يذهب المؤرخون اليساريون والغربيون والإسلاميون في مناقشتهم غير المكتوبة إلى أن النظام الذي عرف على أنه نظام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن واعيا بالقدر الكافي لأهمية وآلية خلق طبقة سياسية جديدة، بل إن هذا النظام حتى الآن أي بعد ما يقرب من سبعين عاما لم يتقبل المعنى السوسيولوجي للطبقة، ولم يوافق عليه، ولا يزال الأمر محصورا في نطاق المزايا المادية الممنوحة من السلطة في نطاق ترسيخها لمكانة متميزة لبعض أنصارها، وذلك من قبيل منح كل عضو من أعضاء مجلس قيادة الثورة أربعة آلاف متر مربع من أراضي مدينة المهندسين لبناء سكن متميز عليه، وهو ما تكرر بعد هذا في أراضي المعمورة وغيرها من مدن وقرى القوات المسلحة ثم الساحل الشمالي .. الخ .
ومع هذا فإننا لا نستطيع أن ننكر أن هذا النظام كان قد بدأ يفهم المعني التطبيقي لفكرة امتيازات الطبقات من دون أن يفهم (بالقدر ذاته) ضرورة وجود التزامات الطبقات المواكبة لامتيازاتها، وقد جاءت بوادر هذا الفهم بعدما أحس بالحاجة إليها في الاتصال العنقودي بالجماهير، وكان الرئيس عبد الناصر يظن بل يعتقد إلى درجة اليقين أنه يستطيع خلق هذه الطبقة بجهده هو نفسه من نسيج الضباط، ومن تم فإنه بعد أن أجل الانتخابات البرلمانية مرة بعد أخرى أجراها في 1957 وما إن انعقد المجلس وبدأت ملامح قيادات برلمانية أو شخصيات برلمانية في الظهور إلا وآثر الرئيس جمال عبد الناصر أن يتجاوز تماما التجربة وأن يضحي بها وأن يدفنها وقد دفنها تحت مسمى برلمان الوحدة الذي تشكل بالتعيين أو بالاختيار المطلق في 1960.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن الرئيس جمال عبد الناصر رزق فرصة ذهبية في 1964 لعبور جيل جديد من المدنيين إلى عضوية البرلمان، ومهما كانت الانتخابات أقرب إلى الصورية فقد جاء اختيار هؤلاء عبر مراحل متعددة ومعقدة كان قرار الاختيار فيها جماعيا وليس فرديا حتى لو أنه بدا الأمر في النهاية على أنه قرار فردي ذلك أن القرار كان محكوما باستطلاعات وتكتلات وتوصيات واختيارات وبدائل، ومن العجيب أن نظام الرئيس جمال عبد الناصر نفسه لم يفد من هؤلاء إلا في عامي 65/64، 65/66 ثم جاءت أحداث وهزيمة 1967 لتقلص من استفادة الرئيس جمال عبد الناصر من البرلمانيين وهزيمة لكن هؤلاء أو بعضا من هؤلاء أو أنجح هؤلاء أصبحوا بمثابة الحاضنة نصف الشعبية الجاهزة لمرحلة الرئيس السادات الذي تصادف أن كان دورته رئيسا للبرلمان (64-1969) قبل أن يخلفه الدكتور محمد لبيب شقير في 1969.
صحيح ان اثنين من أبرز هؤلاء وصلا للوزارة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وهما ضياء الدين داوود الذي وصل ايضا لعضوية اللجنة التنفيذية العليا وحافظ بدوي لكننا لابد ان نذكر انه كان من هؤلاء: محمد عثمان إسماعيل وأحمد عبد الآخر واحمد عبد الهادي القصبي ويوسف مكادي ونوال عامر وكمال الشاذلي…. الخ
وقد كان من الطبيعي وبحكم تعاقب الأجيال أن تصعد نخبة جديدة من الأساتذة والخبراء التكنوقراطيين مع مرور الزمن في عهد الرئيس عبد الناصر من 1954 وحتى 1970 لكن المفاجأة أن هذا لم يحدث لا بالقدر الكافي ولا بالقدر الرمزي، وعلى سبيل المثال فإن الدبلوماسي الذي ورثه الرئيس عبد الناصر بوضع اليد من النظام الملكي وهو الدكتور محمود فوزي والذي أصبح السفير المصري في لندن في سبتمبر ١٩٥٢ فوزيراً للخارجية في ديسمبر 1952 بقي مع الرئيس عبد الناصر طيلة حكمه ولم يُقدر لأحد من الدبلوماسيين المحترفين أو المدنيين أن يصعد إلى منصب وزير الخارجية أو وزير الدولة للشئون الخارجية أو حتى نائب الوزير وإنما شغل هذه المواقع ثلاثة عسكريين هم محمود رياض ومحمد فائق وحسين ذو الفقار صبري. وكان السفير محمد عوض القوني عميد الدبلوماسيين القريب في السن والأقدمية من الدكتور محمود فوزي يحظى باحترام الرئيس عبد الناصر هو وزوجته التي منحها الرئيس وسام الكمال وقد شغل منصب سفير مصر في أكثر من عاصمة مهمة، لكن أقصى ما وصل إليه أن عُيّن في العام الأخير من عهد الرئيس عبد الناصر وزيراً للسياحة.
وتحضُرُني هنا طُرفة رواها الدكتور محمد حسن الزيات الذي كان قد أصبح في موقع الديبلوماسي المصري الأول في نهاية عهد الرئيس عبد الناصر وذلك أنه عندما استقبله الرئيس عبد الناصر ضمن السفراء الجُدد الذين عُينوا معاً في يوم واحد اختصّه الرئيس من دون هؤلاء بالحديث، وظهر هذا في التلفزيون فسألته زوجه السيدة أمينة طه حسين عما كان الرئيس عبد الناصر يُحدثه به دون غيره، فأجابها الزيات ببساطة إنه سأل عن اسمه لأنه كان المدني الوحيد بين عسكريين يعرفهم الرئيس عبد الناصر جميعاً، ولهذا أراد أن يتذكر شيئاً عن هذا المدني فلمّا سمع اسمه قال للزيات: نعم أذكر اسمك من أيام قضية الصومال.
ومن بين رجال القانون وأساتذته وأساتذة الاقتصاد والتجارة الذين وصلوا إلى الوزارة في النصف الأول من الستينات فإننا لا يمكن لنا أن نجد شخصاً اختاره الرئيس عبد الناصر عن معرفة مباشرة من الرئيس وإنما كان هؤلاء يصلون من خلال نواب الرئيس عبد الناصر ومُساعديه الذين كُلّفوا بشئون الاتصال والتنظيمات السياسية وذلك من قبيل كمال الدين حسين وزكريا محيي الدين وعلي صبري أما مجموعة مجلس الأمة التي وصلت عن طريق أنور السادات فكانت لا تزال تسير على مهل في ظهورها نحو السلطة.
ومن الطريف أن تلميذا مقربا من الأستاذ عباس محمود العقاد وحائزا لرعايته كان أكثر الأكاديميين حظا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وهو الدكتور محمد لبيب شقير الذي كان من أول من برزوا من أساتذة الجامعات وسرعان ما أصبح أعلاهم منصبا حيث وصل إلى رئاسة مجلس الأمة وعضوية اللجنة التنفيذية العليا وكان له زميل منافس يقل عنه قبولا وكفاءة لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بعده بما يقرب من عقدين من الزمان وهو الدكتور رفعت المحجوب.
وقد جاءت مظاهرات الطلبة في 1968 لتُعطي للرئيس جمال عبد الناصر فرصة ذهبية لمعرفة الكوادر الجديدة من أساتذة الجامعة ومن في مستواهم الذي ينبغي عليه أن يُطعّم بهم نُخبته الحاكمة، وكانت درجات لمعان هؤلاء الأساتذة من ضمن عوامل اختيارهم ليكونوا وزراء في وزارة مارس 1968 التي ضمّت 13 من هؤلاء كان أبرزهم الدكتوران محمد حلمي مراد وعبد العزيز حجازي وكان منهم أيضاً الدكاترة سيد جاب الله ومحمد صفي الدين أبو العزو عبد العزيز كامل ومحمد بكر أحمد وحسن مصطفى وعلي زين العابدين صالح ومحمد عبد الله مرزبان وانضمّ إليهم من مجموعة مجلس الأمة ضياء الدين داوود وعلى الرغم من أن هؤلاء بأدائهم الجديد أعطوا حيوية جديدة لنظام الرئيس عبد الناصر فإنهم سرعان ما أصيبوا بالإحباط والجمود عندما اختلف الدكتور محمد حلمي مراد اختلافه العلني مع الرئيس عبد الناصر، وقوبل بعنف الرئيس عبد الناصر بل وتحقيره له، وتعنّته معه خلق سقفا واضحاً لمُمارسة هؤلاء الوزراء الجُدد للعمل السياسي الذي حلموا به حين كانوا في شبابهم قد عاشوا مزايا عصر الليبيرالية 1919 ـ 1952.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا