يمكن لنا البدء بذكر مفارقة تاريخية وجميلة وهي أن ملك السويد الحالي الملك كارل جوستاف كان يوصف بأنه الملك اليتيم، كما يمكن لنا البدء بالإشارة إلى أنه صاحب أطول فترة في حكم السويد حتى الآن كما هو الحال مع ملكة بريطانيا التي تسبقه في تولى العرش بواحد وعشرين عاما، ويمكن لنا وصفه بأنه ذلك الملك الذي أجّل زواجه من أجل أن يعتلي العرش أولا ثم يتزوج محبوبته احتراما للتقاليد التي كان يؤمن بها جده الذي كان هو ولي عهده. لكن الحقيقة الباذخة في هذا كله هي أن سيرة حياة هذا الملك تدلنا على أن التقاليد الاجتماعية لا تزال (من دون أن ننتبه) تحاول بشراسة أن تتحكم في كثير من التصرفات السياسية على أعلى المستويات مهما أعلن أصحاب القرار عن نيتهم في التخلي عن اقتناعهم بالتقاليد وتمسُّكهم بها، ذلك أن بعض هذه التقاليد تصدُر عن عقيدة وفطرة وليس سهلا أن تُغيّر الفطرة أو العقيدة.
والمثل الواضح أو الأبرز على هذا الصراع الذي ينتصر للتقاليد، حتى وإن بدا أنه ينتصر عليها بعد احترامها يتمثَّل فيما يُروى عن سيرة حياة رجل هو ملء السمع والبصر وهو الملك كارل السادس عشر جوستاف المولود 1946 سنة والذي يحكم السويد من 1973، وبالمصادفة البحتة فإنه في عامنا هذا (فقط) الذي هو عام 2019 يتكرّر الرقمان في تاريخه، ويتبادلان المواقع، فهو مولود في ١٩٤٦ ويحكم منذ 46 عاماً كما أنه يحكم منذ 1973 وقد أصبح عمره 73 عاماً. خلف الملك كارس السادس عشر جده في عرش السويد، وذلك لسبب بسيط هو أن والده الذي كان سيخلُف جده توفي في حادث طائرة عام 1947 من قبل أن يُصبح الجد نفسه ملكاً، وكان عمر الملك الحالي ٩ شهور فقط، وهكذا فإنه لما أصبح الجد ملكاً في 1950 أصبح الملك الحالي اليتيم يومها ولياً للعهد وهو في سن الرابعة. وفيما بين ولايته للعهد في 1950 وتوليه الملك في 1973 تشكلت معارف الملك كارل السادس عشر على أفضل ما تتشكل المعارف الملكية والرئاسية:
– فقد درس العسكرية في الجيش والطيران والبحرية وحصل على ما يؤهله للعمل في الأسلحة الثلاثة مقاتلاً وبحاراً وطياراً.
– كما درس العلوم السياسية والتاريخ والعلوم الاجتماعية في جامعة ستوكهولم وإبسالا.
– وعمل في بعثة السويد في الأمم المتحدة في نيويورك.
– عمل في أحد المصارف في لندن وفي السفارة السويدية في لندن.
– وعمل في الغرفة التجارية السويدية في باريس وفي فرع شركة الفا لافال السويدية في فرنسا.
في 1972 وقبل أن يصبح ملكاً بعام حضر دورة الألعاب الأولمبية الشهيرة في ميونيخ فالتقى بزوجته (الألمانية الأب والبرازيلية الأم)، لكنه رأى ألا يتم زواجه بها احتراماً لعقيدة جده الملك الذي لم يكن من المضمون أن يوافق على خلافته له إذا هو تزوج من غير البيوت الملكية، وهكذا أجّل الملك السويدي زواجه إلى عام 1976 وكان قد أصبح ملكاً (منذ 15 سبتمبر 1973)، وبلغ أيضا الثلاثين من عمره وتزوج من الملكة سيلفيا ملكة السويد الحالية وأنجبا ولية العهد الأميرة فكتوريا (التي ولدت 1977) وشقيقها الأمير كارل فيليب (1979) وشقيقتها الأميرة مادلين (1982).
حضر هذا الملك النشط كثيراً من المناسبات العربية وزار سلطنة عمان باعتباره الرئيس الفخري للمؤسسة الكشفية العالمية. ومن الطريف أن هذا الملك الذي أصبحت ولية عهده هي ابنته كان الشقيق الخامس لأربع شقيقات يكبُرْنَه سناً لكن ولاية العهد آلت إليه بفضل عقيدة جده في تفضيل الذكور. ومن الطريف أكثر من هذا أن قصة الملك مع التقاليد التي تغلَّب عليها بتأجيل زواجه هو نفسه تكرّرت مع ابنته فكتوريا ولية العهد التي ولدت عام 1977 بعد زواج أبويها بعام وعاشت مع زوجها الحالي قصة حب طويلة استمرت ثمانية أعوام ذلك أن والدها ظل طيلة هذه السنوات الثماني يرفض الموافقة على زواجها من زوجها الحالي لأنه لا ينتمي لعائلة ملكية، فلمّا صمّمت الأميرة ولية العهد على زواجها من حبيبها أطلق الملك على هذا الزوج ألقابا ملكية عديدة منها أنه أصبح الأمير دانيال وفارس سيرانيم.
الطُرفة الثالثة في قصة الملك كارل جوستاف مع التقاليد والقوانين أن قانون المساواة بين الجنسين في وراثة العرش السويدي صدر بعد ولادة ولديه الأولين، ولية العهد التي ولدت في 1977 وشقيقها كارل فيليب الذي ولد في 1979، وقد حدث بالفعل أنه عندما ولد الشقيق في 1979 سمي ولياً للعهد، لكن بعد شهور قليلة من مولده صدر القانون الذي عدلت به السويد قاعدة اعتلاء العرش لتكون بمبدأ التساوي بين الجنسين، ليكون العرش للابن الأكبر بغض النظر عن جنسه، وهكذا فإنه بمقتضى هذا القانون تقدمت الأميرة فكتوريا إلى المركز الأعلى في خط الخلافة (حسب تعبير وراثة العرش) بل إن الأمر تعدى هذا لما هو منطقي وإن بدا غريباً على الذهن الشرقي، ذلك أنها حينما أنجبت ابنتها الوحيدة الأميرة استل (2012) أصبح ترتيب هذه الابنة هو الترتيب التالي في خط الخلافة وذلك على حساب خالها الذي كان قد سُمّيَ وليا للعهد لعدة شهور عقب ولادته.
هكذا سارت الأقدار مع الملك كارل جوستاف:
– فقد والده (1947) وهو لم يزل رضيعاً ذا تسعة شهور (ولد 1946).
– أصبح وليا للعهد في سن الرابعة (1950) رغم أنه الشقيق الأصغر لأربع شقيقات.
– لم يتزوج إلا 1976 بعدما أصبح ملكاً (1973) حتى لا يمنعه جده الملك من وراثة العرش لزواجه من خارج الأسرة المالكة.
– أنجب ابنته الكبرى (1977) وابنه (1978) فأصبح الابن وليا للعهد لكن القانون صدر بتعديل خطوط الوراثة فأصبحت ابنته الكبرى هي ولية عهده.
– قاوم زواج ابنته وولية عهده من أسرة غير ملكية لكنه رضخ بعد 8 سنوات من إصرارها.
– أنجبت ابنته ولية عهده في (2012) ابنة أصبحت بمقتضى القانون الوريث الثاني للعرش قبل خالها.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا