أتحدث عن ثمانية من أصحاب الأثر العميق والفكر الباقي في التعليم المصري في عهد ثورة 1952 أو في النصف الثاني من القرن العشرين ساعدتهم ظروف السياسة والتنمية على أن يُؤدّوا لوطنهم ما أدّوه من إنجاز من دون أن يكونوا قد خطّطوا لهذا على نحو حزبي أو مُؤسّسي، وذلك على خلاف الدور التربوي الطبيعي الذي مثلته على سبيل المثال حالة عميد التربويين الأستاذ إسماعيل القباني الذي كان أداؤه في خدمة التعليم المصري استمراراً لدوره التكنوقراطي والوظيفي والأكاديمي، أما هؤلاء الذين نتحدث عنهم فقد وجدوا أنفسهم في لحظات تاريخية فارقة وقادرة على أن تُفيد وطنهم فلم يبخلوا على هذا الوطن بالجُهد الصادق. ومن هنا فإنني أسجل أدوارهم من منطق حث كل مثقف وطني على توظيف الظروف المتاحة في أية لحظة ما للإضافة إلى ما يفيد تراث الوطن العلمي ووجدانه الحي.
وسأكتفي في هذا المقام بأن أُشير إلى مُجمل الإسهام أو الفضل الذي قدّمه كل واحد من هؤلاء إشارات عابرة لا تستقصي الإنجاز لكنها تُشير إلى طبيعته وطبيعة الظرف الذي وُجدت فيه الفرصة لأداء هذا الفضل. أبدأ بالثلاثة الذين تحدّثتُ من قبل عن فضلهم في نشر وتوسيع قاعدة التعليم على الرغم من أنهم لم يكونوا من مسئولي هذا التعليم، وهم الأمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود الذي بذل جُهدا غير مسبوق في نشر المعاهد الأزهرية والامتداد بها إلى مناطق كانت محرومة من التعليم نفسه، والدكتور محمد طلبة عويضة الذي مكّن لصيغ عملية من التوجه الذكي في تعليم الكبار وللتوجه المواكب للعصر في التوسع الأسي في التعليم الجامعي وللتوجه الذكي الآخر في نشر كليات التربية في الأقاليم على نحو لم تستثن فيه محافظة من كلية للتربية، والدكتور محمود محفوظ وزير الصحة الذي أسّس في كل مستشفى مركزي مدرسة متوسطة للتمريض تُزوّد المستشفى بالممرضات المُتعلّمات تعليما متوسطا بدلا من انتظار الارتقاء بالعاملات إلى مستوى الممرضات أو انتظار الراهبات.
تولى الدكتور مصطفى كمال حلمي الوزارة حين كنت لا أزال طالبا في المرحلة الثانوية، وقدر لي أن أعرفه في عامه الوزاري الأول وأنا لا أزال طالبا لكنني جلست إلى يمينه مرات متعددة منذ كنت طالبا في السنة الثانوية
قبل هؤلاء الثلاثة كان هناك ثلاثة علماء أجلاء قد تولوا في صمت ودأب وإخلاص التحول المؤسسي بأقدم مؤسسة تعليمية في العالم وهي الأزهر الشريف إلى آفاق القدرة القادرة على استيعاب علوم العصر تدريسا ودراسة من خلال الفرصة التي أُتيحت مع قانون تطوير الأزهر، وسواء أكنت كقارئ أو كمواطن، قد وافقت أو لم تُوافق على الفكرة، وسواء أكنت اقتنعت بها أم لم تقتنع، وسواء أكُنت من المؤمنين بأن تدريس العلوم الحديثة في الأزهر فرض إسلامي أو كنت من الذين يظنون أن الأفضل للأزهر أن يظل مؤسسة عريقة تكتفي بأنها من الماضي.. سواء كان أي موقف تتخذه من كل هذه الازدواجيات، وبعيدا عن هذا كله، وقريبا منه كله فإنه لا يمكن للمؤرخ ولا للدارس أو الباحث إنكار أنه أصبحت هناك فرصة جديدة أتيحت لفتح نافذة جديدة للتعليم الوطني المصري، كان لا بد لها أن تجد حلاً في توافقها وتوازيها مع مؤسسات المجتمع العلمي القائمة.
وكان هذا يتطلّبُ حصيلة متفاعلة من الذكاء والخبرة والممارسة بقدر كبير كي يجتمع معها حُبّ الوطن وحُبّ الإسلام وحُبّ الأزهر وحُبّ العلم من أجل إتمام هذا التحول المؤسسي، وهو ما أُتيح بفضل هؤلاء لأقطاب الثلاثة الذين تولوا تنفيذ هذه الفكرة النبيلة بأكبر قدر من المكاسب وبأقل قدر من المخاطر، هؤلاء الثلاثة هم الدكتور محمد كامل حسين المدير المُؤسس لجامعة عين شمس، والدكتور سليمان حزين المدير المؤسس لجامعة أسيوط، والأستاذ محمد سعيد العريان وكيل الوزارة الدائم في التربية والتعليم (ثم في وزارة شئون الأزهر التي نشأت بالمواكبة لهذا التطوير) وهو الرجل الذي توفي فجأة دون أن يحظى بما كان يستحق من التكريم لأدواره الأدبية والتربوية على حد سواء. ثم كان هناك بالطبع ذلك الدور الاستيعابي الذكي الذي أداه الشيخ أحمد حسن الباقوري الذي كان ثاني من تولى رئاسة الجامعة الأزهرية الحديثة لكنه كان في واقع الأمر بمثابة المدير المؤسس الفعلي للجامعة بحكم سعة أفقه وصلاته وقدرته على تقديم الحلول.
بعد هؤلاء السبعة يأتي دور مهم لرجل صامت قُدّر له أن يشغل وزارة التربية والتعليم سنوات طويلة في هدوء بدا معه وكأنه كان وزيرا روتينيا هادئا تقليديا لم يُنجز شيئا ذا بال، بينما أنه كان في واقع الأمر صاحب فضل كبير في تطوير تدريس العلوم في التعليم العام، ولولا هذا الرجل وفضله في هذا المجال الذي امتد إلى المناهج والامتحانات والمُقرّرات والمدرسين، والذي تبلور منذ البداية في المساعدة على تأسيس مركز مُتخصّص في جامعة عين شمس لتطوير تدريس العلوم، لولا هذا الرجل ما استطاعت مصر دخول عصر التكنولوجيا الحديثة بما فيها تكنولوجيا الاتصالات والهندسة الوراثية على سبيل المثال، ولو أن وزارة التعليم بقيت في يد القانونيين مع احترامنا لهم بدلا من أن تؤول إلى الدكتور مصطفى كمال حلمي في 1974 ثم إلى خلفائه من العلميين، ما كان من المُمكن لمناهج الأحياء أن تُراوحَ ولا أن تزيد على مٌقرّرات التشريح الوصفي، وكان من الممكن لمناهج الكيمياء أن تدخل إلى عصر كمياء الخلية وعصور الفيسيولوجيا الحديثة.. وهكذا، وفضلا عن هذا كله فإنه لولا مصطفى كمال حلمي ما دُرّست الرياضة الحديثة ولا الاحتمالات ولا التفاضل والتكامل بمفهوميما الحديثين ولا الجبر الحديث ولا المصفوفات ولا العد الثنائي.. الخ وما عَرف الطلبة في المدارس شيئا من هذا كله..
تولى الدكتور مصطفى كمال حلمي الوزارة حين كنت لا أزال طالبا في المرحلة الثانوية، وقدر لي أن أعرفه في عامه الوزاري الأول وأنا لا أزال طالبا لكنني جلست إلى يمينه مرات متعددة منذ كنت طالبا في السنة الثانوية، وبالطبع فقد كان الفارق في النفوذ بيني وبينه كبيراً جدا جدا إلى ما لا نهاية لكنه بسحر الإنسان المقتدر جعلني لا أحس أبدا بهذا الفارق في أي لقاء جمعني به، ومع أنه وُلد في العام الذي وُلد فيه والدي رحمهما الله، ومع أن أبناءه أكبر مني، فإنه كان يشجعني على أن أتحدث وافضفض وأفتي وأتجاوز وأقترح بما يفوق موقعي العلمي والوظيفي، فلما بلغت نضج الأربعين كنت قد وصلت إلى مكانة أستطيع من خلالها أن أقول له إنه أنجز نقلة كبيرة وتاريخية في مفهوم العلم في مصر، فكان يسعد دون أن يُظهر ما كان يشعرُ به في قرارة نفسه من أن حقّه في هذ الجزئية مغموط، بل إنه كان يلجأ إلى العبارة التقليدية التي يلجأ إليها العلماء المهذبون في وصف شعورهم بالإحباط من دون أن يُخطئوا في حق الساسة ولا في حق الدولة، فيقول قولا معروفا ومشهورا وحمّال أوجُه، لكنه في الحقيقة قول حقيقي يفخر بالدور ولا يستجلب العقاب على الفخر، كما أنه قول يبرئ ولا يجلُب الاتهام.. كان رحمه الله يقول: نحن موظفون! وكأنه يسخر أيضا بتهذيب من رؤية بعض الساسة لدوره.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا