الرئيسية / المكتبة الصحفية / الدكتور محمد غانم وإيمانه العميق بالمفهوم الإسلامي للنقود

الدكتور محمد غانم وإيمانه العميق بالمفهوم الإسلامي للنقود

من بين الاقتصاديين الذين أتاح لي الحظ التشرُّف بمعرفتهم الصديق الدكتور محمد عبد الواحد غانم الذي أتمَّ دراساته العليا في الاقتصاد في المدرسة الإنجليزية، وقاده ولاؤه لوطنه ودينه إلى أن يُقدم دراسات رائعة تتعلَّقُ بتاريخ وفلسفة علم الاقتصاد.

ومن هذه الدراسات ما واجه به بعض الباحثين المسلمين الذين لا يزالون يُحاولون التخلُّصَ من مفهوم الذهب والفضة، ذلك أنه يؤمن بأهمية الاعتماد التام على هذين المعدنين في تأسيس النظام النقدي، والخلاص من أي نظام آخر، وهو يذهب إلى القول بأن مفهوم النقود في الإسلام لا يقتصر على اعتبار أن الدينار الذهبي والدرهم الفضي هما حماة الثمن ومعيار القيم، وإنما يأتي هذا في إطار يضم أيضاً النص الواضح على تحريم الربا وعلى فرضية الزكاة وعلى قواعد البيوع وبهذه المفاهيم الثلاثة المرتبطة مع النقد الذهبي والفضي تتفوق المدرسة النقدية في الإسلام على المدرسة النقدية الغربية على النحو الذي آلت إليه في زماننا هذا.

ينفي الدكتور محمد غانم صحة ما يقوله الاقتصاديون من أن كمية الذهب والفضة غير كافية لتلبية احتياجات النظام النقدي ويستشهد على ذلك بأن الأمور سارت بانتظام في الاعتماد على الذهب والفضة حتى جاء الرئيس الأمريكي نيكسون في 1971 فقرّر إلغاء قاعدة الاسترداد، وفيما قبل ذلك فقد كان هناك نوعان من النقود: نوع مغطى بالذهب، ونوع غير مغطى بالذهب، وهكذا فإن عدم كفاية كمية الذهب أو الفضة لم تكن من الأسباب التي غيّرت هذا النظام.

ويُضيف الدكتور محمد غانم أن من طبيعة النقود أن تكون حيادية، وهو ما يحُلُّ إشكالية الحجم الكلي للذهب والفضة، كما يذكر أن كميات الذهب والفضة المتاحة كافية لأن تٌلبّي حاجات البشر، ويُشير إلى أن هذين المعدنيين يخضعان لزكاة الكنز عند استخراجهما لكنهما يخضعان أيضاً لزكاة المال سنوياً فيما يزيد عن النصاب، وذلك خلافاً للعروض الأخرى كالزروع.. وهي حكمة تشريعية تتناسب مع وظيفة الذهب والفضة كأثمان.

كذلك يلفت الدكتور غانم نظرنا إلى أن عمليات التنقيب عن الذهب والفضة لم تتوقف نتيجة استبدالهما والاعتماد على النقود الورقية، ولا تزال أعمال التنقيب تجري بأكثر وأكثف مما كان الأمر في الماضي، ثم تتم تنفيه هذه المعادن ووضعها في هيئة قوالب براقة يسهل نقلها وتخزينها، أو على حد تعبيره الجميل: يسهل كنزها في باطن الأرض مرة أخرى، وذلك عبر عمليات تشغيل متعددة يتحقّقُ معها استهلاك هائل للموارد البشرية والأموال الاستثمارية دون أن يقول أحد إن في هذه العمليات المُتتابعة والمتوسعة أي إهدار للثورة.

ينطلق الدكتور محمد غانم إلى بُعدٍ آخر يتعلّقُ برأيه العلمي في قرار مجمع الفقه الإسلامي (1402 هجرية) الذي أيد نص بحث هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لافتا النظر إلى حقيقة مهمة وهي أن تعامل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بالدرهم والدينار وربطهما بكثير من الأحكام الفقهية يؤكد إقرار الرسول عليه الصلاة والسلام لمبدأ النقود المرتبطة بالذهب والفضة، ويعتبر ذلك الإقرار من السنة، التي لا يمكن إغفالها، ويترتب على هذا في رأيه أن أي تشريع أو قانون يمنع أو يُحرم التعامل بالدرهم والدينار يُعتبرُ لاغيا ولا يُؤخذُ به إسلامياً.. وهنا يُشير الدكتور محمد غانم إلى أن هذا المعنى هو من المعاني التي أهملها بحث هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ذلك أن وجود النقد الورقي يعتمد على التجريم القانوني لاستخدام الذهب والفضة كأثمان للسلع، ولولا هذا التجريم لما كان للنقد الورقي أي وجود.

ينتقد الدكتور محمد غانم بوضوح علماء المسلمين في إهمالهم بحث علاقة النقد الورقي بالربا سواء من الجانب التاريخي أو المالي، كما ينتقدهم في إهمال دراسةعلاقة النقد بالمؤسسة البنكية، وهو يقول إن الربا أصيل في تكوين الورق النقدي، بل إنه هو النقد الورقي نفسه، فكيف يُمكن الوصول إلى حقيقة النقد من دون التعرض إلى أهم مكوناته وهو الربا؟ ومع إيمان الدكتور محمد غانم بما استند إليه علماء المجمع الفقهي من نص “المدونة الكبرى” الذي يقول: «ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود لجاز حتى يكون لها سكة وعين»، فإنه يلفت النظر إلى أن النقود يجب أن تكون “مادة” والمادة يجب أن يكون لها كيان مادي له صفات ذاتية وخواص، وهذا في الحقيقة أمر غير متوفر في النقد الورقي.

ويفرق الدكتور محمد غانم بين أن يكون النقد مخزناً للقيمة أو مستودعاً لها وبين أن يكون مستودعاً للثروة، وهو يقول إن الفرق بين القيمة والثروة كبير. وهو يلفت النظر أيضاً إلى وظيفة رابعة للنقد هي قبول النقد للوفاء بالالتزام وهو يرى أن هذه الوظيفة الرابعة لا تقلُّ أهمية عن الوظائف الثلاثة التي بنى عليها مجمع الفقه الإسلامي رأيه، وهي أن تكون مادة النقد وسيطاً للتبادل، وأن تكون مقياساً للقيمة، وأن تكون مستودعاً للثروة.

وخلاصة القول في هذه القضية المحورية لمستقبل الاقتصاد والسياسات النقدية هي أن صديقنا الدكتور محمد غانم يذهب إلى تأكيد القول بأنَّ فكرة قبول الناس للنقد الورقي أو ثقتهم فيه تمثل مغالطة من أكبر المغالطات الشائعة، في الاقتصاد والسياسة، ومع هذا فإنه يُقدر أن الناس تتعامل بالنقد الورقي لأن مراحل تطور النقد لم تترك لهم بديلاً، وبخاصة أن الأمر أصبح مُرتبطاً بالإلزام القانوني بالتعامل به مع تحريم التعامل بالنقد الحقيقي من الذهب والفضة.


تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com