيم المنطق بدونها، وجعلته ينظر الى اللفظ في إطار الجملة، والى العبارة في إطار الفقرة، والى الفقرة في إطار الحديث عن الواقعة وقضاءها، وذلك دون أن يحصر نفسه في قيد من قيود الفهم القاصر للألفاظ والعبارات.
وهكذا ارتفعت قدرات الدكتور عبد الحميد بدوي عن أن يكون تقليدياً في فهمه أو في قانونيته الى أن يكون مهندساً معمارياً يقدم تصميماً جميلاً للحقيقة والقانون، ويوظف هذا التصميم في خدمة الحقيقة والوطنية بما لا يتعارض مع المنطق الشكلي، ولا مع العقيدة الجوهرية فيما يعرض له من شئون الحياة في ميادينها المختلفة.
سيرة حياته وتكوينه العلمي
ولد الدكتور عبد الحميد بدوي في 13 مارس سنة 1887 وكان مولده في مدينة المنصورة، وفي بعض الأدبيات المتاحة عنه أنه ولد في مدينة الإسكندرية. لكنه باتفاق الروايات نشأ في مدينة الإسكندرية، وإن كانت قد أتيحت له أيضاً نشأة نادرة ومباركة في «المدينة المنورة»، مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقد كان السبب في هذا أن والده الذي كان من كبار التجار، كان شديد التدين الى حد أن دفعه الشوق الى أن يقضي بقية أيام حياته في البقاع الطاهرة، وهكذا أخذ قرره بتصفية أعماله في الإسكندرية والانتقال بأسرته الى أرض الحجاز، وبدأ ممارسة التجارة في مكة، ثم انتقل الى المدينة وهو عازم على أن يقضي بها بقية أيام عمره، ما بين التجارة والعبادة.
عاد الدكتور عبد الحميد بدوي الى مدينة الإسكندرية وهو في العاشرة من عمره، فالتحق بمدرسة الشيخ طه الابتدائية، وفي هذه المدرسة قضي ما يوازي عامين دراسيين.
ثم بدأت علاقة الدكتور عبد الحميد بدوي بالانتظام في التعليم الرسمي المصري في 1899، حين التحق بمدرسة العروة الوثقي، وقد أهله مستواه لأن يلتحق مباشرة بالسنة الثالثة الابتدائية، وقد كان من سلطات نظار المدارس أن يلحقوا التلاميذ بالصف الدراسي الموافق لملكاتهم وعلمهم الذي حصلوه من قبل في الكتاتيب، أو المدارس الأهلية، أو بيوت آبائهم.
وقد كان الدكتور عبد الحميد بدوي في السنة الثالثة في الوقت الذي كان فيه النقراشي باشا (ولد 1888) في السنة الأولي الابتدائية في المدرسة ذاتها.
«التحق الدكتور عبد الحميد بدوي بمدرسة رأس التين الثانوية الأميرية في أكتوبر سنة 1901، بعد أن رفض ما أتيح له من الالتحاق بإحدى وظائف الجمرك».
«كان ناظر مدرسة رأس التين في عام 1901 المرحوم إسماعيل حسنين بك (باشا) الذي عين فيما بعد ناظراً لمدرسة المعلمين الخديوية، ثم وكيلاً للمعارف، وكان من أكبر المربين المصريين».
أشار الأستاذ أحمد عطية الله في القاهرة، الى التطور الذي حدث على عدد سنوات الدراسة الثانوية في دفعتهم التي كانت أول دفعة تؤدي الامتحان بعد أربع سنوات (بدلاً من ثلاث) من الدراسة في المرحلة الثانوية:
«تقدم لأداء امتحان البكالوريا في ذلك العام 379 طالباً، نجح منهم 126، وكان أول الناجحين الطالب عبد الحميد بدوي، كما كان الثاني والثالث والثالث مكرر أديب شاهين، ومحمد صادق حسين، وعبد الرحمن الرافعي».
ومن الطريف أن الدكتور عبد الحميد بدوي زامل في مدرسة رأس التين الثانوية، ثم في مدرسة الحقوق كلاً من: أحمد أمين عميد الحقوق والمستشار بمحكمة النقض، وعبد الحميد أبو هيف الفقيه المصري العظيم الذي سبق أنداده جميعاً الى أدبيات القانون في العالم.
ومن الطريف أيضاً أن هذه الدفعة من دفعات كلية الحقوق أو مدرستها (دفعة 1908 التي التحقت بالمدرسة 1904) ، قد ضمت خمسة تولوا مناصب الوزارة في مصر، على اختلاف في تواريخ دخولهم الى الوزارة، فقد كان أولهم دخولاً للوزارة هو الغرابلي باشا، الذي دخل الوزارة عند تشكيل سعد زغلول لها في 1924، ثم أحمد ماهر، الذي دخل الوزارة قبل نهاية عهد وزارة سعد زغلول بشهر (أكتوبر 1924)، ثم هيكل باشا، الذي دخل الوزارة مع محمد محمود باشا في آخر أيام 1937، ثم عبد الحميد بدوي، الذي دخل الوزارة في ١٩٤٠، وأعطي أقدمية خاصة جعلته كالذين دخلوها في 1924 أو 1925، ثم عبد الرحمن الرافعي، الذي دخل الوزارة في 1949 ضمن حصة الحزب الوطني.
وقد كان من خريجي هذه الدفعة مَنْ زامل هؤلاء في الحياة المصرية وأثر فيها من خلال موقعه في الديوان الملكي، والسلك الدبلوماسي، وإن لم يتول منصب الوزير، وهو حسن نشأت باشا.
ونجد في بعض أديباتنا إشارة الى أن الدكتور عبد الحميد بدوي بدأ حياته بالتدريب على العمل بالمحاماة، لكنه فيما يبدو ترك هذا الطريق مبكراً، ولا نعرف في أي مكتب من مكاتب المحامين الكبار بدأ هذا التدريب، ولا انطباعاته عنه.
وقد روي أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد أنه كان هو الذي تولي تقديم الدكتور عبد الحميد بدوي الى عبد الخالق ثروت عقب تخرجه في كلية الحقوق.
ما بين النيابة و البعثة
ولما أعلنت الجامعة المصرية القديمة عن أول بعثة لها تقدم عبد الحميد بدوي، والسيد كامل لها، وقد وقع اختيار أعضاء اللجنة على السيد كامل، لكن عميد الصحافة المصرية في ذلك الوقت الشيخ على يوسف وجدها فرصة مناسبة لتمجيد عبد الحميد بدوي، والإشادة به، والحديث عما ينتظره من مجد في المستقبل، وكأنما كان الشيخ على يوسف بثاقب فكره، يقرأ الغيب.
ومن الطريف أن هذا المقال ساعد أولي الأمر على أن يبتعثوا الدكتور عبد الحميد بدوي في أقرب فرصة تالية، لكن ثروت باشا النائب العام تشبث ببقاء الدكتور عبد الحميد بدوي الى جواره، على حين آثر بدوي البعثة والاطلاع على الغرب ومعرفته.
هكذا كان قطبا الصحافة الكبيران الشيخ على يوسف صاحب «المؤيد»، وأحمد لطفي السيد مدير تحرير «الجريدة»، هما اللذان قدما الدكتور عبد الحميد بدوي للمجتمع المصري ولنخبته، وهكذا نري دور الصحافة والقلم في اكتشاف الموهبة، وصناعة المجد منذ الخطوات المبكرة لمن يستحقون المجد.
وقد أورد الأستاذ صبري أبو المجد على طريقته المعروفة في الكتابة، قصة بعثة الدكتور عبد الحميد بدوي الى تولوز، وانتقاله منها الى جرينوبل Grenoble .
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فقد روي الأستاذ يحيي حقي في كتابه «حقيبة في يد مسافر» أن اتجاه أولي الأمر في ذلك الحين كان يدفهم الى توجيه طلاب البعثات من جيل عبد الحميد بدوي، والمبتعثين للدراسة على نفقة ذويهم، بعيداً عن باريس، وأن هذا النهج كان سائداً منذ عهد مصطفي كامل، الذي ابتعث الى تولوز، وأنه لهذا السبب اشتهرت مدينة تولوز مقصداً لطلاب العلم المصريين.
كان موضوع رسالة الدكتوراه التي تقدم بها الدكتور عبد الحميد بدوي عن تطور فكرة حق الامتياز.
لم يطل عهد عبد الحمد بدوي في النيابة العامة إلا عاماً واحداً في مطلع حياته، وإن كانت المصادر التاريخية تذكر أنه قضي أربع سنوات في النيابة (1908 ـ 1911)، وليس هذا خطأ تماماً، ذلك أنه كان في بعثته الى فرنسا لايزال على ذمة النيابة العامة.
بعد عودته من بعثته عمل الدكتور عبد الحميد بدوي مدرساً في كلية الحقوق، وبالموازاة لهذا التألق المبكر في مجال الوظيفة والقانون، فقد كان للدكتور عبد الحميد بدوي تاريخ وطني، بدأ بانتخابه في لجنة الموظفين خلال ثورة 1919 التي كانت مكونة من 32 عضواً، وهي اللجنة التي تولت تنظيم إضراب جميع الموظفين حتى تجاب مطالبهم
ومن الإنصاف أن نذكر أن نقل الدكتور عبد الحميد بدوي الى محكمة طنطا كان هو الجزاء (العقابي) الذي وقع عليه بسبب اشتراكه في عضوية لجنة الموظفين التي نظمت إضراب الموظفين في ثورة 1919. وهكذا بقي في تاريخ الدكتور عبد الحميد بدوي ما يدل على أنه كان قادراً على أن يضحي من أجل ثورة الشعب.
على أن الدكتور عبد الحميد بدوي لم يواصل هذا الانحياز التام لسياسات الوفد تحت زعامة سعد زغلول، ذلك أنه وهو وكيل لمحكمة طنطا في 1920، كان أحد الثلاثة الذين تولوا الترويج لمشروع ملنر، وقد كان الآخران هما: عبد الحميد باشا مصطفي، ولبيب باشا عطية، وقد تصدي لهم عبد القادر حمزة باشا في جريدة «الأهالي» بحجج قانونية قوية، وأسلوب أدبي ساحر، ولم يكن فقهه ولا إلمامه بالقانون يقل عنهم، ثم انتهت المعركة حين صرح سعد زغلول نفسه بأن «مشروع ملنر حماية بالثلث».
وهكذا انتصر رأي الصحفي الأبلغ عبد القادر حمزة بفضل تصريح الزعيم الأكبر.
سكرتيرا عاما لمجلس الوزراء
بعد أن عمل الدكتور عبد الحميد بدوي بالقضاء وكيلاً لإدارة المحاكم بوزارة الحقانية ما بين 1916 و1920، ثم قاضياً بالمحاكم الأهلية بين 1920 و1921، اختير سكرتيراً عاماً لمجلس الوزراء عقب تشكيل وزارة عبد الخالق ثروت باشا في 1921 ، وفي بعض المصادر أنه كان قد تولي هذا المنصب منذ عهد وزارة عدلي باشا التي عرفت بوزارة الثقة ، فلما ترك منصبه مع استقالة وزارة ثروت باشا في 1922، أسعفه الحظ بأن يبدأ خطه البياني الصاعد في المهنة التي برع فيها ونبغ، حيث عين مستشاراً في لجنة قضايا الحكومة، أقدم الهيئات القضائية المصرية الحديثة، وكانت تتولي في ذلك الحين مهام القضاء والإفتاء والتشريع (وهي المهام التي آل بعضها فيما بعد الى جمعيات مجلس الدولة المصري ومحاكمه)، وكان لكل مستشار في هذه الهيئة نطاق من الاختصاصات المحددة بعمل الجهاز البيروقراطي للدولة، وتصادف أن تحدد اختصاص الدكتور عبد الحميد بدوي في وزارتي الأشغال والخارجية، وقضي في هذا المنصب الفترة ما بين 1922 و1926.
دوره في وضع دستور ١٩٢٣
وفي أثناء عمله بقضايا الحكومة اختير الدكتور بدوي عضواً في لجنة وضع الدستور، وسكرتيراً عاماً لها (1923)، كذلك فإنه لما تشكل مجلس الشيوخ كان من أعضائه المعينين.
ومنذ ذلك الوقت أسهم الدكتور عبد الحميد بدوي في صياغة كل التشريعات المصرية، وحل المشكلات القانونية للحكومة، كما أسهم في معظم جولات المفاوضات المصرية مع المحتل الإنجليزي، ومع الدول الأجنبية الأخرى.
وقد كان من الطبيعي أن يكون الدكتور عبد الحميد بدوي واحداً من الذين شاركوا في وضع دستور 1923، وتكاد الأدبيات التاريخية التي تناولت هذه الفترة تجمع على أن العناصر الفاعلة في لجنة وضع دستور 1923 كانت: إبراهيم الهلباوي، وعبد العزيز فهمي، وتوفيق دوس، وعبد الحميد بدوي، وأن الأخير كان أبرز هؤلاء الأربعة، وقد مكنته استقلاليته الظاهرة عن أي مجموعة سياسية، من أن يلعب دوراً توفيقياً بين جميع الاتجاهات. وبعد أن وضعت اللجنة السياسية الدستور، تم عرضه على لجنة من المستشارين القانونيين من أقطاب موظفي الحكومة المصرية العاملين في الشئون القانونية، وكانوا جميعا من الأجانب، باستثناء الدكتور بدوي.
وقد لخص الأستاذ محمد على رفاعي رأيه في أداء الدكتور عبد الحميد بدوي في لجنة وضع الدستور على سبيل الإجمال فقال:
«لقد كان الدكتور عبد الحميد بدوي في هذه اللجنة أكثر من رائع، ولو شئت أن أعيد مواقفه فيها ما وسعتها عشرات الصفحات، غير أنه بلغ الذروة في الإقناع وقوة الحجة في موقف وطني (هو موقفه من تمثيل الأقليات) لن ينساه له وطنه أبداً، ففيه درس قومي يجب أن يعيه أبناء هذا الجيل وعياً عميقاً يذكرونه دواماً».
ومن الطريف أن الدكتور عبد الحميد بدوي كان آخر مَنْ بقي على قيد الحياة من اللجنة التي وضعت دستور 1923 الشهير.
دوره في المفاوضات المصرية ـ البريطانية
بدأ عهد المفاوضات المصرية ـ البريطانية، حين شكل عدلي باشا يكن الوفد المصري المسافر الى لندن لمفاوضة وزير الخارجية البريطانية اللورد كرزون في 19 مايو عام 1921، وقدم عدلي يكن مذكرة وافق عليها مجلس الوزراء بتشكيل هيئة المستشارين الفنيين المصاحبين للوفد، الذي تولي رئاسته، وتكون من 14 مستشاراً، وكان الدكتور عبد الحميد بدوي السكرتير العام لهذه الهيئة، مما أتاح له فرصة حضور جلسات المفاوضات. استمرت المفاوضات أكثر من أربعة شهور (بين 13 يوليو 1921 و19 نوفمبر 1921)، عقد المفاوضون خلالها أربعا وعشرين جلسة، وتشير الوثائق الرسمية لهذه المفاوضات الى أن الدكتور عبد الحميد بدوي كان مسئولاً عن تسجيل محاضرها، بحكم أنه الوحيد من المستشارين الفنيين الذي كان حاضراً جلسات المفاوضات.
وعلى الرغم من أن الدكتور طه حسين يذهب بأسلوبه المرسل الى القول بأن الدكتور عبد الحميد بدوي شارك منذ ذلك الحين في كل المفاوضات المصرية ـ الإنجليزية، فإن الدكتور عبد الرزاق السنهوري لا يذهب الى هذا التعميم، وإنما هو يحدد هذه المسألة مدققاً فيقول:
«وتجري المفاوضات في المسألة المصرية أربع مرات متوالىة، والدكتور عبد الحميد بدوي في منصبه الكبير قريب منها في جميع الأحوال، وهو إذا كان لم يشترك في مفاوضات مصطفي النحاس في سنتي 1930 و1936، فإنه في أغلب الظن عاون عبد الخالق ثروت في المفاوضات التي أجراها في سنة 1927، من أولها إلى آخرها، وهو الذي صاغ عباراتها بقلمه المعروف، حتى ليتراءى لك وجه الفقيد من خلال السطور، وذلك فيما عدا بعض عبارات كيل له فيها الثناء، لم يشأ الفيد أن يكتبها، فكتبها رئيس الوزراء بقلمه».
حياته في القمة القضائية
ننتقل مع الدكتور عبد الحميد بدوي الى الفترة الذهبية من عمره التي قضاها في المؤسسة القضائية المعروفة الآن باسم هيئة قضايا الدولة، والتي كانت في ذلك الوقت معروفة باسم إدارة قضايا الحكومة، وكان اختصاصها يشمل أيضاً الاختصاصات التي تولاها مجلس الدولة والقضاء الإداري الآن. دام عمل الدكتور عبد الحميد بدوي بهذه الإدارة 19 عاما وشهرين (أكتوبر 1922 ـ ديسمبر 1941)، ورأسها 17 عاما متصلة، وهو ما لم يتحقق لأحد غيره، وطبعها بطابعه القانوني والفكري والوطني حتى أصبحت بصمة شخصيته على أعمالها أوضح من أن تنكر أو تتجاوز.
كان الدكتور عبد الحميد بدوي باشا أول مصري يعين مستشاراً بهيئة قضايا الدولة، كما كان أول مستشار ملكي وطني بها، وذلك في 5 أكتوبر سنة 1922، وكان أصغر مستشار بها، إذ كان في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان قلم قضايا الحكومة المختلطة في عام 1923 حين انضم الدكتور عبد الحميد بدوي إليه مكوناً من ثمانية مستشارين ملكيين، وخمسة مستشارين ملكيين مساعدين، وسبعة نواب أول، وأحد عشر نائباً، وستة وأربعين محامياً، وأربعين مندوباً، .
وقد روي الأستاذ صليب سامي في مقالة له عن إدارة قضايا الحكومة نشرت في «الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية»، قصة تعيين الدكتور عبد الحميد بدوي مستشاراً ملكياً:
«من المأثور عن تعيين بدوي باشا بلحنة قضايا الحكومة، أن المرحوم عدلي باشا يكن عرض في شيء من التردد على مسيو بيولا كازيللي تعيين بدوي بك مستشاراً ملكياً مساعداً، ولم يكن سبب تردد عدلي باشا في العرض شكه في كفاية مرشحه، وإنما تقليد لجنة القضايا في قصر عضويتها على الأجانب، ولكن مسيو كازيللي أجابه على الفور: لا يا دولة الباشا، إن لجنة القضايا لا تقبل أن يعين بدوي بك مستشاراً ملكياً مساعداً، لكنها تكون سعيدة جداً لو قبل (هو) أن يكون مستشاراً ملكياً، وهكذا دخل بدوي بك لجنة القضايا».
وقد صدق على أداء الدكتور بدوي في إدارة قضايا الحكومة ما أشار اليه ابنه السفير عبد الحليم بدوي من اهتمام والده وسعيه لاكتشاف الكفاءات الواعدة وتشجيعها، ودفعها وتهيئة السبل لها، وإتاحة الفرص أمامها، لكي تسهم بدورها في بناء المجتمع، وإدارة شئون البلاد، فقد كان دائم القول بأن الجيل الذي ينتمي الىه قد أدي دوره في الخطوط الأمامية، وقد آن الأوان لكي يحل محلهم مَنْ هم أكثر نشاطاً، وأقدر على تفهم مشاكل جيلهم. ولم تكن تلك دعوة للانسحاب قط، ولكنها استجابة لمتطلبات التجديد والتطوير، وعلى أن يكون دور الجيل السابق التوجيه عن بُعد، وتقديم الخبرة والمشورة عند استدعائها».
وقد أورد المستشار حسام عبد العظيم قائمة بأسماء المستشارين المصريين الذين ضمهم الدكتور عبد الحميد بدوي لقضايا الحكومة فقال:
«…… وبعد توليه رئاسة الهيئة أعاد تنظيمها الفني والإداري لينشئ وظائف جديدة يشغلها المصريون تمهيداً لتحرير الهيئة واستقلالها، وقصرها على أبناء الوطن دون غيرهم، وكان له ما تمني، وقام خلال فترة قصيرة من سنة 1926 حتي سنة 1933 بتعيين عشرة مستشارين مصريين، وهم: حليم دوس بك في 15 يونيو 1927، ومحمود حسن بك، ويونس صالح باشا، وصليب سامي بك في 30 يناير 1929، ومحمد رياض بك في 30 مارس، وأمين أنيس باشا في 31 يوليو 1930، وإلهامي جريس بك في 9 يونيو 1931، وسليم الباراتي بك في 10 أغسطس 1931، وأحمد نجيب الهلالي بك في 12 سبتمبر 1931، ويوسف مينا بك في 27 مايو 1933، وذلك مقابل اثنين فقط من الأجانب»..
مديح عبد العزيز فهمي باشا لأدائه
عن هذه الفترة التي قضاها الدكتور عبد الحميد بدوي في قضايا الحكومة تحدث الفقيه الكبير عبد العزيز فهمي حين آثر أن يرتجل كلمة في حفل استقبال الدكتور عبد الحميد بدوي عضواً في مجمع اللغة العربية أبان فيها عن تقديره المبكر له فقال:
«لم أتصل به كثيراً في شبابه، وفي مراحله الأولي، وإنما اتصلت به في سنة 1925، حينما كنت وزيراً للحقانية، وكانت اللجنة الاستشارية ـ لجنة القوانين ـ تعقد برياسة وزير الحقانية، وكان رئيس قسم القضايا في ذلك العهد الأستاذ الكبير كازيللي، وكان معه من المستشارين رجال أقوياء جداً في فقه القانون، كان معه واتليه، وروسيتي وغيرهما من الفقهاء الأجانب الكبار، وكان معه عبد الحميد بدوي، فالذي أشهد به وأقرره أنهم كانوا إذا تناقشوا في مسألة من المسائل، وأخذ الرأي فيها يضطرب، كان الدكتور عبد الحميد بدوي يفوقهم جميعاً رأياً، وكل يناقش في رأيه هذا، والدكتور عبد الحميد بدوي متي أبدي رأياً أيده، خضع لرأيه الجميع، وهذه شهادة أقررها، كما أقررها بين يدي الله».
ويشير الدكتور ماهر أبو العينين في دراسته التي ألقاها في احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية بعبد الحميد بدوي، الى أن الجميع شهدوا للدكتور عبد الحميد بدوي في إدارة قضايا الحكومة بكفاءته العالية، وسجل له التاريخ نشاطه التشريعي، وقد تمكن بشخصيته وتأثيره القوي أن يمتص المعارضات، ولكنه في بعض الأحيان لم يتحكم في التعيينات، إذ مارس وزير الحقانية سلطته في هذا الشأن، فعندما خلت وظيفة المستشار الملكي لقسم قضايا الزراعة والمعارف والحربية بدخول أحمد نجيب الهلالي الوزارة عام 1934، رشح الدكتور عبد الحميد بدوي لها رءوف زكي، فلم يوافق الوزير عليه وعين مستشاراً آخر.
قضايا الحدود والعلاقات الدولية
كان أول عمل تولاه الدكتور عبد الحميد بدوي فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية المصرية، واستقلال التراب الوطني، هو ما أشارت الىه أديباتنا التاريخية من أنه اشترك في اللجنة التي تولت بحث طلب إيطاليا ضم «جغبوب» الى الأراضي الليبية في عهد وزارة زيور 1925، لكنه شأنه شأن إسماعيل صدقي باشا، لم يوافق على هذا الطلب، وإنما اشترك في قرار هيئة المفاوضة الذي قال: إن جغبوب وواحتها ضروريتان للدفاع عن البلاد المصرية من الحدود الغربية.
ومن المعروف أن واحة جغبوب تقع على الحدود المصرية الطرابلسية (الليبية)، وقد تنازل عنها لإيطالىا أحمد زيور باشا وقت أن كان رئيساً للوزارة في سنة 1935.وقيل في ذلك الوقت إن رغبة إيطالىا في هذه الواحة وضرورة ضمها لطرابلس، نبتت سنة 1924 وقت أن كان المغفور له سعد زغلول باشا على رأس الوزارة، ولكن هذه الوزارة رفضت بطبيعة الحال هذا العرض، ثم عادت المفاوضة من جديد سنة 1925.
وقد نشرت الصحف المصرية في أكتوبر 1925 تشكيل اللجنة المصرية المعنية بالخلاف بين إيطاليا ومصر بشأن الحدود الفاصلة بين طرابلس ومصر. وكانت اللجنة المصرية مكونة برياسة إسماعيل صدقي باشا، وعضوية: الدكتور عبد الحميد بدوي باشا، واللواء حسن توفيق بدر باشا، واللواء أحمد شفيق باشا، وقد تقرر أن تسافر هذه اللجنة من الإسكندرية الى السلوم للاجتماع بالمندوبين الإيطاليين لترسيم حدود مصر الغربية.
رئاسة قضايا الحكومة
وفي عام 1926 تقاعد المسيو بيولو كازيللي رئيس قسم القضايا، وكان السبب وراء تقاعده هو موقفه من مسألة التعويضات التي أثيرت في أثناء حكومة يحيي إبراهيم، وإن كانت معظم أديباتنا التاريخية تحرص على المجاملة في هذه الواقعة فتذكر أنه ترك منصبه بحكم السن (فحسب)، هكذا خلا منصب مدير قضايا الحكومة، فلم تجد الحكومة خيراً من الدكتور عبد الحميد بدوي بين رجال القانون المصريين والأجانب ليحل محل الرئيس المتقاعد، فتم تعيينه رئيساً لقسم القضايا في أول مايو 1926، وكبيراً للمستشارين الملكيين وكانت سنه حينئذ تسعة وثلاثون عاماً. وأصبح بدوي باشا بهذا أول مصري يتولى رئاسة لجنة قضايا الحكومة «هيئة قضايا الدولة».
وفي هذا الموقع اكتسب الدكتور عبد الحميد بدوي كل ألقابه المجاملة والمهاجمة على حد سواء، بدءا من أنه «مفتي الدولة»، و«مفتي القرية»، و«المفتي الأكبر»، أو «مصنع العبقرية».
وفي عام 1943 أدخلت بعض التعديلات على قانون عام 1923، فألحقت إدارة قضايا الحكومة بمجلس الوزراء على أساس أنها هيئة عليا تتصل أعمالها بجميع الوزارات، ولكن لم يستمر الأمر طويلاً إذ صدر قانون سنة 1946 بحصر اختصاصها مع إنشاء مجلس الدولة.
استطاع الدكتور عبد الحميد بدوي خلال الأعوام الأربعة عشر التي تولي فيها رئاسة هذه اللجنة أن يمصرها كلها مع استثناء المستشار القضائي للحكومة في المحاكم المختلطة، وأصبحت على يده تتألف (على نحو ما أشارت صحف تلك الفترة التي اتيحت لنا) من أصحاب السعادة والعزة: محمد رياض باشا المستشار القضائي لوزارة العدل، ومحمود بك حسن المستشار القضائي لوزارتي المالىة والتجارة، ومحمد العشماوي بك المستشار القضائي لوزارة الأشغال، وعبد الرؤوف بك زكي المستشار القضائي للزراعة والمعارف والدفاع، وحبيب بك المصري المستشار القضائي للمواصلات والمنتدب لإدارة مصلحة الضرائب، وعبد القادر بك عبد الرازق المستشار القضائي للحكومة بالإسكندرية، ومحمد بك نجيب سالم المستشار القضائي لوزارتي الداخلية والصحة، والمسيو موريس جاكيه المستشار القضائي للحكومة في المحاكم المختلطة
وبحكم هذا المنصب الرفيع، وبحكم العلم الغزير الذي كان الدكتور بدوي يتحلى به، فقد واصل الدكتور عبد الحميد بدوي في كثير من المفاوضات المصرية مع الدول الخرى.
التعاون مع صدقي باشا
ومن الإنصاف لتاريخنا المعاصر بكل ما فيه من كفاح من أجل الدستور أن نذكر بكل وضوح أن الدكتور عبد الحميد بدوي هو الذي تولي وضع دستور 1930، بكل ما فيه من أوتوقراطية، وعداء للشعب، كما أنه هو الذي وضع مذكرته التفسيرية بناء على ما تصوره صدقي باشا لهذا الدستور. والواقع أن بدوي باشا كان يحظى بثقة صدقي باشا في الحدود التي تعبر عن مؤهلات الرجلين العظيمين.
وقد كان للدكتور عبد الحميد بدوي يد في إنهاء النزاع الذي صنعه صدقي باشا بجبروته ولدده في الخصومة، حين قررت حكومته تخفيض معاش الزعيم مصطفي النحاس باشا من ألف وخمسمائة جنيه في العام الى ألف جنيه فقط، وكان النحاس قد لجأ الى القضاء فأنصفه.
كان من الطبيعي أن يقوم الدكتور عبد الحميد بدوي بكثير من المهام لوطنه، وأن يشارك في كثير من لجان التنظيم والإدارة والمراقبة والمتابعة والتأسيس.
وعلى سبيل المثال فإنه في عام 1932، وفي عهد وزارة إسماعيل صدقي الأولي، شهد الدكتور عبد الحميد بدوي الاحتفال الرسمي بافتتاح مصيف مرسي مطروح، وقد سافر كبار رجال الدولة الذين قاموا بافتتاح هذا المصيف رسمياً من مطار ألماظة، وكانوا هم: على ماهر باشا وزير الحقانية، وعلى جمال الدين باشا وزير الحربية، والفريق سبنكس باشا المفتش العام للجيش المصري، والدكتور عبد الحميد بدوي رئيس إدارة قضايا الحكومة.
ومن خلال منصبه الرفيع هذا، اشترك في العديد من المؤتمرات القانونية الدولية فكان عضواً في مؤتمر القانون الدولي في لاهاي (1930)، وعضواً في مؤتمر النقد والاقتصاد في لندن (1933).
وفي 1935 بدأ الدكتور عبد الحميد بدوي أولي محاولاته لإنشاء مجلس الدولة المصري، إذ كان يري ضرورة إنشاء هذا المجلس استكمالاً للنظام القضائي المصري، وأعد أول مشروع لإنشاء هذا المجلس.
توكيد الاستقلال الوطني بإلغاء الامتيازات
كانت أعلى نقطة في منحني إنجازا الدكتور عبد الحميد بدوي في الحياة العامة، هي مشاركته الفذة في إنجاز معاهدة مونترو Montreux، وقد ظهرت مهارته القانونية، وحسه الوطني في المفاوضات التي أدت الى هذه المعاهدة التي تم توقيعها سنة 1937 متضمنة إلغاء الامتيازات الأجنبية على مصر، بكل ما كان في هذه الامتيازات من ثقل نفسي، وتشريعي، وقانوني، ولم يكن الإلغاء مجرد خطوة واحدة، لكنها كانت سبيلاً الى إلغاء المحاكم المختلفة بصورة نهائية بعد اثني عشر عاماً من التدرج، وهو ما تم حسب الاتفاق على مدي 12 عاما انتهت في 15 أكتوبر 1949، ليعود بذلك الاختصاص الى المحاكم الوطنية في كل المنازعات التي تثور بين الأجانب والمصريين، وما ترتب على ذلك من استرداد الدولة المصرية لسيادتها التشريعية والقضائية على الأجانب.
وقد تحقق هذا الإنجاز بعد أن تم توقيع معاهدة 1936 وما تقرر فيها من التزام بريطانيا بتقديم العون لمصر للتخلص من نظام الامتيازات مجسداً في المحاكم المختلطة، و برز اسم الدكتور عبد الحميد بدوي عندما تم تشكيل وفد على أعلى مستوي قانوني لتفاوض مع ممثلي الدول صاحبة الامتيازات فيما جري خلال العام التالي (1937) في المنتجع السويسري مونترو، وقد تشكل الوفد المصري المفاوض من: مصطفي النحاس رئيس الوزراء، وأحمد ماهر رئيس مجلس النواب، وواصف بطرس غالى وزير الخارجية، ومكرم عبيد وزير المالىة، والدكتور عبد الحميد بدوي رئيس أقلام قضايا الحكومة.
ويذهب الدكتور عبد الرزاق السنهوري في تصوير قيمة جهد الدكتور عبد الحميد بدوي في مؤتمر مونتريه الى أن يقول إنه الصانع الأول للمعاهدة، ولما كان الدكتور السنهوري قد ظل طيلة حياته وقد سيطرت عليه عداوته للوفد، وزعامة النحاس باشا، فإنه كان حريصاً على أن يثبت أن الوفد اضطر الى قبول بدوي عضواً في الوفد المصري، مع أنه (أي الوفد) كان يفضل أن يكون مستشاراً فحسب، لكن بدوي رفض هذه المعاملة.
ظلت معاهدة مونتريه بمثابة أكثر أعمال الدكتور عبد الحميد بدوي التي حظيت بإجماع المصريين على ثنائه، ومشاركته الفاعلة في نشاط الوفد المصري لإلغاء الامتيازات الأجنبية في مونتريه. وقد مجّد الشاعر أحمد الكاشف دور الدكتور عبد الحميد بدوي في مفاوضات مونترو بهذه الأبيات:
عبد الحمـيد بمــا أكسـبت قومــك في / قضية الدين بات القوم راضينا
في (المعرض) الفخم عنها خير ما نقلو/ لسامعــــين ومـــا أبــــدوا لرائــــينا
دوت بشــــائــــرهــــــا فــيــه فــــــــرددهـــا / للعالـم الدهــــر تصديقــا وتأميـنا
دفعـــت عــن مصــر غـــارات لدائنـــــــها / والدائنـــــون ســواء والمغــــيرونـا
ستين مليــــون جنـــدي حفـظـت لهــــا / لا مــن دنانــيرها ستــين مليـــــونا
قـضــية الىــــوم جـــاء للمـــــؤمــــــل في/ قضـــية الغــــد تأييـــــدا وتمكــــينا
وقـــــد تناولهــــا في شمـلــــهم رســــــل / سيـــرجعــون بهـــا غـــرا ميامــــينا
أما الدكتور محمد مصطفي القللي فقد وصف جهد الدكتور عبد الحميد بدوي في مؤتمر الامتيازات الأجنبية فقال ضمن حديث طويل :
«حدثني صديق نقلاً عمن شهد مونتريه هذا، أن عظمة الدكتور عبد الحميد بدوي قد تجلت في هذا المؤتمر، سواء من حيث سعة الاطلاع، والعمق في القانون، أو قوة الحجة في الجدل والمناقشة، والبراعة في التخلص من المآزق وحل المشكلات، والتقريب بين وجهات النظر المتعارضة، فكان كالعهد به محط الأنظار جميعاً، وموضع الإعجاب، ومبعث النور، إذا أظلم الجو، وضاقت السبل».
«لقد فاجأ المندوب البريطاني وفدنا في أول جلسة فطلب الإدلاء ببيان عن أصل هذه الامتيازات وتطورها، وما آلت اليه، وما تأخذه مصر عليها، فانبري عندئذ الدكتور عبد الحميد بدوي وارتجل كلمة ضافية كانت بمثابة محاضرة من أستاذ ثبت متمكن، عرض فيها لنشأة هذه الامتيازات، وكيف أنها منحت في أول الأمر من قبيل التفضل، وأبرز الصورة البغيضة التي انتهت اليها، إذ أصبحت قيوداً ثقيلة تمس سيادة البلد في الصميم، وتكبل يديه في التشريع، وفي كل ما تدعو اليه الحاجات من إصلاحات مالية، وإدارية، واجتماعية، وما تنطوي عليه من إهانة بالغة، وإيثار للأجنبي على أبناء البلاد ذاتها، ولقد كان لهذه الكلمة البليغة البارعة أكبر أثر في التمهيد لقبول وجهة النظر المصرية».
ومن أبرز فقرات الثناء على دور الدكتور عبد الحميد بدوي في هذه الاتفاقية، ما رواه إبراهيم عبد الهادي في مذكراته التي نشرت في الثمانينيات من القرن العشرين وتدارسناها في كتابنا «الوفد والعمل السري».. ونحن نعرف أن إبراهيم عبد الهادي كان يعطي أهمية كبيرة للخطوة التي تمت عقب معاهدة 1936 بإلغاء الامتيازات الأجنبية من خلال معاهدة مونتريه، وأنه كان حريصاً على الإشادة القصوى بزعيمه أحمد ماهر وبأدائه في هذه المفاوضات، وهو أداء لقيّ إعجاب الجميع وتقديرهم، ولكنه كان حريصاً على أن يقرن هذه الإشادة بإشادة أخري بالدكتور عبد الحميد بدوي وجهده في المفاوضات:
«واستطاع الوفد المصري في مؤتمر مونتريه أن يدير المناقشات إدارة موفقة بفضل الدكتور أحمد ماهر، وعبد الحميد باشا بدوي، فقد كان الاثنان قوة هائلة في أثناء المناقشات».
نشاطه القانوني في الداخل والخارج
وفيما بعد هذا النجاح الساحق في مؤتمر الامتيازات الأجنبية عاد الدكتور عبد الحميد بدوي الى حصنه الحصين في إدارة قضايا الحكومة، ولا يتسع المقام في مثل هذا الكتاب لحصر ما أشارت اليه متابعات الصحف اليومية والأسبوعية من نشاط الدكتور عبد الحميد بدوي في كثير من مجالات العمل الوطني المختلفة وذلك من خلال موقعه في رئاسة إدارة قضايا الحكومة، لكننا على كل حال لابد أن نضرب بعض الأمثلة على مشاركاته المهمة في عام 1938، وهو العام التالي لنجاحه البارز في اتفاقية مونترو.
فقد نشرت الصحف في يوليو 1938 أن عبد الحميد بدوي، وكان كبير المستشارين الملكيين، قد اشترك مع حبيب المصري بك المستشار الملكي بوزارة المواصلات، وممدوح مرسي وكيل مصلحة الإحصاء في إعداد المشروعات الجديدة الخاصة بضريبة الدخل، وضريبة الدمغة، وضريبة التركات في صيغتها الجديدة.
وفي عام 1938 أيضاً رأس الدكتور عبد الحميد بدوي المؤتمر الدولي لتوحيد قانون العقوبات الذي انعقد في القاهرة.
وقد مثل الدكتور عبد الحميد بدوي مصر أكثر من مرة في اجتماعات عصبة الأمم المتحدة، وفي سبتمبر 1938 حضر اجتماعاتها التي انعقدت في جنيف.
ومما يذكر أن الدكتور عبد الحميد بدوي كان وهو رئيس للجنة قضايا الحكومة، قد انضم لعضوية اللجنة المؤلفة لبحث المبادئ العامة لإصلاح قضية الأحوال الشخصية لغير المسلمين، وانضم معه المسيو موريس لينان دي بلفون المستشار الملكي لقسم قضايا وزارة الحقانية، ونحن نعرف أن هذا الجهد تم تتويجه بما عرف بلائحة 1938 الشهيرة.
كذلك فإن الدكتور عبد الحميد بدوي ظل يمثل مصر في معظم اجتماعات عصبة الأمم، وتذكر صحف 1938 أنه شهد اجتماعات العصبة التي انعقدت في شهر سبتمبر في جنيف.
وقد كان الدكتور عبد الحميد بدوي على وجه العموم قادراً من خلال موقعه في إدارة قضايا الحكومة على أن يساند الوزارات غير الحزبية في مواجهة السطوة الإعلامية المتكررة، وقد روي حسن يوسف باشا في مذكراته أن الدكتور عبد الحميد بدوي دعم رئيس الوزراء حسن صبري في أزمته مع جريدة «الأهرام» في إصدار الأمر العسكري بتحديد حجم الصحف.
وقد ظل الدكتور عبد الحميد بدوي بمنأى عن الانخراط في المناصب الوزارية والحكومات المتوالىة، على الرغم من أن بعض مرؤوسيه في هيئة قضايا الحكومة قد اختيروا لتولي المناصب الوزارية، ومن هؤلاء على سبيل المثال صليب سامي باشا، الذي دخل الوزارة في نهاية عهد وزارة إسماعيل صدقي في 1933. وقد كان مفهوماً أن حرص الدكتور عبد الحميد بدوي على منصبه ومكانته في لجنة قضايا الحكومة يحولان بينه وبين الاندفاع الى قبول منصب من المناصب الوزارية، وما تشهده من تقلبات حادة وسريعة، وبخاصة أنه لم يكن منتمياً الى الوفد الذي كان بمثابة حزب الأغلبية، ومع هذا فقد ظل اسم الدكتور عبد الحميد بدوي يتردد من آن لآخر في الترشيحات الوزارية المتوالية، بل إنه كان في بعض الأحيان مرشحاً لأن يشكل هو نفسه (الذي لم يدخل الوزارة بعد)، وزارة تكنوقراطية.
ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، ورفض النحاس باشا فكرة أن يرأس الحزب وزارة قومية، ثم تشكيل وزارة حسن صبري، وبعد وفاته المفاجئة، تولي حسين سري باشا رياسة الوزارة، وهو الرجل الفني التكنوقراطي المهندس، وعندئذ وجد أولو الرأي أن من الخير أن يدعم حسين سري بوجود الدكتور عبد الحميد بدوي معه في الوزارة.
وهكذا فإن تمنع الدكتور عبد الحميد بدوي عن الاشتراك في الوزارة انتهي بقبوله دخول وزارة سري باشا في ديسمبر 1941، ومن الواضح أنه لم يقبل هذا المنصب إلا بعد إلحاح شديد، وبعد أن استوثق لنفسه من مكانة كان يحبها له معجبوه.
تأييده لسياسة على ماهر في تجنيب مصر ويلات الحرب
وربما أن الدور السياسي المتوقع للدكتور عبد الحميد بدوي في وزارة سري باشا لم يكن يقل عن دوره المالي والتنظيمي فيها، بل ربما كان أكثر بروزاً في أديباتنا، ويعود السبب في هذا الى ما عرف من مواقفه موقفه القوي والواضح الى جانب رأي علي ماهر باشا القائل بتجنيب مصر ويلات الحرب العالمية حين برزت هذه القضية على الساحة السياسية.
ومن الحق أن نقول إنه كان للدكتور عبد الحميد بدوي رأي واضح في هذه القضية منذ بدأ الحديث عنها في وزارة على ماهر الثانية (1939). وكان الدكتور عبد الحميد بدوي أميل الى التريث في دخول الحرب، وذلك في مقابلة الحماس الشديد الذي أبداه الوزراء السعديون تجاه دخول الحرب، وقد تأكد هذا الرأي الذي تبناه الدكتور عبد الحميد بدوي عندما أصبح هو نفسه عضواً في الوزارة، ومن حسن الحظ فإن الأدبيات التاريخية تشير الى كثير من التفصيلات فيما يتعلق بهذا الرأي.
وقد روي حسن يوسف باشا أن السفير البريطاني تحدث في برقيته لحكومته بما يشي بضيقه من تبني رئيس الوزراء على ماهر باشا للرؤية التي طرحها الدكتور عبد الحميد بدوي (رئيس قضايا الحكومة) في مذكرته التي أيد بها التريث(!!) وضرورة عرض الأمر على البرلمان.
ويعلق حسن باشا يوسف بقوله:
«لم تشأ الحكومة البريطانية أن ترد على مذكرة بدوي باشا، أو أن تدخل في مناقشة قانونية حول الحرب الهجومية والحرب الدفاعية، وقد أبرق لورد هالىفاكس في 13 سبتمبر الى سفيره في مصر ينصحه بذلك وبأن يوقف الضغط على الحكومة المصرية لأن إعلان قيام حالة الحرب يتطلب موافقة البرلمان، ولأن الفرصة التي أتاحها قرار مجلس الوزراء الصادر في 7 سبتمبر قد ضاعت».
وقد أكد الدكتور حسين حسني باشا سكرتير الملك فاروق على دور الدكتور عبد الحميد بدوي في هذه الفترة فيما رواه في مذكراته عن هذه الفترة، وهو ما تدارسناه من قبل في كتابنا «في كواليس الملكية».
«إلا أنه في خلال الأخذ والرد بين الطرفين ـ لشدة تمسك السفير برأيه ـ أخذ على ماهر باشا يحاول إيجاد حل للتوفيق بين الوضع الجديد ـ بعد وصول برقية نشأت باشا ـ وبين ما كان قد تم الاتفاق عليه مبدئيا من قبول إعلان الحرب، فطلب الى الدكتور عبد الحميد بدوي باشا رئيس لجنة قضايا الحكومة إذ ذاك والمستشار القانوني لمجلس الوزراء أن يضع مذكرة لتأييد رأي الحكومة في وجوب التريث والتفرقة بين الحرب الهجومية والحرب الدفاعية، وبلغ من اهتمام الملك بالموقف أنه حضر بنفسه إعداد هذه المذكرة، وهو ما أثار السفير البريطاني عندما علم بذلك وجعله يقول: «… آمل ألا ينزلق جلالته الى ما لا تحمد عقباه».
ونحن نعرف من أديباتنا التاريخية أن قضية اشتراك مصر في الحرب العالمية كانت قد طرحت على ثلاث جلسات سرية في مجلس النواب، انتهت بفوز واضح لسياسة الحكومة، إذ جاءت نتيجة التصويت في صالح عدم إعلان الحرب (122 صوتا، ضد 68 صوتاً)، وهو الأمر الذي دفع السعديين الى عدم الإصرار على موقفهم المنادي بدخول الحرب، ويري الدكتور يونان لبيب رزق أن السفير البريطاني في القاهرة عزا هذا النجاح الى شخصية حسين سري من ناحية، والى استطاعته تكوين وزارة قوية متماسكة كان الدكتور عبد الحميد بدوي باشا من أهم عناصرها، والواقع أن استنتاج الدكتور يونان فيه قفز على حقيقة مهمة، وهي أن الدور الذي أداه الدكتور عبد الحميد بدوي في هذه القضية كان قبل دخوله الوزارة، وقد أداه من موقعه المفضل رئيسا لقضايا الحكومة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد في المداولات التي سبقت دخول الدكتور عبد الحميد بدوي الوزارة، ثم التي حدثت في أثناء عمله وزيراً للمالية. ففي سبتمبر عام 1941 تقدمت الحكومة المصرية باقتراح للسفارة البريطانية باعتبار بعض بلاد مصر مدنا مفتوحة مثلما حدث مع باريس، وحددت القاهرة وطنطا وبعض عواصم المديريات ذات الأهمية التاريخية والدينية، وبرغم أن المصادر لا تسعفنا بمن كان وراء هذه الفكرة القانونية البديعة، فإن كل الدلائل تشير الى أنه لم يكن هناك سوي الدكتور عبد الحميد بدوي رئيس قضايا الحكومة في ذلك الوقت. ومن المعروف أن الجانب البريطاني قد رفض الفكرة متعللاً بعدم جدواها من الناحية العسكرية، وأن الألمان لا يحترمون تعهداتهم، فضلاً عن أن القاهرة هي المركز الرئيسي للجيش المصري.
تألقه حين تولى وزارة المالية
يري السفير عبد الحليم بدوي أن والده كان عزوفاً عن خليقة واقتناع عن العمل السياسي بمعناه الضيق، فقد كان يري أن تلك الممارسة السياسية قد لا تتفق تماماً مع ما استهدفه لنفسه من دور في الحياة العامة، فللعمل السياسي أربابه، وللعمل القانوني أربابه».
«وإذا كان التداخل بين المنصب الذي كان يشغله وبين الأحداث السياسية التي كانت تمر بها البلاد فرضت عليه دوراً، وإن لم يكن اختاره لنفسه، فما كان ذلك إلا لأن شعوره الوطني، والتزامه الأدبي كان يحتم عليه القيام به».
وقد أشرت في كلمتي في حفل الجمعية الخيرية الإسلامية الى حقيقة مهمة، وهي أن الدكتور عبد الحميد بدوي كان الوزير الوحيد في عهد الليبرالية (1919 ـ 1952) الذي دخل الوزارة بترتيب خاص، حيث نص المرسوم الملكي على أن يكون له الحق في العودة الى منصبة كرئيس لقضايا الحكومة، وأن يحتفظ له بهذا المنصب طيلة توليه الوزارة، على ألا يباشر عمله فيه. صحيح أن الدكتور عبد الحميد بدوي لم يعد الى هذا العمل بعد استقالته من الوزارة، لكن هذا يعطينا فكرة عن مدي الاسترضاء الذي حصل عليه الرجل حتى يقبل بالعمل وزيراً، ولم يكن هذا هو الاسترضاء الوحيد، وإنما كان هناك استرضاء آخر يتعلق بأقدميته بين الوزراء، حيث جاءت أقدميته سابقة على الوزراء الذين تولوا الوزارة قبله.
دخل الدكتور عبد الحميد بدوي الوزارة بعد فترة من تشكيل وزارة حسين سري باشا ، وكان وزير الدفاع في تلك الوزارة صالح يونس باشا قد توفي، وكان من الوزراء المستقلين، وهكذا فإن رئيس الوزراء تمكن من إدخال تعديل محدود على الوزارة بأن نقل حسن صادق وزير المالية الى وزارة الدفاع، وعين الدكتور عبد الحميد بدوي باشا وزيراً للمالية، وقد فهم المراقبون السياسيون أن دخول بدوي الوزارة ومشاركته فيها أو قبوله لها كان بصفته قانونياً قديراً يستهدف دعم جانب رئيس الوزراء في المعركة التي فرضها عليه الوزراء السعديون كما فرضوها على سلفه، وهي معركة التخلي عن سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب والمشاركة فيها الى جانب الدول الديمقراطية.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن من الطريف أن الدكتور عبد الحميد بدوي كان هو نفسه مَنْ أيدّ أحمد ماهر (فيما بعد وضع الحرب العالمية أوزارها) في ضرورة إعلان الحرب على المحور حينما اقترب الحلفاء من النصر، واشترطوا أن تقوم مصر بإعلان الحرب لحضور المؤتمر الذي ينظم قواعد النظام الدولي الجديد.
و على أية حال ، فقد أصبح الدكتور عبد الحميد بدوي وزيراً متقدماً في وزارة سري باشا واستمر فيها، وقد تأكد الوضع البروتوكولي الاستثنائي للدكتور عبد الحميد بدوي عند تشكيل وزارة حسين سري باشا الثانية التي تشكلت في 31 يوليو 1941، جاء اسم الدكتور عبد الحميد بدوي بعد أحمد خشبة مباشرة ليكون ثاني الوزراء سابقاً بهذا على كل مَنْ كانوا قد تولوا الوزارة قبله وهم: صليب باشا سامي، ومحمود غالب باشا، والدكتور محمد حسين هيكل باشا، والشيخ مصطفي عبد الرازق باشا ، وحامد محمود باشا، وإبراهيم عبد الهادي، وعبد القوي أحمد باشا، وحسن صادق باشا، وإبراهيم دسوقي أباظة، ومحمد راغب عطية بك، والدكتور عبد الرحمن عمر بك، ومحمد حامد جودة.
ومن حق الدكتور عبد الحميد بدوي في هذا المقام ان نشير الى أن علاقته برئيسي الوزراء اللذين عمل معهما (أي حسين سري والنقراشي) كانت علاقة تبجيل زائد منهما له، وقد كان كلاهما يصغرانه في السن، ولما كنا لا نزال في حديثنا عن عمله مع الأول، فإننا نشير الى أننا وجدنا في أوراق الدكتور عبد الحميد بدوي رسالة بخط يد حسين سري باشا رئيس الوزراء، يطلب اليه أن يكتب خطاب العرش الخاص بوزارته.
ثم حدثت أزمة خروج الدكتور عبد الحميد بدوي من وزارة سري باشا في يناير 1942، وهي أزمة متعددة الزوايا آذت مشاعر كثير من محبي الرجل على نحو ما هو واضح بجلاء في عدد من الرسائل المعروفة التي جعلت الكثيرين يتحدثون عن فضله، وعن قيمته، وربما أن الدكتور عبد الحميد بدوي لم ينل حظ مناقشة شخصيته وفكرة وأدائه إلا بسبب هذا الخروج المباغت من وزارة سري باشا.
ولقد لفت الأستاذ مصطفي بهجت بدوي النظر الى المفارقة الكبيرة في حياة عبد الحميد بدوي، الذي لم يشغل اسمه الصحافة بطريقة مدوية إلا في واقعة واحدة حين ثار الخلاف بينه وبين الملك فاروق حول جزيرة الذهب، وقد كتب الأستاذ مصطفي بهجت بدوي هذه القصة في الذكري السابعة لرحيل عمه في مقال بعنوان «في رحاب التاريخ».
وقد حرص حسن يوسف في مذكراته على أن يلقي الضوء السريع على علاقة الدكتور عبد الحميد بدوي بأحمد حسنين باشا في تلك الفترة، وعلى ترشيحه لرياسة الوزارة، وعلى استقالته المفاجئة:
«وكان بدوي باشا على صلات قوية برئيس ديوان الملك (أحمد حسنين باشا)، وكان القصر يرشحه لرئاسة الوزارة، ولكن حدث في 26 ديسمبر 1941 أن ذهب الى وزارة المالية وجمع أوراقه الخاصة واعتكف، ثم أذيعت استقالته من الوزارة في 5 يناير سنة 1942 وتولي حسين سري وزارة المالية مؤقتا مع بقائه وزيرا للداخلية».
جهوده حين تولى وزارة الخارجية
بقي الدكتور عبد الحميد بدوي باشا بعيداً عن الوظائف العامة بعد خروجه من وزارة سري باشا، وتشير بعض الأدبيات الى أن النية كانت متجهة لعودة الدكتور عبد الحميد بدوي الى منصبه السابق مديراً لإدارة قضايا الحكومة، لكن الوزير الوفدي البارز مكرم عبيد ظل يلح في مقاومة إتمام مثل هذه الخطوة رغم صدور المرسوم الملكي الذي نصّ على احتفاظ بدوي باشا بوظيفته، وهكذا حسم الأمر بتعيين أمين أنيس باشا رئيسا لهيئة قضايا الحكومة.
وفي 1945 عاد الدكتور عبد الحميد بدوي لدخول الوزارة بعد ثلاثة أسابيع من تشكيل النقراشي باشا لوزارته الأولي، التي أعقبت اغتيال أحمد ماهر، وقد اختار النقراشي للدكتور عبد الحميد بدوي أن يتولى وزارة الخارجية التي كان النقراشي يتولاها بنفسه (مع رياسة الوزارة)، على نحو ما كان سلفه أحمد ماهر يتولاها بنفسه (مع رياسة الوزارة). ولم يعلن النقراشي عن دخول الدكتور عبد الحميد بدوي وزارته الثانية وزيراً للخارجية إلا عقب اللقاء بالملك فاروق، أما قبل ذلك فقد كان المعروف أن النقراشي سيحتفظ بوزارة الخارجية بالإضافة الى رياسة الوزارة.
وسرعان ما كان تولي عبد الحميد بدوي، بالاشتراك مع إبراهيم عبد الهادي باشا، رئاسة الوفد المصري الذي شارك في الاجتماعات التي عقدت في سان فرانسيسكو لتأسيس هيئة الأمم المتحدة.
لكن الحديث عن مؤتمر سان فرانسيسكو ومشاركة الدكتور عبد الحميد بدوي به يقتضي الإشارة الى أن مصر كانت تلقت في 5 مارس من العام نفسه دعوة من الولايات المتحدة الأمريكية، بالنيابة عن الدول الكبرى، للاشتراك في مؤتمر يعقد في سان فرانسيسكو في 25 أبريل (الشهر التالي) لإعداد ميثاق الهيئة العالمية الجديدة التي تحل محل عصبة الأمم».
«وقبلت مصر الدعوة، فكانت الدولة التاسعة والثلاثين بين الدول التي كان لها شرف الاشتراك في وضع ميثاق هذه الهيئة (هيئة الأمم المتحدة)».
وقد روي النقراشي باشا للصحافة أنه قال للدكتور عبد الحميد بدوي عند تشكيل وفد مصر الى مؤتمر سان فرانسيسكو ما معناه: كنا نعتمد عليك ثلاثة أرباع الاعتماد، ولما فكرنا في تغيير الوفد والاقتصار على هيئته الحالية قلت (الضمير يعود على النقراشي باشا) إننا نعتمد عليك (الضمير يعود على عبد الحميد بدوي) الآن الاعتماد كله.
ومن الإنصاف أن نشير الى أن جهود الدكتور عبد الحميد بدوي في وزارة الخارجية لم تقف عند حدود إنجاز ميثاق الأمم المتحدة، وقضايا العلاقات الخارجية، وإنما ينبغي لنا أن نشير الى أنه كان واحداً من وزراء الخارجية القلائل الذين حرصوا على تجديد شباب الوزارة، والبعثات الدبلوماسية بأسلوب علمي بعيد عن الروتينية والمحاباة، وهو ما يمكن ملاحظته مما يرويه الدكتور عصمت عبد المحيد في مذكراته التي تناولناها في كتابنا «من أجل السلام».
دوره في وضع ميثاق هيئة الأمم المتحدة
أكرر هنا ما ذكرته من قبل من أن إسهام الدكتور عبد الحميد بدوي في وضع ميثاق هيئة الأمم المتحدة كان بمثابة خطوة فاصلة وواصلة بين مرحلتين كبيرتين في مسيرة حياته الوظيفية والسياسية والعامة، فبهذا الإسهام توج خدماته التنفيذية للحكومة المصرية، حين كان وزيراً للخارجية، وبهذا الإسهام أيضا بدأت علاقته بالمجتمع الدولي الذي انتقل اليه بعد ذلك مباشرة قاضياً مرموقاً ومنتخباً في محكمة العدل الدولية.
ومما يذكره التاريخ أن الدكتور عبد الحميد بدوي طالب خلال مؤتمر سان فرانسيسكو بإلغاء حق النقض الذي خول للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، أو على الأقل تخفيف وطأته، وحظي في هذا الشأن بتأييد العديد من الدول المشتركة، ولكنه ووجه بإصرار الدول المنتصرة وتصميمها على الاحتفاظ بهذا الحق غير منقوص.
وقد أثبت الدكتور بدوي في هذا المؤتمر أن للشريعة الإسلامية من المقومات والمميزات ما يجعلها من النظم القانونية الرئيسية في العالم التي ينبغي أن يكفل تمثيلها في محكمة العدل الدولية.
كما تجدر الإشارة الى أنه طالب أيضاً خلال المؤتمر بأن يتضمن الميثاق تعريفاً للعدوان تسهيلاً لأعمال مجلس الأمن عند مباشرة مهامه في المستقبل، وهو التعريف الذي قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بإقراره بعد حوالى ربع قرن من إنشاء المنظمة.
زمالات عربية و عالمية
زامل الدكتور عبد الحميد بدوي باشا في اجتماعات سان فرانسيسكو كلاً من: الأمير (الملك فيما بعد ) فيصل رئيس الوفد السعودي (ومن الطريف أن الأمير نواف كان مرافقاً للأمير فيصل في هذا الوفد)، وتحفل الصحافة المصرية الناطقة بالعربية وبالإنجليزية وبالفرنسية بصور يجتمع فيها الملك فيصل مع الدكتور عبد الحميد بدوي والسيدة زوجته في الحفلات التي أقيمت للوفدين المصري والسعودي على حد سواء. وكان من رؤساء وأعضاء الوفود العربية في مؤتمر سان فرانسيسكو، فارس الخوري رئيس الوفد السوري، الذي تولي رياسة الوزارة، وأرشد العمري رئيس الوفد العراقي، ووديع نعيم، أما حاكم ولاية كاليفورنيا في ذلك الوقت فكان المستر وارن، الذي لم يكف عن إظهار الاحتفاء بالوفود التي صاغت ميثاق الأمم المتحدة.
كذلك كان من الموقعين على الميثاق شارل مالك وزير خارجية لبنان الأسبق، وقد قدر لهذا الوزير اللبناني أن يعيش حتى يشهد الاحتفال بمرور أربعين عاماً على توقيع ميثاق الأمم المتحدة.
كذلك فقد زامل الدكتور بدوي في هذا المؤتمر وزير الخارجية البريطانية الشهير مستر آتلي، الذي صار بعد ذلك رئيساً للوزراء في بريطانيا. أما الوفد الأمريكي فكان برياسة وزير الخارجية اتشيسون، وقد ضم فيمن ضم جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكية فيما بعد. أما الوفد السوفيتي فكان برياسة وزير الخارجية مولوتوف، وكان وفداً كبيراً ضم فيمن ضم أندريه جروميكو وزير الخارجية السوفيتية بعد ذلك
كلمة مصر في ختام اجتماعات تأسيس الأمم المتحدة
وقد ألقي الدكتور عبد الحميد بدوي كلمة باسم مصر في الجلسة الختامية لمؤتمر سان فرانسيسكو. وكان المؤتمر قد وافق بكامل هيئته على الميثاق والاتفاقات المؤقتة، ووجه الرئيس ترومان (الرئيس الأمريكي) خطاباً الى المؤتمرين في جلستهم الختامية. أما كلمة بدوي باشا فقد ألقاها باللغة العربية في أثناء الحفل الذي أقيم بمناسبة توقيع الميثاق وقال فيها:
«إني إذ أوقع هذا الميثاق بالنيابة عن وفد مصر، لأرجو أن يكون فاتحة عهد جديد، ينعم فيه الناس جميعاً بالسلام والرخاء، وينسي العالم أهوال الحرب وتضحياتها، ويهيئ الأمم لحياة دولية جديدة تقوم على احترام استقلال الدول جميعاً وسيادتها، وتوفير الحرية والكرامة لكافة البشر، وتضافر جميع أعضاء الهيئة وتعاونهم على إقامة السلام، وإشاعة الخير بين الناس».
«وهذا الميثاق تجربة جديدة لا تبرأ بحال من عيوب نشأت من ظروف العالم التي يمر بها في الوقت الحاضر، لكنه مع ذلك تجربة عامرة بالإيمان الراسخ، ناطقة بسلامة القصد، وصدق العزيمة، وهي من أجل هذا حقيقة بالنجاح الكبير حرية ببلوغ الغاية، وإذا ما ظهر عيب عند العمل بالميثاق فإن في أحكام تعديله ما يرده الى السلامة، وإنا لندعو الله أن يمد في حياة الهيئة، وأن يجعل في اجتماع ممثلي الأمم المتحدة كل عام ما يشيع الثقة بين الأمم، ويزيل من بينها أسباب الخلاف، ويحرر العالم من نزعة السيطرة والاستعمار، ويرقي بالمدنية، ويهيئ للناس جميعاً سبيل الحياة في سلام وطمأنينة».
تتويج حياته بعضويته في محكمة العدل الدولية
كان إسهام الدكتور عبد الحميد بدوي في وضع ميثاق هيئة الأمم المتحدة بمثابة خطوة فاصلة وواصلة بين مرحلتين كبيرتين في مسيرة حياته الوظيفية والسياسية والعامة، فبهذا الإسهام توج خدماته التنفيذية للحكومة المصرية، بعمله وزيراً للخارجية في هذه الفترة التي بدأت فيها خريطة العالم تتشكل من جديد، وبهذا الإسهام أيضا بدأت علاقته بالمجتمع الدولي الذي انتقل اليه بعد ذلك قاضياً مرموقاً في محكمة العدل الدولية.
وقد ظل الدكتور عبد الحميد بدوي عضواً في محكمة العدل الدولية حتى توفي، وخلفه في مقعده لبناني هو الوزير فؤاد عمرون، وكان وزيراً سابقاً للخارجية في بلاده، وقد انتخب لمقعد الدكتور بدوي في 16 نوفمبر 1965.
مؤلفاته و دوره في المجتمعات العلمية المصرية
على مدي تاريخ حياته العلمية كان الدكتور عبد الحميد بدوي أحد وجوه المجتمع العلمي المصري بلا جدال، وكانت مكانته العلمية والقانونية تفرض على هذه المجتمعات ألا تتخطاه في عضوية أو نشاط، وقد كان منذ مرحلة مبكرة عضواً في المجمع العلمي المصري، وقد انتخب كما نعرف لعضوية مجمع اللغة العربية، ولغيره من الأكاديميات المصرية، ومجلس إدارة الجمعية المصرية للقانون المدني، كما كان عضواً في جمعية القانون الإداري.
كان أول عهد الدكتور عبد الحميد بدوي بمجمع اللغة العربية حين عين عضواً في أبريل 1945 بعد انتخابه في الكرسي الذي خلا بوفاة أول رئيس للمجمع محمد توفيق رفعت باشا، وحين استقبل في أكتوبر 1945 بدأ أعماله مع بدء المجمع دورته الثانية عشرة، بيد أن الإنصاف يقتضينا أن نشير الى أن مشاركة الدكتور عبد الحميد بدوي في تأسيس تقاليد المجمع تدفع بصورته وبإنجازاته عند التأريخ للمؤسسة المجمعية الى أن يكون ضمن المؤسسين. وكان حفل استقبال الدكتور عبد الحميد بدوي عضواً في مجمع اللغة العربية (في 29 أكتوبر 1945)، حفلاً مشهوداً.
وفي موكب الخالدين فقد كان الدكتور عبد الحميد بدوي مجمعيًا عظيمًا بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ومن حسن حظه أنه كان ثالث عضو منتخب في تاريخ المجمع مع أنه كان مجَّمعيًا منذ العصر الأول لمجمع اللغة العربية، حين كان التعيين هو الأسلوب المتبع لتكوين النخبة المجمعية ، وقد انتخب الدكتور بدوي بأغلبية الثلثين بعد جدل طويل كان الاتجاه السائد فيه أن تؤجل الانتخابات الى دورة تالية، لكن فضل الدكتور بدوي وإشعاعه تكفلا له بأن يفوز قبل أن تنتهي الجلسة، ولم يكن ترشيح الدكتور عبد الحميد بدوي لعضوية المجمع بالأمر السهل، فقد رُشح وهو وزير للخارجية، وكان الرأي الغالب أن ينأى المجمع بنفسه عن أن يختار لعضويته مَنْ هو من رجال الحكم الحاضر!! وكان هذا هو نص التعبير المهذب الذي رأي المجمعيون أن يبعدوا أنفسهم به عن السلطة، لكن فضل الدكتور عبد الحميد بدوي كان أكبر من مثل هذا المبدأ السليم في مظهره وجوهره.
وقد شارك الدكتور عبد الحميد بدوي في نشاط مجمع اللغة العربية مشاركة فاعلة وفعالة، وانضم لعدد كبير من لجان المجمع مما أهلته له عقليته الحافظة ونفسه الساعية الى المعرفة على حد سواء، وقد كان عضوًا في لجان: القانون، والاقتصاد، والأدب، والمساحة والعمارة، وألفاظ الحضارة الحديثة، وقد ظل يبذل جهده في كل هذه اللجان في تؤدة وإخلاص.
وعلى المستوي الرسمي كان الدكتور بدوي عضوا في مجلس جامعة القاهرة، ولما تشكل مجلس العلوم الأعلى كان من بين أعضائه، وفي مجال العمل الدولي كان عضواً في مجمع القانون الدولي.
أما مجمل إنتاج الدكتور عبد الحميد بدوي العلمي فقد لخص الدكتور عبد الرزاق السنهوري الحديث عنه فقال:
«للفقيد محاضرات في قانون العقوبات المقارن نشرها في سنة 1914، وهو في مقتبل حياته الفنية، وله أبحاث، منها بحث في مركز الوارث في الشريعة الإسلامية، وبحث ثان في أثر الامتيازات في القضاء والتشريع في مصر، وقد نشر في الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية، وبحث ثالث في نظام المحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية، وبحث رابع في حرية القول في مصر، وهي محاضرة نشرت في مجلة مصر المعاصرة».
وللدكتور عبد الحميد بدوي بحث في نظام الحكم في الولايات المتحدة، وذلك بجانب الفتاوي والبحوث الدستورية، والمذكرات التفسيرية لتشريعات مهمة.
ومن بين المقالات العلمية القليلة التي كتبها الدكتور عبد الحميد بدوي، دراسة نشرت في أول عدد صدر من مجلة «مجلس الدولة» سنة 1951، بمقدمة الدكتور السنهوري رئيس المجلس في ذلك الوقت، أشار فيها الدكتور عبد الحميد بدوي الى تطور فكرة إنشاء مجلس الدولة في سنة 1939، ومن أقوال السنهوري أن الدكتور عبد الحميد بدوي كان سيكون أول رئيس لمجلس الدولة فيما لو كان قانون المجلس قد صدر قبل تعيين الدكتور عبد الحميد بدوي قاضياً بمحكمة العدل الدولية.
وقد أشار الدكتور القللي الى نشاط الدكتور عبد الحميد بدوي في مجال التأريخ لحضارة المسلمين وإسهامهم في السياسة والقانون الدوليين.
وعلى مدي تاريخ حياته نال الدكتور عبد الحميد بدوي مجموعة من الأوسمة والنياشين، من مصر ومن خارجها، وعندما حرص الرئيس السادات على تكريم رموز المجتمع بعد أن انتصر في معركتي الحرب والسلام، كان الدكتور عبد الحميد بدوي أحد المكرمين، وقد منح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي 22 مايو 1980
دوره البارز في مؤسسات المجتمع المدني
أبدع الأستاذ زكي المهندس حين وصف طبيعة مشاركة الدكتور عبد الحميد بدوي في العمل الاجتماعي في الإسكندرية والقاهرة، حيث قال: «إنه كان عيناً للكفيف، ولساناً للأبكم، وأذناً للأصم، وصدراً حانياً لليتيم». والى الدكتور عبد الحميد بدوي يعود الفضل في إنشاء دار جمعية الحرية للطفولة، وكان ملجأ الحرية قد أنشئ في مايو 1919 على يد الأستاذ أحمد مختار الناضوري، أما المبني الضخم الذي أقيم في عهد رياسة بدوي لهذه الجمعية، فقد بلغت تكالىفه حوالي 80 ألف جنيه، استطاعت الجمعية أن تفي بخمسين ألفاً منها، وبقي عليها أن تدبر الباقي، ويتسع ملجأ هذه الجمعية لما يقرب من 400 شخص.
كان المجال الذي ظهرت فيه قدرات الدكتور عبد الحميد بدوي على إقناع الدولة الشمولية بالمجتمع المدني ودوره، فقد هو معالجته المخلصة للأزمة التي افتعلتها ثورة ١٩٥٢ مع الجمعية الخيرية الإسلامية التي كان الدكتور عبد الحميد بدوي عضواً في مجلس إدارتها قبل أن يتولى رئاسة مجلس إدارة هذه الجمعية، في فترة حرجة من حياة الجمعية ما بين 31 مارس 1963 عندما انتخب رئيساً لها، وحتي ترأس الجلسة الأخيرة لاجتماع مجلس إدارتها في 13 يناير 1965، وكان هذا تتويجاً لاهتمامه الشديد بالعمل الاجتماعي، فقد كان أيضاً رئيسا لجمعية الحرية لرعاية الطفولة بالإسكندرية، حيث تحتل هذه الجمعية المكانة الأولي بين الجمعيات الخيرية.
وكما قال الدكتور محمد الشحات الجندي فإن الدكتور عبد الحميد بدوي اتجه نحو إرساء نظام مؤسسي للجمعية لتتباحث في شئونها، وتتناضل الآراء في ابتكار أمثل الطرق لتصحيح مسيرتها بصورة جماعية، وأن يعمل أعضاء مجلس الإدارة جميعا في سبيل الوصول الى هذا الهدف بروح الفريق دون أن يفرض رأياً، أو يصادر فكراً».
«وهذا التبصر الإداري يمثل نقلة نوعية في مجال العمل الخيري والمدني يدل عليه الفكر السائد وقتئذ، والذي لاتزال الجمعيات الأهلية تعاني منه، وهو أحادية التفكير لرئيس الجمعية بفرض الرأي المتسلط من جانب فرد أو مجموعة بعينها لتسيير أمور الجمعية، لتحقيق أهداف ضيقة، ورؤى نفعية ذات مردود سلبي في عمل الجمعية».
«… قاد الجمعية الى منعطف آخر هو الصالح العام للجمعية، الذي يبلغ بها الى النفع العام لجموع المواطنين، وخير الناس، وكان هو ورفاقه على درب العمل الخيري والمدني نقطة مضيئة، حيث إنهم آمنوا برسالة الجمعية الخيرية الإسلامية في الاستباق الى الخيرات، وتخفيف المعاناة عن البؤساء والمحرومين، ولا أدل على ذلك من أن هذه الكوكبة من الشخصيات العامة التي رافقته كانوا على قدر المسئولية، وكانوا مبرزين في أعمالهم، يلمس ذلك مَنْ يطالع بعض أسماء هؤلاء الرفاق، مثل المهندس طراف علي، والدكتور محمد كامل حسين، والشيخ على عبد الرازق، والأستاذ محمد محمود، والدكتور حامد سلطان، والأستاذ طه السباعي وغيرهم من رموز مصر الذين اطلعوا برسالة الجمعية منذ إنشائها وحتي الآن».
«وقد استطاع الدكتور عبد الحميد بدوي أن يكسب تعاون هذه الشخصيات، وأن ينتقل بالجمعية من العمل الفردي الى نظام المؤسسة التي قدمها كواحدة من أبرز مؤسسات المجتمع المدني في ذلك الوقت الذي تواصل عطاؤها في المجالات الدينية والاجتماعية المختلفة في الصحة، والتعليم، والثقافة، والمساعدات الاجتماعية.
«وقد تجلي الإصلاح المؤسسي والإداري للجمعية فيما أخذه المجلس على عاتقه من وضع كادر للعمال، وإصلاح حالهم أسوة بحال عمال الحكومة، إيماناً منه بأهمية تنمية العاملين لدي الجمعية”
“وكان لهذا الفكر المؤسسي، وذلك الإصلاح الإداري أثره في تحرير الجهاز التنفيذي للجمعية من آفات البيروقراطية والروتين الوظيفي الذي يضرب بمعاوله الوظيفة العامة ويصيبها في مقتل، وكذا العمل الخيري والمدني على السواء».
«هذا الفكر المتقدم في النظر الى ضرورة توسيع قاعدة التعليم، وإيلاء أهمية خاصة لتعليم الإناث، وهو حدا بالدكتور بدوي في أول اجتماع لمجلس الإدارة برئاسته في 31 مارس 1963 الى أن يطرح على المجلس توسيع المبني الحالي لمدرسة البنات بحلوان، وهي مدرسة مهنية تعليمية إسلامية بتكاليف قدرها ألف وخمسمائة جنيه.
«ومن أجل المحافظة على أصول الجمعية وممتلكاتها، خاض الدكتور عبدالحميد بدوي سلسلة من المعارك على جبهات متعددة مع وزارة الأوقاف، ومع الإصلاح الزراعي، ومع المجالس البلدية، ومع الحكومة، وأدار سلسلة من المعارك القانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعقلية المفاوض الخبير الذي يؤمن بعدالة قضيته، وموضوعية مطلبه، وسلامة توجهه، وأهمية المصلحة التي يدافع عنها، حتي كللت جهوده بالنجاح، واستطاع أن يبقي على رسالة الجمعية التي كانت معرضة للتوقف والقضاء عليها في خدمة المجتمع الأهلي والمدني، واستطاع أن يستبقي لها أملاكها من المباني والأراضي لتواصل الرسالة، وتحقق نهضة الفرد والمجتمع صحياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وثقافياً».
ويروي الدكتور محمد الشحات الجندي أن الجهود التي بذلها الدكتور عبد الحميد بدوي قد تمخضت عن رسم وتنفيذ استراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع مسألة كادت تعصف بالجمعية، وتقوض أنشطتها المختلفة في مجالات الصحة، ورعاية المسنين، وتعليم الفقراء ومساعدتهم، وتتجلي خطورة الموقف في صدور القانون رقم 152 لسنة 1957، والقانون رقم 44 لسنة 1962 الذي قامت الوزارة بتطبيقهما على الجمعية، وبمقتضاهما تقوم الجمعية بتسليم الأطيان المشمولة بنظر وزارة الأوقاف الى هيئة الإصلاح الزراعي، وتسليم المباني الى المجالس المحلية”
«وقد أثمرت هذه المساعي في توجيه رئيس الوزراء الى وزير الأوقاف لإعداد مشروع القرار الجمهوري اللازم بشأن معاملة الأطيان الموقوفة على جهات البر التي تباشرها الجمعية الخيرية الإسلامية نفس المعاملة التي عوملت بها الأوقاف القبطية، بالإضافة الى توجيهها بأن تستصدر الوزارة قراراً من لجنة شئون الأوقاف بإلغاء القرار الصادر منها في 17 أكتوبر 1962 بعزل الجمعية الخيرية الإسلامية من النظر، وتم بالفعل إلغاء اللجنة لقرارها بعزل الجمعية في 24 نوفمبر 1964.
«وكانت محصلة ذلك كله صدور قرار رئيس الجمهورية عام 1964 باستثناء الجمعية الخيرية الإسلامية من أحكام قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 152 لسنة 1957
وبتلك النتيجة تمكنت الجمعية من متابعة جهودها، ومواصلة رسالتها في رعاية وكفالة المحتاجين، والمرضي، والأميين، والمسنين لتعود الى سابق عهدها في النهوض بأبناء مجتمعها، وخدمة مواطنيها في مجالات متنوعة.
في مرآة الأستاذ عباس محمود العقاد
وأخيرا فإن أدق الأوصاف لشخصية الدكتور عبد الحميد بدوي، هو ذلك الوصف الذي تضمنته الصورة المختصرة التي قدمها الأستاذ عباس محمود العقاد في مقطوعة جميلة «في المرآة» في مجلة «آخر ساعة» مع صورة كاريكاتيرية جميلة رسمها الفنان صاروخان:
«قيد من القانون، وقيد من الكياسة، وقيد من التكاليف الرسمية، ويمشي بينها فيخيل اليك من سلامة المشية ـ وملاستها ـ أنه لا يتعثر بقيد من القيود».
«يحب الدعة، ولكنه لا يحب الدعة ليترك العمل، بل يحبها ليعمل ما يروقه، ويقام له الوزن في حسابه، فيطالب نفسه ببحوث ومطالعات لا تطلبها منه الوظيفة، ولا يطلبها منه العرف المصطلح عليه، ولو كانت الدعة عنده كالدعة عند عشاقها الكثيرين، لأعفي نفسه من هذا الاطلاع الواسع غير ملوم».
«ينفر من كل حماسة نافرة، لأنه من جهة يؤثر الدعة على نمطه المأثور، ولأنه من جهة أخري يوازن بين الأطراف المتقابلة فلا يندفع الى هذا الطرف، ولا يندفع عن ذاك، كما يغلب على طبائع الثائرين المتحمسين».
«الشريعة عنده طبيعة، والثقافة عنده فن وذوق، ولو شاء لأذاق كما ذاق، فهي أمنية يودها كل مَنْ عرفوا علمه الغزير، ومشاركاته الكثيرة، وصبره على التحصيل».
«يقدر خطاه، ويعلم موقعها مما حوله في الشدة والرخاء، ويبدو لك كأنه كان يعلم أين يصل به حقه واقتداره، ومتي يكون وصوله الى مكانه، فلم يتعجله، ولم يتهافت عليه قبل الوصول اليه».
«جدير بالثقة والتوقير، وشهادة وطنه له تزكيها شهادة أوطان، ومن النادر أن تتلاقي الموازين في بلاد الشرق والغرب، كما تلاقت في وزن هذا المصري الرجيح».
«وليس من الطبيعي أن يتئد المرء في الشباب، ثم ينفض عنه التؤدة في حدود الستين، ولكننا نرجو أن يكون قد شبع منها واستوفاها، فلم يبق إلا أن يجرب الوثوب في مجال السياسة الدولية، ومجال السياسة القومية، بعد أن طالت تجربته للتقية والأناة».
وفاته
توفي الدكتور عبد الحميد بدوي في ٤ أغسطس ١٩٦٥ فكان آخر من رحل من السياسيين في ذلك الجيل قبل الزعيم الذي قدر له أن يعيش بعدهم جميعا، وهو زعيم الأمة مصطفى النحاس باشا الذي توفي في ٢٣ أغسطس ١٩٦٥.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا