يرى النقاد ومؤرخو الفن أن الفنان محمود مختار هو أول مثّال مصري منذ عهد الفراعنة، بيد أننا بلغة تاريخ العلم وبلغة تاريخ الفن لا نستطيع أن ننفي الاحتمال القائم في أن يكون آخرون قد سبقوه على هذا الطريق لكن آثارهم قد اندثرت في عصور لم تكن تعرف قيمة مثل هذه الموهبة أو تعترف بها .
والحق أن الفنان محمود مختار نفسه كان عبقرية عالمية ضخمة، لكن هذه العبقرية صادفت في زمنها أرضا خصبة رحبت به، ويسرت له الظروف المواتية التي هيأت له أن يحتل المكانة الرفيعة في تاريخ الفن. ومن المهم أن أقول مبكرا إن الفضل الأكبر في ظهور فن الفنان محمود مختار وموهبته من قبل فنه ، يرجع إلى الإصلاح الديني الذي تبناه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ١٨٤٩- ١٩٠٥ وأقرانه من العلماء ، ففي ذلك العصر كان الأستاذ الإمام يجأر ويجهر بدعوته إلي احترام الفن وتقديره، وإلي انتفاء الحرمة عنه، وهكذا تشجع الداعون إلي إنشاء مدرسة للفنون الجميلة، كما تشجع المثقفون علي الكتابة عن الفن وقيمته. وهكذا كان بالإمكان أن يوجه المربون والذواقة وأولو الأمر والوطنيون هذا الصبي الموهوب إلى الدراسة في هذه المدرسة: الفنون الجميلة.
أما دور الأمير يوسف كمال في رعايته في كل مراحله الأولى فأمر لا يمكن إنكاره حتى وإن كان الرجلان قد اختلفا فيما بعد، و مثلما نشأ مايكل انجلو في رعاية الأمير الفلورنسي دي مديتشي، فقد نشأ الفنان محمود مختار في رعاية الأمير المصري يوسف كمال باشا مؤسس مدرسة الفنون الجميلة .
أما الفضل الأوفى في هذه الدراسة وفي غيرها من الدراسات أو المقالات عن هذا الفنان العظيم فيعود إلى ابن أخته استاذنا العظيم بدر الدين ابو غازي وزير الثقافة الأسبق وعضو مجمع اللغة العربية ١٩٢٠- ١٩٨٣، فهو الذى اتاح لنا بكتبه و دراساته مجموعة من الانسجة المتعددة للكتابة عن خاله العظيم كما كان له من قبل الفضل الأوفى في إنشاء متحف مختار.
ولد الفنان محمود مختار في ١٠ مايو ١٨٩١ في قرية طنبارة إحدى قري المحلة الكبرى و انتقل بعد ذلك إلى قرية نشا وهي قرية في الإقليم ذاته، ثم انتقلت الأسرة إلي القاهرة منذ ١٩٠٢ وتنقلت ما بين حوش الشرقاوي والحنفي وعابدين. وكان أقرانه يطلقون عليه العمدة.
واسمه مركب أما والده فهو الشيخ ابراهيم العيسوي عمدة القرية، أما والدته فكانت إحدى بنات البدراوي أبو أحمد ، ويقال إن أصول الأسرة تمتد إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
ظهرت موهبة الفنان محمود مختار الفنية في مرحلة مبكرة فقد كان يقضي كثيرا من وقته على ضفة الترعة تحت شجرة الجميز، ويصنع من الطين خيولا وفرسانا وجواري. ثم يحمل التماثيل إلى الفرن في البيت فيجففها، ثم تحول إلي الرسم علي الورق، و ذاعت شهرة فنه فقدره أهله وأساتذته والمحيطون به.
وعلى الرغم من أن الفنان محمود مختار لم ينتظم في أي تعليم نظامي، ولم يحصل على أية شهادة، إلا أن روح التقدير السائدة في المجتمع لكل قدرة وكل موهبة من ناحية، وتفجر موهبته الفذة من ناحية أخري، أهلتاه للقبول في مدرسة الفنون الجميلة (١٩٠٨) بعد افتتاحها لأول مرة.
وفي أثناء دراسته في مدرسة الفنون الجميلة أعجب به الأساتذة الأجانب وقرروا تخصيص مرسم خاص له، ضمن مبنى المدرسة، لإعداد منحوتاته به، من تماثيل، وأشكال تستعيد مشاهد الريف.
عرف الفنان محمود مختار النشاط الوطني وهو طالب، مع بواكير الحركة الوطنية، وفي إحدى المظاهرات عام ١٩١٠ انقض على حكمدار القاهرة الإنجليزي وجذبه من على حصانه فهوى إلى الأرض، فقبض عليه وأودع السجن ثم أفرج عنه بعد ١٥ يوما. وعاد إلى المدرسة يقود الطلاب إلى الحركة الوطنية ففصل من المدرسة هو وزميلاه يوسف كامل ومحمد حسن، ومع هذا فإنه لم ينقطع عن الاشتراك في المظاهرات الوطنية متعددة الأهداف.
على صعيد الفن اشترك الفنان محمود مختار في عام 1910 في معرض لأعمال طلبة مدرسة الفنون الجميلة أقيم في نادي محمد علي بشارع المدابغ ولقيت أعماله المعروضة كل إعجاب وتقدير.
وفي أعماله الأولي في أثناء دراسته نجح الفنان محمود مختار في أن يصور ملامح العصر، وفي أن يمزج بين الوطنية والمشاعر الرومانسية، كما عبر في ذكاء طالب الفن عن النغمة والملمس، وظهرت في أعماله بوضوح روح البطولة والتغني بمجد العروبة، وقد صاغ من هذه الملامح تماثيله المدرسية لأبطال العرب، خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
وبالمواكبة لدعوة قاسم أمين إلي تحرير المرأة والمطالبة بحقها في الحياة الاجتماعية، نحت الفنان محمود مختار تمثال «خولة بنت الأزور» البطلة التي حررت نساء تبّع وحمير من أسر الروم.
وبالإضافة إلى هذا كله فقد صور في تماثيله المدرسية المبكرة مشاعر الحب، ومشاهد من الحياة القاهرية. وتميز بمهارات وتقنيات جديدة حتى إنه على سبيل المثال أجاد التعبير عن الجماليات المجردة المرتبطة بالحركة ببسطات الملابس (تمثال الخماسين).
وُجه الفنان محمود مختار مع النوابغ من أبناء جيله إلي استكمال دراساتهم الأكاديمية في أوروبا، و فابتعث عام 1911 إلى باريس، و تقدم للدراسة في مدرستها العتيدة « البوزار» فكان أول الفائزين في مسابقة القبول.
وقد نقلنا في كتابنا باريس الرائعة ما تحدث به الفنان محمود مختار عن زيارته الأولى لمدرسة الفنون الجميلة في باريس، حيث قال:
«أما مدرسة الفنون الجميلة العالية التي كنت أقصدها هناك فنظامها كنظام الأزهر هنا عبارة عن (ateliers) ورش فنية يتولى كل ورشة منها أستاذ، فكأنها أروقة، وهؤلاء الأساتذة شيوخها. فيتصل التلميذ بأحد هذه الأقسام ويرتبط اسمه طول حياته باسم أستاذه رئيس قسمه، وكان أستاذي هو المسيو كوتان (Cotan) عضو المجمع العلمي، ومن كبار المثّالين ومن أعماله أحد أعمدة جسر إسكندر الثالث».
«وكان معي ثلاثة خطابات توصية: أولها من ناظر المدرسة بالقاهرة إلى المسيو كوتان الذي كان عارفا بحضوري، والثاني من الأمير يوسف كمال إلى مصور تركي يعرفه اسمه «غالب بك»، والثالث: من سكرتير المدرسة إلى عثمان باشا غالب».
«أما أصحاب الفندق فكانوا في الصباح غاية في اللطف وسألوني عن منامي، كالعادات الفرنسية، وسألتهم عن عنوان أستاذي، وذهبت إليه فكان اللقاء حسنا جدًّا وكان يسكن فيلا وهو رجل طويل منيف في الرجال كان له أكبر تأثير في نفسي. وعرضت عليه صور أعمالي في المدرسة فأسدى إلىّ نصائح فهمت بعضها ولم أفهم البعض الآخر. ولما كنت قد وصلت في إجازة الصيف فقد نصحني بالذهاب إلى أكاديمية من أكاديميات الفنون الحرة أعمل فيها حتى تفتح المدرسة أبوابها، وكتب إلى المدرسة بقبولي وهو شرط لدخولها لابد منه. وذهبت إلى غالب بك المصور التركي فلم تكن لمقابلته نتيجة تستحق الذكر»..
«وبعد الظهر ابتدأ شعوري يتحسن عن باريس، لأنني خرجت إذ شجعني أصحاب الفندق على المسير في الطرقات الجميلة، وكان أول شارع بذهني هو «بولفار رسباى» فبهرت من جماله. وقصدت أكاديمي «كولاروسى» وهي من أقدم الأكاديميات ولم أكن متعودا بعد على الحياة البوهيمية لأنني استأت من قدم البيت وعدم وجاهته، وكنت لم أدرك بعد معنى الفن للفن.
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918 اضطر الفنان محمود مختار بسبب انقطاع موارده إلى العمل في مصانع الذخيرة وكان يعمل عشر ساعات ليلا في إعداد الذخائر. وطلب إليه في ذلك الوقت ـ وكان لا يزال في سن الثانية والعشرين من عمره ـ أن يعود لبلاده ناظرا لمدرسة الفنون الجميلة ليخلف أستاذه لابلاني، فرفض برغم إغراء المنصب لأنه كان يدرك أنه لايزال في بداية الطريق، ولأنه اختط لنفسه أملا ومكانة أكبر من بريق المناصب.
في أثناء الحرب العالمية الأولي اختير الفنان محمود مختار لتولي منصب آخر كان يشغله أستاذه ـ وهو منصب مدير متحف جريفين للتماثيل الشمعية بباريس، وقد تولي الفنان محمود مختار هذا المنصب (طوال سنتي ١٩١٨ و١٩١٩). وهو متحف قديم يقع في حي مونمارتر، ويعتبر من أقدم وأهم متاحف الشمع في العالم إلي جانب متحف مدام تاسو بلندن.
قبل الفنان محمود مختار القيام بهذه المهمة باعتبارها خطوة في طريق إعداده، ووسيلة تعينه على استكمال تكوينه، ولأنه رأي المنصب مصدر فخر له ولبلاده، لكنه سرعان ما ترك المنصب برغم إغرائه وبأنه كان سببا من أسباب زهو بلاده به، لأنه رأي في انشغاله فيه ما يصرفه عن رسالته، ولأن فكرة تمثال «نهضة مصر» كانت قد أخذت تستحوذ عليه، وتشغل فكره.
وقد حفلت فترة توليه هذا المنصب بإنجاز عدد من أهم آثاره الفنية وأعماله المبكرة التي حفظت بمتحف جريفين، وهي مجموعة كبيرة من التماثيل الشمعية، ذلك أن فترة إدارته لهذا المتحف قد صادفت فترة من الأحداث التاريخية الكبرى، حيث واكبت نهاية الحرب العظمي، وكانت باريس في هذه الفترة مركز الأحداث، حيث عقد فيها مؤتمر السلام الذي شهدته وفود الدول المطالبة بالاستقلال وحق تقرير المصير.
وقد أتيح للفنان محمود مختار بفضل عمله بالمتحف أن يشهد جلسات مؤتمر السلام ويتابعها، وأن يسجل وجوه وملامح أقطاب المؤتمر، وقد أنجز منها مجموعة من التماثيل فضلا عن تماثيله الأخرى لقادة الجيوش ولمشاهد الحرب.
ومن آثاره بهذا المتحف تماثيل: كليمنصو، وبوانكاريه، ولويد جورج، وويلسون. ومن قادة الجيش: جوفر، وفوش، وفرنش، وكتشنر، وبرشنج. ومن مشاهد الحرب: حلم غليوم، وتدمير كاتدرائية ريمس، وعودة جنود الخنادق إلي باريس بعد النصر.
كما أعد مشهدا من وحي «الماريونيت» للكاتب الفرنسي تريستان برنار.وأقام الفنان محمود مختار بعد هذا تمثال «أنا بافلوفا» أعظم راقصة باليه في مطلع هذا القرن.
في ١٩٢٠ يلج الفنان محمود مختار باب معرض باريس الفني الكبير «صالون الفنانين الفرنسيين : صالون باريس» بتمثاله «عايدة» و يكون تمثاله هذا أول أثر فني مصري يعرض في المعارض الخارجية وقد قدمته شهادة لابلاني أستاذه في مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة: إن الفنان محمود مختار سيكون فخرا لمصر بل فخرا للعالم .
وفي ذلك الوقت كان الفنان محمود مختار قد صاغ أيضا فكرته عن تمثال نهضة مصر، و هكذا فإنه في باريس بدأ يصنع لبلاده ، وهو بعيد عنها رمزا لنهضتها ..
تكتمل قدرات الفنان محمود مختار الفنية وتترقي مع ثورة مصر الكبرى في ١٩١٩ حيث أحس الشعب كله بذاته وبتاريخه، وانتصاراته، وعادت الأسماء المصرية فرعونية وقبطية وإسلامية لتتصدر تيارات الوعي، وكان الفنان محمود مختار نفسه رائدا من رواد هذا التعبير القوي عن الذات. وعلي نحو ما عني الشيخ مصطفي عبد الرازق (١٨٨٥-١٩٤٧) بالإمام الشافعي، وعني الدكتور طه حسين (ولد ١٨٨٩-١٩٧٣ ) بابي العلاء المعري ، فإن الفنان محمود مختار (المولود ١٨٩١) نحت من ذاكرته المتكونة بالقراءة تمثالين لخالد بن الوليد، وطارق بن زياد. ولما كان أمير الشعراء أحمد شوقي يتغنى بإيزيس في أنس الوجود، كان الفنان محمود مختار في الوقت نفسه يرسم لها تمثالا ينبض بالحياة والشجن والذكري. وعندما طلب إليه أن يقيم تمثالا لأحسن فنانة مصرية اختار أم كلثوم التي كانت لا تزال في بداياتها الفنية، وقد أقام لها تمثالا من الشمع في وضع طبيعي يكاد ينطق بالحياة، وكان ذلك في العشرينيات بعد أن ترك العمل بمتحف جريفين
تأكد لجمهور الفنان محمود مختار ومتابعيه من النقاد والذواقة في ذلك الوقت أنه فنان أصيل يجمع إلى قوة التعبير عمق الانتماء وملامح الفن، وأنه يستلهم التاريخ الممتد كله، ويجيد التعبير عن البطولة في الوجدان المصري المسلم.
في تلك الفترة أثبت الفنان محمود مختار أيضا قدرته على مواكبة الأحداث السياسية بتماثيل قادرة على التعبير عن المعاني السامية، كما كان يواكب الأحداث الفنية بتماثيل قادرة على تخليد الحدث وإضفاء روح الفن عليه، وعلى سبيل المثال فإنه نحت تمثالي «اللقية» و«كاتمة الأسرار» بعد الكشف المبهر عن آثار الملك الطفل توت عنخ آمون. وهكذا وبهذا المنطق نفسه جاء مشروع تمثاله الأعظم «نهضة مصر» مواكبا تماما لتخليد ثورة الشعب الكبرى في ١٩١٩ ونتائجها على جميع الأصعدة.
وقد كان الفنان محمود مختار من الذكاء بحيث رمز للنهضة بالفلاحة المصرية لا بالحاكم، وهكذا أتيح للفلاحة المصرية أن تقف في أكبر ميادين القاهرة رمزا لمصر، وظلت الفلاحة المصرية تحتل هذا الموقع حتى جاءت روح التغيير غير الواعية التي اتسم بها عصر ثورة يوليو ١٩٥٢ لتنقلها إلي مكان آخر، ولتفضل لهذا الموقع تمثالا من تماثيل الفراعنة فتضعه بدلا من تمثال نهضة مصر وثورتها!!
وقد أزيح الستار عن تمثال نهضة مصر سنة 1928 بعد صراعات طبيعية ومتوقعة ومحاولات سلبية حاولها بعض الرسميين في مواجهة روح الشعب وحكوماته المستنيرة. وبعد أن نصب هذا التمثال «نهضة مصر» في ميدان محطة مصر تحولت ساحته إلي معقل من معاقل الحركة الفكرية،
وعلى الرغم من أن تمثال نهضة مصر كان مفخرة لعصره، وكان أول عمل من نوعه يقام في العصر الحديث، فإن الفنان محمود مختار لم يلق تقديرا ملكيا، لا لقبا ولا رتبة ولا وساما، ومع هذا فقد كانت مثل هذه التقديرات بعيدة عن طموح الفنان محمود مختار الذي لم يحفل بها، وكان التقدير الفني والشعبي هو غايته.
بعد عامين من إقامته لتمثال نهضة مصر في قلب القاهرة أقام الفنان محمود مختار معرضا خاصا لأعماله في باريس عام 1930 وكان ذلك المعرض سبباً في تعريف نقاد الفن العالميين بالمدرسة المصرية الحديثة في الفن .
كان الفنان محمود مختار قد عرض نموذجا لتمثاله الشهير نهضة مصر ، في معرض باريسي شهير هو معرض الفنانين الفرنسيين 1920 ونال عليه شهادة الشرف من القائمين على المعرض ، مما جعل المفكرين المصريين البارزين يطالبون بضرورة إقامة التمثال في أحد ميادين القاهرة الكبرى ، وهكذا بدأت الدعوة إلى تنظيم اكتتاب شعبي لإقامة التمثال وساهمت الحكومة فيه .
كانت فكرة التمثال تعبيرا عن اليقظة التي بدأت في بلاده : الفلاحة المصرية أم الأجيال التي أقامت حضارة مصر وأبو الهول رمز الحضارة المصرية القديمة .
في ذلك الوقت كان سعد زغلول باشا في باريس يرأس وفد الدعوة لقضية مصر، وشهد رجال الوفد تمثال النهضة و أعمال الفنان محمود مختار في متحف جريفين ، وأدركوا أن هذا الفنان يجب أن يحتل مكانه اللائق به في بلاده . و يذكر أن الزعيم الوطني ويصا واصف باشا عضو الوفد في باريس ورئيس مجلس النواب فيما بعد كان أكثر أعضاء الوفد ترددا على الفنان محمود مختار وبهذا أصبح بمثابة المنسق بين الفنان محمود مختار والزعيم سعد زغلول باشا.
وقد أقام الوفد المصري حفل تكريم للفنان محمود مختار حضره جميع أعضاء الوفد والمصريون في باريس.
وانتقلت أخبار مشروع تمثال النهضة إلى مصر، و بحماسه المتدفق وضع الأستاذ أمين الرافعي رئيس تحرير جريدة الأخبار صفحات الجريدة تحت تصرف الدعاة لإقامة تمثال نهضة مصر ، فكتب مجد الدين حفني ناصف وحافظ عفيفي باشا وواصف غالي باشا و ويصا واصف باشا و الأستاذ أمين الرافعي ” النداء” إلى الأمة للاكتتاب لإقامة تمثال نهضتها ، وقدموا الفنان محمود مختار للأمة. وذاع اسم الفنان محمود مختار واسم تمثاله سريعا بين الجماهير واعتبروه بطلا قوميا. بل أقيم له احتفال بالقاهرة واحتفال بالإسكندرية، وبدأت حركة الاكتتاب وأخذت الأقاليم وأفراد الشعب يتنافسون في مجال التبرع .
وتشكلت لجنة التمثال برئاسة حسين رشدي باشا، وعضوية واصف غالي باشا و ويصا واصف باشا ، وحافظ عفيفي باشا ، والأستاذ أمين الرافعي ، ومحمد محمود خليل بك ، وعبد الخالق مدكور باشا ، وفؤاد سلطان باشا ،وعبد القوي أحمد باشا . و نجح المصريون العظماء في أن يجمعوا من قروشهم البسيطة ستة آلاف وخمسمائة جنيه، وتبرعت مصلحة السكك الحديدية بنقل الأحجار من أسوان إلى القاهرة .. ومضي مشروع إقامة التمثال ما بين ازدهار وتوقف و تعطيل.
ومن الجدير بالذكر أن أولى أزمات التمثال حدثت في عهد وزارة عدلي يكن باشا الأولى 1921، ذلك أن وزارة الأشغال العمومية التي كانت الحكومة ترى أن التمثال يقع في اختصاصها ، طلبت من الفنان محمود مختار شهادة بحسن السير والسلوك، وهو أمر روتيني باعتبارها ستتعاقد معه أو تصرف له أموالا أو تفوضه في صرف أموال ونفقات ، فما كان من الفنان محمود مختار إلا أن كتب رسالة مباشرة إلى رئيس الوزراء عدلي يكن باشا قال فيها:
” … كنت أرى دائما يا صاحب الدولة أن إشراف الإدارة الحكومية في الحالة الراهنة على شئون الفن ليس فقط عديم الفائدة ولكنه ضار. أليس مضحكا ومثيرا في الوقت نفسه وصاية وزارة الأشغال على الفنون الجميلة ، لقد طلب مني أن أقدم شهادة حسن سير وسلوك ، ولما كنت سيئ السلوك والخلق وقضيت في السجن خمسة عشر يوما وأنني أعزب فأنا في استحالة مطلقة من أن أقدم الشهادة ، وقضي على ألا أكون أبدا موظفا حكوميا . “
ومما يستحق الإشادة و الذكر ، أن رد عدلي يكن باشا على هذه الرسالة كان أن زار الفنان محمود مختار في موقع التمثال.
وخصصت الوزارة التالية وهي وزارة عبد الخالق ثروت باشا الأولى للمشروع مبلغ 3000 جنيه ثلاث آلاف جنيه.
و لما أصبح سعد زغلول باشا رئيسا للوزارة الشعبية ١٩٢٤ تحدث ويصا واصف في البرلمان عن تمثال النهضة ، وطالب الحكومة بتخصيص الاعتماد اللازم لاستكماله ، فأعلن سعد زغلول باشا رئيس الوزارة عن تكفل الوزارة بإقامة تمثال النهضة، و وضع المهندس عثمان محرم باشا وزير الأشغال بتكليف من سعد زغلول تفصيلات المشروع .
لكن المشروع سرعان ما تعثر بعد استقالة سعد باشا من رئاسة الوزراء في نوفمبر عام ١٩٢٤ ، وظل على هذه الحال إلى أن جاءت وزارة عدلي يكن الثانية ١٩٢٦ ووقف ويصا واصف باشا أيضا في البرلمان يدافع عن التمثال ، وقرر البرلمان إجراء تحقيق في تعثر المشروع .. واعتمد البرلمان النفقات اللازمة لإتمام التمثال ، وتعاقدت الحكومة على إنجازه في ١٣ شهرا.
وفي عهد تلك الوزارة حظيت ساحة التمثال بزيارات من الرؤساء الأربعة : سعد زغلول باشا وعدلي يكن باشا وحسين رشدي باشا ، وعبد الخالق ثروت باشا ، وعدد من أهم شخصيات الدولة وهم جميعا يقدرون عمل الفنان محمود مختار ويعجبون بحماسه.
وفي عهد وزارة مصطفى النحاس باشا 1928 انتهى العمل في التمثال، وأقيم في ميدان محطة مصر / باب الحديد / رمسيس حاليا ، وأزاح الملك فؤاد الستار عن التمثال في 20 مايو عام 1928 ، وألقى رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا كلمة باسم الدولة ، وألقى أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته الشهيرة التي تحدث فيها عن فضل الفنان محمود مختار على التاريخ الوطني فيقول :
جعلتُ حُلاها وتمثالها |
عيونَ القوافي وأمثالها |
وأَرسلتُها في سماءِ الخيال |
تجرُّ على النجم أذيالها |
وإني لغِرِّيدُ هذي البطاح |
تَغَذَّى جَناها وسَلْسالها |
ترى مصر كعبة |
أشعاره وكلِّ معلقة ٍ قالها |
وتلمَحُ بين بيوتِ القصيدِ |
جحالَ العروسِ واحجالها |
أَدار النسيبُ إلى حبِّها |
وولَّى المدائحَ إجلالها |
أَرَنَّ بغابرها العبقريّ |
وغنى بمثل البكا حالها |
ويروي الوقائع في شعره |
يروض على البأس أطفالها |
وما لَمَحوا بعدُ ماءَ السيوفِ |
فما ضَرّ لو لَمَحوا آلها |
ويوم ظليل الضحى من بشنس |
أَفاءَ على مصرَ آمالها |
رَوَى ظلُّه عن شباب الزمانِ |
رفيفَ الحواشي وإخضالها |
مشَت مصرُ فيه تُعيد العصورَ |
ويغمر ذكر الصبا بالها |
وتَعْرض في المِهرجان العظيمِ |
ضحاها الخوالي وآصالها |
وأَقبل رمسيسُ جَمَّ الجَلالِ |
سني المواكب ، مختالها |
وما دان إلا بِشُورَى الأُمور |
ولا اختال كِبْراً، ولا استالها |
فحيَّا بأَبْلجَ مثلِ الصَّباحِ |
وجوهَ البلادِ وأَرسالها |
وأَوْما إلى ظلماتِ القرونِ |
فشقّ عن الفنّ أسدالها |
فمن يبلغ الكرنكَ الأقصريَّ |
وينبيء طيبة أطلالها |
ويسمع ثمَّ بوادي الملوكِ |
ملوكَ الديار وأَقيالها |
وكلَّ مخلدة ٍ في الدمى |
هنالك نُحصِ أَحوالها |
وما كعلي ولا جيلِه |
ويفضُلْنَ في الخيرِ مِنوالها |
تكاد – وإن هي لم تتصل |
بروحٍ ـ تُحَرِّك أَوصالها |
وما الفنُّ إلا الصريح الجميل |
غذا خالط النفس أوحى لها |
وما هو إلا جمالُ العقول |
إذا هي أَوْلَتْه إجمالها |
لقد بعث الله عهد الفنون |
وأَخرجت الأَرضُ مَثَّالها |
تعالوا نرى كيف سوى |
الصفاة َ فتة ً تلملمُ سربالها |
دنت من أبي الهول مشى |
الرؤوم إلى مُقْعَدٍ هاج بَلْبالها |
وقد جاب في سَكَرات الكَرَى |
عروضَ الليالي واطوالها |
وأَلْقى على الرمل أَرْواقَه |
وأَرْسى على الأَرض أَثقالها |
يخال لإطراقه في الرمال |
سَطِيحَ العصورِ ورَمّالها |
فقالت: تَحرَّكْ، فَهمّ الجمادُ |
كأَن الجمادَ وعَى قالها |
فهل سَكَبَتْ في تجاليده |
شعاعَ الحياة وسالها ؟ |
أَتذكُر إذ غضِبَت كاللّباة ِ |
ولمت من الغيل أشبالها ؟ |
والقت بهم في غمار الخطوبِ |
فخاضوا الخطوبَ واهوالها |
وثاروا ، فجن جنونُ الرياحِ |
وزُلزِلتِ الأَرضُ زِلزالها |
وبات تلمسهم شخصهم |
حديث الشعوب واشغالها |
ومن ذا رأى غابة ً كافحتْ |
فردت من الأسرِ رئبالها ؟ |
وأهيب ما كان بأس الشعوبِ |
إذا سلَّح الحقُّ اعزالها |
حوادث ، ارغع الستر |
عن نهضة تقدم جدك أبطالها |
وربّ أمرئ ٍ لم تَلِده |
البلادُ نماها ، ونبه أنسالها |
وليس اللآلئ مِلْكَ البحورِ
|
ولكنها مِلْكُ من نالها |
إذا عرضت مصر أجيالها |
بنوا دولة من بنات الأسنـ ة |
لم يشهد النيلُ أَمثالها |
لئن جلل البحرَ أسطولها |
لقد لبِس البرُّ قَسطالها |
فأما أبوكَ فدنيا الحضارة ِ |
لو سالم الدهرُ إقبالها |
تخيّر إفريقيا تاجَه |
وركب في التاج صومالها |
ركابُك يا بن المُعِزِّ الغُيوثُ |
إن سرن في الارض نسنها |
ركابَ السماءِ وأَفضالها |
فلم تبرح القصر إلا شفيتَ |
جدوبَ العقول وإمحالها |
لقد ركب اللهُ في ساعديك |
يمين الجدود وشمآلها |
تخط وتبني صروحَ العلومِ |
وتفتح للشَّرق أَقفالها |
وهكذا اجتمع الاحتفال الرسمي بالحماس الشعبي فجعل من إزاحة الستار عن التمثال يوما قوميا.
نحت الفنان محمود مختار تمثالي الزعيم المصري الكبير سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية في الفترة ما بين عامي 1930-1932، وذلك على الرغم من أن العمل في هذين التمثالين كان يحارب بشكل مكشوف.
في أثناء وزارة مصطفى النحاس باشا الثانية 1930 تم التعاقد بين الحكومة وبين الفنان محمود مختار على إقامة تمثالين للزعيم سعد زغلول تمثال في القاهرة وتمثال في الإسكندرية. ومن الجدير بالذكر أن الفنان محمود مختار كان في ذلك الوقت مسافرا في باريس مع أربعين تمثالا من أعماله المعروضة في قاعة برنهيم بشارع سانت هونريه ، و كانت تتحلق حول أعماله باقة من رجال الفن والأدب والمجتمع ، كما صدر كتالوج يعرف بهذا الفنان المصري وبأعماله المعروضة، فلما وصلته دعوة بلاده للتعاقد على إقامة تمثالين لزعيم الأمة سعد زغلول في يوم من أيام العرض ، ترك كل شيء وحضر على الفور إلى القاهرة ، لأن إقامة هذين التمثالين كانت أمنية له منذ رحيل الزعيم سعد زغلول في أغسطس عام 1927 .
وضع الفنان محمود مختار تصورا لتمثال سعد في القاهرة: مطلا على النيل، تلوح من مطلع الطريق إيماءة يده كأنها إشارة البعث والانتصار.. وحوله صور من حياة الشعب، والثورة و أهدافها التي كرس لها جهاده: العدالة والدستور ، وفي مقدمة التمثال تحية للزعيم تتمثل في مصر تحمل رمزي الشمال والجنوب ، ولوحة لمديريات القطر المصري وقد أقبلت تؤدي تحية الإجلال والوفاء. وفى صعيد مواز تصور الفنان محمود مختار تمثال سعد في الإسكندرية رمزا لتحطيم القيود وجعل من انقباض يده وصرامة ملامحه، ومن العزم الأكيد الذي يبدو في خطواته رمزا لتجمع إرادة الأمة ولعزيمتها التي هبت تحطم الأغلال.
سافر الفنان محمود مختار بنفسه إلى وادي الجرانيت في أسوان ومعه مجموعة من عمال الصعيد لينتقي الأحجار التي سينحت منها التمثالين .
وبينما كان الفنان محمود مختار في أوج الحماسة والعمل بين القاهرة وأسوان حدث الانقلاب على حكومة النحاس باشا، وجاءت وزارة إسماعيل صدقي، وساومته قوى الثورة المضادة على عدم إقامة التمثالين، وعرضوا عليه المغريات من المال والمناصب ، ووصل الأمر إلى اللوم الصريح على تفكيره في إقامة هذين التمثالين ، ولكن الفنان محمود مختار أعرض عنهم ومضى يتنقل بين الإسكندرية والقاهرة وأسوان.
ثم تدخلت الحكومة بشكل سافر وحاولت أن تعطل قطع الاحجار من أسوان، وأن تمنع نقل ما تم إعداده منها إلى القاهرة.. وظل الفنان محمود مختار يواجه هذه المتاعب طيلة فترة حكم إسماعيل صدقي باشا. لكن المعاونين له و كذلك العمال تحدوا إرادة الحكومة بدافع وطني حتى تم انجاز التمثالين.
يري أستاذنا بدر الدين أبو غازي أن خاله الفنان محمود مختار عبر عن نظرته الجمالية للجسم البشري في تماثيل ثلاثة «اللقية» و«إيزيس» و«عروس النيل». وهي تماثيل معبرة عما يعرف في لغة الفن بالنموذج الثابت من الجمال، وهو جمال يحمل معني السمو، وهو يعبر بالاستقامة عن النيل والنخيل وشموخ الوادي دون أن يضطر إلى الإكثار من الانحناءات والخطوط المتعرجة الماثلة في تماثيل النحاتين الأجانب، وتمثل هذه التماثيل النظرة الجمالية المصرية والتأثر بالبيئة.
وقد نجح الفنان محمود مختار في أن يفرض نجاحه الفني في أكثر من أسلوب، فكما نجح في أسلوب النحت في الحجر فإنه نجح أيضا في أساليب التشكيل في البرونز، وقد عالج بها موضوعات عدة من بينها تماثيله «المكفوفون الثلاثة» و«عند لقاء الرجل» و«حارس المزرعة» و«شيخ البلد» و«الفلاح يسير»،
وفي هذه التماثيل تتبدي رهافة إحساس الفنان محمود مختار.
وبوسعنا أن نري الحركة وملامح التعبير وإيقاع الخطوط وأدق التفاصيل في المعالجة التشكيلية وهي تتفاوت من تمثال إلى تمثال وفقا لموضوعه، فنلمح الأسي والحزن في تمثال «المكفوفون الثلاثة»، واستقامة التكوين التي تصور تمجيد الفلاح في تمثالي «حارس المزرعة» و«الفلاح يسير»، بينما يكشف البناء التشكيلي في تمثال «شيخ البلد» عن لمحة ساخرة،
أما التكوين في تمثال «عند لقاء الرجل» فيحقق اللمسة الإنسانية التي يومئ إليها الفنان، والتي تجعل من تمثاله برغم ملامحه الإقليمية تعبيرا إنسانيا أخاذا، ويساير الملمس التشكيلي التكوين البنائي للتمثال في حساسية مرهفة فيحققان معا الأثر الفني المقصود.
وبأسلوب المعالجة الذي يعتمد على النحت لا على التشكيل خرجت إلى الوجود ثلاثة من أروع تماثيل الفنان محمود مختار في رأي ابن شقيقته وكاتب تاريخه الأستاذ بدر الدين أبو غازي الذي يعدد هذه التماثيل ويحلل قدرات الفنان محمود مختار الفنية فيها:
«تمثال «الخماسين» من الحجر، وفيه يعتمد على دينامية الخط للتعبير عن عنف المقاومة وعصف الريح، والتمثال بمتانة تكوينه البنائي وتماسك كتلته يعد من الآثار الفذة في فن النحت الحديث، وفيه فضلا عن قيمه التشكيلية طاقة نفسية عميقة ترفعه من المحلية إلى العالمية،
وكما أن التمثال يعبر عن الريح التي تعصف بمصر فإنه يمثل رمزا للإنسانية كلها في صراعها مع الظروف الخارجية القاسية التي تواجهها،
أما تمثالا «الحزن» و«القيلولة» فإنهما نموذجان بارزان للقدرة علي التعبير بالكتلة عن المعاني والمشاعر الإنسانية مع القدرة علي استخدام عناصر الجمال الرياضي في اللغة التشكيلية، وقد مكن هذا الأسلوب الفنان محمود مختار من إجادة التعبير عن هذه الشحنة الإنسانية العميقة في التمثالين برغم إيجاز التعبير وتركيزه» .
ظل اسم الفنان محمود مختار رمزاً وعلامة في تاريخ الفن التشكيلي المصري، رائداً عبقرياً لفن النحت ، ولا يزال دور ريادته قابلا للخلود عن جدارة ، فهو أول من أعاد الحياة لإزميل النحات المصري ليعيد لمصر مجد فن النحت، وقد ترك الفنان محمود مختار تراثا كبيرا متميزاً من اعماله التي تضمنت كما أشرنا تماثيل ميدانية وأعمالا أخرى تعبر عن حياة الريف والقرية المصرية التي تأثر بها ، وتمثل صورا للحياة اليومية التي اجادها ابداعا وعبر عنها بشكل فني رائع. ورغم ازدهار العديد من المدارس الفنية في ذلك العصر، فإنه تولى إحياء التقاليد الفنية المصرية في مختلف عصورها.
و مع الدور البارز الذي لعبه الفنان محمود مختار في الإنشاء والاعداد للحركة الفنية فإنه لم ينصرف عن دوره كمبدع في الفن، ولم يقنع بالتقدير المتكرر، إنما كانت آماله دائما أوسع مسافة من خطاه، و كان كلما حقق شيئاً ضاعف جهده .
ولم يقف الفنان محمود مختار عند مصرية الموضوعات والاهتمام بحياة الشعب ، وانما كان فنانا قوميا يتسلم التراث .ويشيع في عروقه النبض والروح المصرية التي طافت بكل الحضارات وانغمست في روح العصر .
ورغم قصر عمر الفنان محمود مختار الفني فقد أورثنا تراثاً ضخماً من تماثيل الميادين ، ومن القصائد المنحوتة من حياة القرية المصرية و مشاعرها وأفراحها .
سرعان ما تخلص الفنان محمود مختار من تأثير المدرسة الباريسية التي عايشها في مقتبل حياته والتي اتسمت بالرقة والحركة والتسجيل الواقعي وانتقل بذكاء وسلاسة الى مرحلة النهوض الفني التي تكشف عن الجمال الهندسي الداخلي، وإذا كان تمثال الفلاحة والجرة بمثابة أول عمل ينبض بالروح الفرنسية التي تأثر بها في مرحلة تكوينه فإن تمثاله “الفلاحة تجر الماء” يعبر عن تفجر الملامح والروح المصرية الأصيلة والتي تمثلت في الانحناءات المستديرة لحاسة التكوين البنائي وتبسيط الكتلة مع انسياب الخطوط بسلاسة .
نحت الفنان محمود مختار تمثاله على شاطئ النيل للفلاحة المصرية رامزاً للشعب بأسره في خطوط وحدة حادة وتناسق .. حققت التوازن المعماري للتمثال .
وتتجلى حاسة الفنان محمود مختار في توفيقة بين اختيار الشكل الفني الملائم لكل موضوع يتناوله بالمعالجة .
وهكذا ترك محمود مختار آثارا بارزة من فنون هذا الوادي الفرعوني الإسلامي ، فيها ألفة مع الحياة ووضاءة الصباح و شجن الريف كما أنها تتضمن التعبير باستخدام عناصر الجمال الرياضي في اللغة التشكيلية.
ليس من شك في أن الفنان محمود مختار كان أحد القلائل الذين شاركوا في تحقيق الذاتية القومية لمصر، و التعبير عنها ، وفي تنمية الثقة الوطنية بالنفس، وفي توجيه العين المبصرة نحو النهضة التي قادتها ثورة ١٩١٩، وقد نجح الفنان محمود مختار في أن يعبر عن مقومات النهضة السياسية والاقتصادية لأمته تعبيرا حيا تفوق به على نظرائه ومعاصريه من الأدباء والشعراء المعاصرين له، وإذا نظرنا إلي فنون التعبير من حيث قدرتها الإيحائية فإن تماثيل الفنان محمود مختار تبقى بمثابة أقوي أثر فني مصري حديث يعبر عن الأمل والإصرار والكبرياء والثقة في النفس والإحساس بالقوة ، ومن المدهش و المثير للإعجاب أن الفنان محمود مختار قد عبر عن هذا كله ببساطة واضحة دون حاجة إلي التعقيد أو التركيب.
ويمكن القول بأن الفنان محمود مختار كان في طليعة الرواد الحقيقيين للفنون الأدبية الحديثة بما استطاع السبق إليه من إجادة التعبير بالرمز الموحى، وتكثيف المعاني من خلال هذا الرمز.
وقد ظهر أثر الفنان محمود مختار بالفعل في كتابات طلائع أدبائنا المعاصرين له في عصر النهضة، وقد أعجب هؤلاء بمقدرته علي التعبير الفني القادر على الإيحاء، حين كانوا يرون قدرته علي أن يعبر بالحجر عن المعاني الدقيقة والدفينة تعبيرا قويا لا يحتمل اللبس ، ولا يخضع للاختلاف في التأويل، فكان هذا وحده بمثابة أقوي دافع لهؤلاء الأدباء علي تجويدهم لإنتاجهم الذي يستهدف التعبير عن قيم اجتماعية محددة، كما كان دافعا علي العناية بتكثيف التعبير الدقيق بالكلمة الواحدة ، وبالجملة الواحدة ، وبالمجاز الدقيق عن المعاني الكبيرة.
وقد رصد بعض النقاد تأثير الفنان محمود مختار في اختيار يحيي حقي علي سبيل المثال لقنديل أم هاشم ليكون بمثابة الرمز الذي يدير حوله عملا أدبيا من أهم الأعمال الباعثة علي النهضة بمعناها الواسع.
مع أن الفنان محمود مختار درس النحت دراسة أكاديمية كلاسيكية في أكاديميات باريس، حيث كان من الطبيعي أن يظهر في فنه التأثر الحتمي بالتمثال الإغريقي والأساليب الرومانية، فإنه بعبقرية نادرة تمكن من أن يصوغ أسلوبه الفني مكتملا بعد سنوات قليلة وقد أصبح له أسلوب « مختاري» خاص ومتفرد يعبر عن ملامح خاصة مرتبطة ببيئة أصيلة لم يسبق لفنان آخر التعبير عنها بهذه القوة، وكأن هذا الفنان العظيم علي الرغم من دراسته الاكاديمية العالية في باريس لم يتأثر إلا بوطنه وبفن أجداده الأقدمين، وقد تمكن بعبقريته الفذة وبفطرته النقية الذكية من أن يتخطى ويتجاوز ملامح كل المدارس الفنية التي كانت قد استقرت في كلاسيكيات الفن المعاصر، والمدارس الأخرى التي كان تبزغ إلي الوجود في ذلك الوقت، سواء في ذلك الدعوة إلي العودة إلي الفن الإيحائي للتعبير عن الأحاسيس والمشاعر، والدعوة الجديدة (في ذلك الوقت) التي نادت بضرورة تكوين النحت البنائي، والدعوات الثالثة إلي استخدام خامات غير تقليدية.
وقد استطاع الفنان محمود مختار برغم كثرة المذاهب الفنية في عصره وجاذبيتها ، أن يتجنب إبهار هذه المدارس وأن يوجّه جهده في سبيل استكشاف واستكناه تقاليد بلاده الفنية في عصورها المختلفة، وذلك من دون أن يغفل الإفادة الواعية من تجارب الفن الحديث ، رابطاً بينها وبين التراث مانحا لحساسيته حرية التعبير بلغته الخاصة. وهكذا فإنه بحس فني عال، تمكن من أن يلتقط من مجتمعه وأهله الإحساس بالجمال الهندسي الحقيقي.
تمتع الفنان محمود مختار بالقدرة الفائقة على تطوير أفكاره الفنية والتعبيرية، فضلا عن القدرة على التحليل للوصول إلي جوهر الكائنات التي تعامل معها بفنه. وعلى سبيل المثال فإنه ابتدع في تمثالي الزعيم سعد زغلول باشا أسلوبا جديدا معبراً عن ثورة في الموضوع وثورة في أسلوب التناول، وعن صورة مستحدثة من التعبير الفني الدقيق خرجت عن تفاصيل الواقع ودقائق الملامح لتخلد معني رمزيا وحقيقة عميقة.
ففي تمثال سعد زغلول الذي يزين ميدان محطة الرمل في الإسكندرية قائما بقوة ووضوح وتجل علي قاعدة فنية جميلة في مواجهة كورنيش البحر يقف الزعيم سعد زغلول متحفزا قابضا يديه كأنه يسير واثقاً إلي الأمام في عزم أكيد لا يلتفت إلي الوراء ولا إلي الجانب، إنما هو في هذا التمثال رمز لكفاح الأمة التي هبت تحقق الذات وتثبت الوجود و تحطم القيود، وقد ركزت سعيها في هذا الهدف وحده دون أن يشغلها عنه شيء.
وفي تمثال الزعيم سعد زغلول المقام في القاهرة يطل صاحب التمثال برأسه الشامخ ويده تشير في ثقة إلي البعث والانتصار، لا تكاد تلوح هذه اليد من بعيد من الشاطئ الآخر للنيل حين نكون قادمين إلي ميدان الجزيرة من ميدان التحرير حتي نري في نفوسنا رعشة الشعور بعظمة الانتصار على نحو ما أحس الشباب في أيام ثورة ٢٥ يناير .
ويرى بعض النقاد أن رؤية الفنان محمود مختار لدلالات التمثالين كانت متقدمة على رؤية كبار المفكرين من وزن وطبقة الأستاذ العقاد، الذي كان يظن أنه لابد للتمثال أن ينفعل بحركة الهواء أو بملامح وجه سعد علي سبيل المثال.
وعلى هذا النحو كان رأي الفنان محمود مختار من قبل مع النقد الذي وجهه الأستاذ المازني لتمثال نهضة مصر، وقد أبان الفنان محمود مختار في رده المكتوب (والمنشور) علي نقد الأستاذ المازني عن وعي فكري وبلاغي لا يقل عن وعي الأستاذ المازني وأضرابه بالقدرات التعبيرية.
وبالإضافة إلى القمة العالية التي بلغها الفنان محمود مختار في تمثالي سعد زغلول فإن أسلوبه المميز يظهر بوضوخ في تماثيل عدلي باشا وحسين سري باشا وعلي إبراهيم باشا.. وفي هذه التماثيل / الرؤوس يظهر بوضوح تمكن الفنان محمود مختار من أسلوب المعالجة التشكيلية وقدرته على ترجمة ملامح الوجه إلى مقاطع تشكيلية، وإخضاعها لنسق واحد.
جمع الفنان محمود مختار خصائص وسمات فنية عالية من منابع الفن المختلفة وجواهرها، فقد أخذ من الفن المصري القديم عناصر كثيرة منها قوة الخط وقدرته على التعبير ومتانة التكوين والتوازن والهندسة غير المنظورة للأشياء، واستعار معايير المذاق الحسي من الجمال الكلاسيكي الذي أجاد الفن الإغريقي تصويره، واستثمر التجارب المكتملة الهادفة إلى تصوير الرقة والدقة التي كونت الروح الزخرفية التي تميز بها تراث الفن الإسلامي. وقد نجح الفنان محمود مختار كذلك في أن يضمن تماثيله لمحات تجريدية وتكعيبية، ولكنه أخذ من هذه اللمحات ما ينتمي إلى حضارتنا. فمصر الفرعونية قدمت في فنونها أصول التجريد والتكعيب، لكنها لم تجعلها شعارا وهدفا وإنما استخدمتها كوسائل لتعميق التعبير الفني، ومصر الإسلامية ترنمت بالتجريد في فنونها، وهكذا كان دور التكعيب والتجريد في فن الفنان محمود مختار بمثابة الوسائل المعينة التي تكمل مقتضيات التعبير وتحقق الأثر التشكيلي الذي يربط المشاهد بالعمل الفني.
وقد استطاع الفنان محمود مختار أن يحقق النجاح بهذا التراث من خلال تجارب ممتدة في الفنون المعاصرة كما تمكن بنجاح من أن يتطلع إلي حضارة البحر المتوسط التي أثرت فيها مصر وتأثرت بها حتي خرج فنه إلي الحياة ليقدم تعبيرا جديدا عن شخصية الوطن، وإذا أردنا نموذجاً لهذا التكامل التي نجح الفنان محمود مختار في صياغته فبوسعنا أن نتأمل مجموعته «العودة من النهر» حيث يبدو التكوين البنائي وموسيقية الخط في هذه المجموعة بوضوح كما يبدو ما أودعه داخل إطار وحدتها التشكيلية من تفاوت في الحركة والإيقاع مما جعلها تبدو في النهاية كمقاطع من النغم الموسيقي المنحوت الذي يحفل بالتكرار والتميز معاً .
كانت البساطة مع الذوق هما طابع الفنان محمود مختار في حياته كما في فنه. وكانت علاقة أعمال هذا الفنان العظيم بالكائنات الحية علاقة فنية نموذجية مكنته من أن يستلهم أكبر قدر من الإلهام ينتظره الفنان من الكائنات المحيطة، وقد كان الفنان محمود مختار يتمتع بحب الحيوان الأليف، وكان هذا الحب العميق للحيوان يكمل حباً آخر عميقاً للطفولة.
كان الفنان محمود مختار صديقا لمساعديه والعاملين معه وصديقا للمترددين عليه في حياته، ولم يبتعد عن الإحساس بمواطنيه والتقرب إليهم والتعبير عنهم.
ومع هذا كله، وفي الوقت نفسه فقد أثرت في الفنان محمود مختار وأثرت روحه علاقة حب ملهمة خارج حدود وطنه، لكننا لم نعثر على تفصيلات قصتها حتى الآن.
وعلى الرغم من أن الفنان محمود مختار قد ظهر في مصر بعد أجيال من الصمت الفني كما قلنا في مطلع حديثنا، فإن فنه كان يشير في تلقائية ووضوح إلي عراقة الاستمرار، وإلي وحدة الفن المصري عبر تاريخه، فقد تجمعت في أعماله خلاصة تقاليد مصر، ممتزجة في لا وعيه مع تجارب الفن الحديث.
ويستطيع المتأمل لمتحف الفنان محمود مختار الذي جمع كثيراً من أعماله أن يدرك مدي ما تثيره تماثيله من إثارة للشعور بالجمال، ومدي قدرة هذه التماثيل على التعبير بوضوح وقوة عن معاني عميقة المغزى لا يصعب إدراكها على الشخص العادي الذي لم يدرس الفن بطريقة مدرسية، وذلك بفضل التعبير القوي والموحى الذي مكن الفنان محمود مختار من أن يبسط ويجيد عرض المعاني الدقيقة باقتدار
لم يكن الفنان محمود مختار يقف في عمله الفني في النحت وتماثيل الأشخاص عند مرحلة إتمام التمثال المعبر الناطق، لكنه كان من الذكاء الفطري والفني بحيث انتبه إلي أن يكمل عمله الفني في صياغة قاعدة التمثال صياغة يعبر من خلالها عن أسمي المعاني وأدقها، وعلي سبيل المثال فإنه حرص علي أن تتضمن قاعدة تمثال سعد زغلول تصويرا بليغا لجموع الفلاحين وأصحاب الحرف، رامزا بهذا إلي أن الشعب يمثل الأساس، وبهذا المعنى المبتكر فقد كان الفنان محمود مختار في نظر النقاد سابقا لعصره في تعبيره عن فكرة التضامن بين الفلاحين والحرفيين.
وبالإضافة إلى تعبير الفنان محمود مختار عن الروح القومية بقوة واقتدار فقد عبر أيضاً عن أفكار مثالية وثورية في الإصلاح الاجتماعي، وانحاز إلى المواطن البسيط وإلي الأغلبية الساحقة من الشعب،
وقد كان الفنان محمود مختار حريصاً على أن يعبر بالفن عن إعلاء قيمة الفلاح المصري، وهو الذي صاغ في الوجدان من تماثيله اعتزازا يناظر ويؤازر اعتزاز زعيم الأمة سعد زغلول بالجلاليب الزرقاء،
بل إن الفنان محمود مختار تعمد في أغلب فترات حياته الفنية أن يهب فنه كله للتعبير عن الفلاح، حتى إنه كما رأيناه في تمثال نهضة مصر جعل الفلاحة المصرية بمثابة نموذجه الأصيل الذي سيطر على فنه، ومثّل القاسم المشترك في كل أعماله.
ولا شك في أن الفلاحة المصرية في فن الفنان محمود مختار تتمثل وتتجسد في صورة قيمة معنوية وفنية كبيرة، وقد كثف الفنان من تعبيره وتركيزه على بعض ملامحها المتميزة: بنيتها الممشوقة، ورأسها المرفوع، وتغنيها بالحياة والشمس والحب والأسرة والمسئولية والعمل.
ولم يقف إنجاز الفنان محمود مختار في تعبيره عن روح مصر الناهضة عند أي درجة من درجات الانحياز الفكري، لكنه وضع بصمته المميزة الخالدة علي كل نواحي النشاط الفني في مجال عمله، وقد أجاد أسلوبه في بناء التماثيل التعبير عن منهجه في الفن، فقد كانت تماثيل الأشخاص التي أقيمت في مصر حتي عهد الفنان محمود مختار تمثل الملوك والسلاطين وأتباعهم، وقد صيغت علي غرار أسلوب القرن التاسع عشر وعلي نهج الواقعية الأكاديمية، وعلي هذا النحو فقد نحتت التماثيل التي لاتزال تنتصب في ميادين القاهرة والإسكندرية من قبيل تماثيل محمد علي باشا ، وإبراهيم باشا، ولاظ أوغلي ، وسليمان باشا، لكن محمود مختار جعل من تماثيل الأشخاص تعبيرا عن فهمه لروح النهضة و الارتقاء .
بالإضافة إلي الدور الذي لعبه الفنان محمود مختار في التعبير القوي عن الذاتية القومية لمصر (أو عن شخصية مصر حسب التعبير الأكثر بلاغة ونحتا) فقد لعب الفنان محمود مختار دورا رائدا في بعث الروح الفنية في النشاط الاجتماعي والمجتمعي، وعلي سبيل المثال ، فإليه قبل غيره يرجع الفضل الأول في بعث نشاط الجمعية المصرية للفنون الجميلة، وقد أشرف بنفسه علي تنظيم معارض الربيع التي كانت تتيح عرض الأعمال الفنية لأبناء جيله، كما تعاون بذكاء مع الاهتمامات الفنية التي وسمت نشاط الحركة النسائية التي قادتها السيدة هدي شعراوي.
وقد مكّن الفنان محمود مختار زملاءه من السيطرة على تقييم وتقدير مستويات الحركة الفنية من خلال لجان التحكيم التي ضمت معه زملاءه من شبان الحركة الفنية، كيوسف كامل، ومحمد حسن، وراغب عياد، وعثمان دسوقي.
وإلي الفنان محمود مختار يعود الفضل في تحويل اهتمام الدولة بالفن إلى طابع «مؤسسي» بدلا من أن يكون الاهتمام «موسمي» الطابع، وقد ظل الفنان محمود مختار ينادي بوجوب إقامة المدارس الفنية، وإنشاء المتاحف، وجمعيات الفنون، والعناية بالبعثات العلمية في مجال الفن، وبفضل المكانة المتقدمة التي احتلها في المجتمع فقد لقيت دعواته هذه القبول والاهتمام.
وإلي الفنان محمود مختار أيضا يرجع فضل إيجاد كيان أو جهاز حكومي مختص بالفنون الجميلة بالدولة، وإلى جهوده يرجع فضل بدء البعوث الرسمية في الفن، وتخصيص اعتمادات في ميزانية الدولة للفنون، وإليه يعود الفضل في تنظيم مدرسة الفنون الجميلة العليا، وإقامة المعارض الدورية.
صدر قرار محمد سعيد باشا وزير المعارف في وزارة سعد زغلول بتشكيل لجنة سميت لجنة الفنون الجميلة ضمت في عضويتها الفنان محمود مختار لمدة ثلاث سنوات، وكلفت اللجنة بشئون البعثات الفنية واعتماد ميزانية للفنون الجميلة والعناية بتنظيم الدراسات الفنية في مصر، وتنظيم مدرسة الفنون الجميلة وإنشاء مصنع في أسوان لتنمية فن نحت التماثيل.
وبعد عامين أصدر على الشمسي باشا وزير المعارف في وزارة الائتلاف التي رأسها عدلي يكن باشا 1926 قرارا بإنشاء مكتب خاص بوزارة المعارف تطور إلى مراقبة عامة للفنون الجميلة. وأعطيت صلاحيات للجنة الفنون الجميلة والفنان محمود مختار عضو بها، وهكذا انفصلت بفضل جهوده مراقبة الفنون الجميلة عن مراقبة التعليم الصناعي، كما تم إنشاء المدرسة التحضيرية للفنون الجميلة والزخرفية.
وتقدم الفنان محمود مختار لوزير المعارف على الشمسي باشا بمشروع إنشاء مجلس أعلى للفنون برئاسة وزير المعارف للإشراف على الحركة النفية ورسم الاتجاهات الأساسية لها، والاهتمام بدراسة الفنون وتاريخ مصر القديمة وعلم الجمال وفلسفة الفنون والعناية بمدرسي الرسم في المدارس وإنشاء معهد للموسيقى على أسس سليمة.
وفي هذا الإطار استقبل الملك فؤاد الفنان محمود مختار الذي قدم له تمثال ” امرأة القاهرة “
وإلي الفنان محمود مختار يرجع الفضل في تقوية الرابطة بين أبناء جيله من الفنانين والأدباء، وقد تمكن من تحقيق هذا الهدف النبيل بفضل اجتماع زملائه من الفنانين حوله في جماعة متميزة، وقد كان الفنان محمود مختار طموحا إلى تطوير المنطقة المحيطة بالمتحف المصري إلي حي للفن يحفل بمراسم الفنانين، وأسس «جماعة الخيال» للدعوة إلي «إحياء الفن المصري بجميع أشكاله ونشره في داخل البلاد وخارجها عن طريق الدعاية والتعليم والإذاعة وإقامة المعارض بمصر والخارج».
ثم إن الفنان محمود مختار بصفاته الشخصية الآسرة ونشاطه الشخصي المتشعب تمكن من إحاطة جماعته الفنية بمجموعة أخري من رجال الفكر والأدب تألفت منهم «لجنة أصدقاء جماعة الخيال»، وكان في هذه اللجنة الأساتذة عباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل وإبراهيم المازني ومحمود عزمي ومي زيادة وبأقلامهم كتبت مقالات النقد الفني منبعثة عن إيمان بفكرة الفن القومي.
وقد دفعت روح العصر الوثابة رجال السياسة أنفسهم إلى المشاركة في رعاية نشاط هذه الجماعة، فجعل حسين رشدي باشا (رئيس مجلس الوزراء والشيوخ) معارض الجمعية تحت رعايته، وتولي رئاستها ويصا باشا واصف (رئيس مجلس النواب) وشجعها على الشمسي باشا (وزير المعارف).
وقد نجح الفنان محمود مختار أن يمتد بروح الفن التشكيلي وممارسته إلى كثير من مظاهر الحياة في الصحافة، وفي المسرح، وفي المصنع والمباني الحكومية، وأن يسري بالفن في مسالك الحياة اليومية.
وإلي الفنان محمود مختار يعود الفضل في بواكير إضفاء مسحة فنية على الصحافة المصرية التي شرعت في نشر الرسوم الفنية، وفي نشر الدراسات الفنية والنقدية.
والحق أن الفنان محمود مختار نجح في جوانب فنية كثيرة ومتعددة لا يزال دوره في بعضها مجهولا جزئيا، ومن هذه الجوانب: الكاريكاتير الصحفي، وقد ساعده على هذا أن السخرية كانت من مواهبه، وقد انعكست في تماثيله الكاريكاتيرية التي أبدعها في عهد الدراسة وأظهر فيها تعبيره الشخصي وانطلاقه من الأساليب المدرسية، ومن هذه الأعمال تمثال ابن البلد، وتماثيله لبعض زملائه: حسين رجب، ومحمد شفيق.
وإلى جانب هذا فقد مارس الفنان محمود مختار الرسم الكاريكاتيري، غير أنه لم يكن مكثرا في هذا المجال. وقد تحقق أكبر إنتاج الفنان محمود مختار في الرسم الكاريكاتيري في الفترة من سنة 1922 حتى 1925، وكان مجال هذا الإنتاج مجلة الكشكول. وقد اتسمت رسومه الكاريكاتورية بقوة التعبير وسعة التخيل، وجمعت مع حرية الرسم قوة الخطوط وبساطتها، وكانت هذه الرسوم تذيل بتوقيع رمزي بأولي حروف اسمه: م م.
وقد امتد نشاط الفنان محمود مختار في الرسم الصحفي إلي جريدة السياسة بعد الكشكول، وكانت وجهة نظره المعلنة تركز علي ضرورة أن تحمل هذه الجريدة في إخراجها طابع الفن ، ولهذا السبب أعد لصفحاتها المختلفة رسوما ترمز إليها، ومثلت هذه الخطوة بدايات لامتداد الفن إلي الصحافة، وكانت الأحاديث الصحفية تزين برسومه، وقد عني بالترحيب بزيارة الشخصيات الفنية العالمية لمصر أو بتكريمها في المستوى الدولي ، فأفرد لهذا الهدف النبيل مجالا علي صفحات السياسة (الممثلة الفرنسية الكبيرة مدام سيمون عندما قدمت إلي مصر، وأنا بافلوفا) .
كان الفنان محمود مختار ينادي بضرورة توفير الحرية للفنان بالقدر الذي يتيح له أن يعبر بشجاعة عن فنه ورأيه دون أن يخضع لقيد أو سلطان غير ضميره الفني. ومن أجل هذا ظل الفنان محمود مختار يطالب بضرورة استمرار تشجيع الدولة للفن دون تدخل منها في أموره. وبفضل ريادة الفنان محمود مختار الناجحة فقد بدأت جهود الفنانين المصريين تتبلور، وظهرت في أعمال طلائعهم ملامح الارتباط بالوطن والمجتمع وسيطرة الروح المصرية الأصيلة، فقد اتجه راغب عياد ومحمد حسن ويوسف كامل إلي تصوير الأحياء الشعبية والقرية، بينما ظهرت ملامح مصرية في فن الصورة الشخصية (البورتريه) الذي أجاده أحمد صبري. كما ظهر فن محمود سعيد مشبعا بروح مصرية وشرقية، ومبشرا بشخصية مصرية مستقلة في فن التصوير.
وقد صور الفنان محمد ناجي «نهضة مصر» بإيحائها الفرعوني في لوحته التي زينت قاعة مجلس الشيوخ، كما اتجه نحو معابد مصر وصعيدها وريفها يصور معالمه.
واستطاع الفنان محمود مختار بشجاعة نفسه واعتداده بكرامته وصلابة إرادته أن يرتفع بنظرة التقدير الاجتماعي للفنان إلى مكانها المفروض. وقد حفظ بسلوكه للفنان احترامه ومكانته.
وقد كان الفنان محمود مختار حريصا على أن يهاجم كل انحراف في الذوق أو خروج على أصول الفن بشجاعة، واجتمعت في هجومه الجاد روح الإصرار التي يتميز بها صاحب الدعوة المؤمن بها، وروح حماسة الرائد الملتزم، وشجاعة الفنان الحر، ومن الإنصاف أن نشير إلي أنه تولي بشخصه وبقلمه وبصوته تقويم كثير من الأخطاء في اتجاه البلاد الفنية، كما أنه في الوقت ذاته حرص علي أن يسجل أفكاره الناشدة للإصلاح كتابة فيما سجل من آراء.
وبخلفيته الحضارية التي كونها في باريس والتي دعمها في نفسيته وشخصيه حبه للفن، كان الفنان محمود مختار حريصاً علي أن يأخذ الفنان مكانته حتي في لقاء الملوك والحكام، ولم يكن بوسع هذا الفنان الذي كان يعرف قيمة نفسه أن يتنازل عن هذه القيمة حتي حين لقي الملك فؤاد عندما دعاه لمقابلته فقد خاطبه بلهجة متحررة من ألفاظ الجلالة وتقاليد الملوك، ومن الطريف ما يروى مع شيء من العداء (المعروف سببه ) للآسرة المالكة من أن الملك فؤاد رغب في أن يصنع له الفنان محمود مختار تمثالاً، وعندما بدأ الفنان محمود مختار في العمل أبدي الملك ملاحظة رأي فيها الفنان محمود مختار مساسا بكرامته الفنية، فلم يتردد في أن يتوقف عن العمل ويحطم التمثال، وصنع بدلا منه تمثالا كاريكاتوريا للملك، وكاد هذا الموقف أن يجلب له سلسلة من المتاعب لولا أن أدرك الأمر بعض الأصدقاء وألقوا ظلالا حجبت معالم الحدث، لكن الملك لم ينس هذا الموقف للفنان محمود مختار .
وعندما أتم الفنان محمود مختار تمثال نهضة مصر ظل الملك طيلة ستة أشهر يرجئ إزاحة الستار عن التمثال، لكنه لم يلبث أن استجاب إزاء الرغبة الشعبية، ويوم إزاحة الستار وفي لحظات الاحتفال الرسمي الباهر، انعزل الفنان محمود مختار بعيدا عن مظاهر الاحتفال مع مجموعة من الأصدقاء، وعندما طلب الملك استدعاءه لم يجده رجال التشريفات إلا بعد بحث حيث كان في الجانب الآخر من الميدان يمزح مع بعض الأصدقاء.
وفي مقابل التعسف الرسمي كان إحساس المثقفين والصحافة والشعب بقيمة عمل الفنان محمود مختار إحساسا قويا ورائدا، وقد لعب الأستاذ أمين الرافعي من خلال جريدته «الأخبار» دورا كبيرا في تشجيع الفنان محمود مختار، وعلى صفحات الأخبار وفي مبناها بدأت الجهود للاكتتاب لإنشاء تمثال نهضة مصر.
وقد حفظت الصحافة آثاراً أدبية رائدة في تخليد تمثال الفنان محمود مختار منها مقال «الأمة ونهضة مصر» للأستاذ أمين الرافعي، ومقال «تمثال لنهضة مصر قد رفع الستار عنه» للدكتور محمد حسين هيكل، ومقال «نجوي التمثال» للأستاذ مصطفي صادق الرافعي، ومقال «تخليد الرجاء» لمي، ومقال «أبو الهول وتمثال الفنان محمود مختار » للأستاذ إبراهيم عبدالقادر المازني، ومقالات لكبار السياسيين من طبقة واصف بطرس غالي باشا ، وحافظ عفيفي باشا ، وويصا واصف باشا ، فضلا عن قصائد متعددة لأمير الشعراء أحمد شوقي، ومطران، ومحمد عبد الغني حسن، وأحمد زكي أبو شادي .
وليس من المبالغة القول بأن هذا التمثال كان بمثابة أكبر قيمة فنية ملهمة في الأدب العربي المعاصر
ومع أن الفنان محمود مختار لم يترك آثاراً أدبية خاصة به إلا أن كتاباته الذاتية والاخوانية وذكرياته عن فترة باريس، وعن تعامله مع الحكومة كانت تتمتع بقدرات بيانية عالية، وبأسلوب راق متميز، وقد نقلت بعض هذه الذكريات في بعض كتبي عن باريس.
وبلغة النقد الأدبي، فقد كان الفنان محمود مختار ميالاً إلى التأمل في الحياة وتسجيل تأملاته في عبارات أدبية قصيرة حافلة بالمعاني التي راودته. وهو على سبيل المثال يكتب في مفكرته: «ما أعجب الناس، إننا نواجه احتقارهم الشديد عند الإخفاق وحقدهم الشديد عند النجاح»،
وقد كانت للفنان محمود مختار في باريس ذكريات حافلة سجلها في كتابات متناثرة غير أن ما بقي منها ليس بالكثير، وقد تناولناه على أنه بعض سيرته الذاتية في كتابتنا عن السير الذاتية، أما ذكرياته الأخيرة فقد كان يقصها لأصدقائه.
ومن هذه الذكريات ما رواه لصديقه الكاتب الأستاذ إبراهيم المصري وصاغه الأستاذ المصري قصصا نشرها في بعض مجموعاته وأشار إلى أنها من حصاد أحاديثه مع الفنان محمود مختار.
ومن هذه الذكريات ما أحب أن أكرره مما أشرت إليه في كتابي باريس الرائعة عما نعرفه من أن العلم والفن يقتضيان بالطبع تقاليد موازية تنظم لطلابهما حياتهما وتحررها من رواسب الماضي. وقد تكون هذه التقاليد نظماً أو تجليات بوهيمية، وقد تكون نظماً عسكرية، ومن حسن الحظ أننا عثرنا على وصف لتجربة مثيرة مع التقاليد البوهيمية عاشها الفنان محمود مختار رغم أنفه في باريس حين أصبح طالبا في مدرسة الفنون الجميلة، وهو يحكى عن تقاليد تلك المدرسة العريقة حديثا شيقا:
” ومن تقاليد المدرسة التي لا تستطيع إدارتها معها حولا أن الطلبة الجدد يعاملون بطريقة الجندية، أي أن طالب السنة الأولى يظل فيها خادم طالب السنة الثانية. وهكذا يحكم عليه بأن يكنس الورشة ويعد المواد التي يشتغل منها زملاؤه القدماء. وهناك «الكابورال» رئيس الجدد كالشاويش يوزع الأعمال. أما (le massier) فهو الألفة وأمين صندوق الورشة وممثلها في الحفلات. والجدد يخدمون القدماء في الداخل والخارج حتى إنهم ينقلون عفشهم إذا انتقلوا من بيت إلى بيت، فهم كالعريف في الكُتاب إذا أراد دخانا أرسل التلميذ يشتريه له، ونحو ذلك».
“وتحدث في هذا الصدد حوادث غريبة بوهيمية حقًّا، ومن ذلك أن أحد القدماء صعد إلى مسكنه بالطابق الثالث يدخن غليونه، وأمر التلميذ الجديد بأن يفسح الطريق لبصاقه، فوقف الجديد فى وسط الشارع وبيده عصا طويلة يصد بها الناس عن المرور في دائرة بصاق القديم!… والناس ينظرون ويعجبون ويزدحمون ويضحكون، لأنهم يعرفون شذوذ طلبة الفنون”.
ولا مندوحة للجدد أبدا من الطاعة مهما كبرت سنهم وطالت لحاهم!… ولابد للجديد من أن يدفع للقدماء تكاليف دعوة يشربون فيها نبيذاً ويأكلون محاراً (huitres) وخبزا وسردينا بحسب المبلغ الذي تبرع به الجديد وبحسب مقدرته. والشهر الأول عادة كله دعوات ومآدب، وكل جديد يدفع بدوره تبعا لذكائه أو غفلته وخفته أو ثقله!».
وقد لخص الفنان محمود مختار تجربته المغامرة في أول عهده بالمدرسة فقال:
” ولما وصلت نبهني أستاذي إلى هذه الدعابات التي تقسو أحيانا حتى يموت منها بعض الطلبة لإسرافهم في المزاح (إذ وضعوا مرة تلميذا جديدا في المجاري حتى اختنق)، ووضعوا آخر في برميل وتركوه يصرخ فيه على رصيف السين حتى ساقه (رجل) الشرطة إلى القسم. أما إذا غضب الجديد فالويل له، وقد يؤدى الأمر إلى خروجه من المدرسة نهائيا. ولقد كان نصيبي كجديد أن يحكم على بالتجرد من جميع ثيابي وأبقى عاريا تماما، ولم تكن تنفع مقاومة أو شفاعة. فرضخت من فورى كما رضخ زملاء لي من قبل فشدوا وثاقي إلى كرسي وأنا عار كما ولدتني أمي ووضعوا على رأسي تاجا من الورق على شكل فرعوني وكتبوا عليه ” رمسيس الثاني». وحملوني على نقالة رفعوها على أكتافهم وخرج موكب الطلبة في جموع غفيرة يتقدمنا من يفسح لنا. وسرنا كذلك من المدرسة إلى عرض الطريق حتى كنيسة «سان جرمان دي بري» في آخر شارع بونابرت. وكان المطر يتساقط رذاذا فوصلنا إلى قهوة بونابرت والناس من حولنا ينظرون ويبتسمون وهم جميعا يعرفون عادات مدرسة الفنون الجميلة وتقاليدها”.
«وهناك وضعوني كما أنا على خوان في المقهى وطلبوا طعاما وشرابا وجعلوا يرمونني بالفضلات وقشر المحار وكأنهم يقدمون إلىّ – على طريقتهم – الزلفى والقرابين».
“وتولى اثنان منهم إطعامي لأنني كما سلف القول كنت مقيدا وكان بيننا طالبات أيضا مشتركات في هذا الاحتفال”.
“هذا، وغير هذا مما يشابهه ومما اشتركت فيه، قد خلق فيّ للحال انطلاقا من قيود المحافظة وحبا في الحرية وتكسير أغلال الكلفة… فهو يعد من الانقلابات التي طرأت على نفسي وكان لها أثر فيها طول حياتي».
كان الفنان محمود مختار يؤمن بأن السلطة كفيلة بأن تكون قبراً للموهبة، كما كان يصرح بأن الوظيفة قيد علي حرية الفنان، ولهذا فإنه صمم علي رفض المناصب جميعا برغم ما كان يمر بحياته من ظروف عصيبة قد تدفع صاحبها إلي البحث عن الاستقرار الوظيفي، لكن الفنان محمود مختار آثر أن تكون له سلطة الرأي عن أن تكون له سلطة المركز، ومن العجيب أن شعور الفنان محمود مختار تجاه الوظيفة كان مترسخاً منذ بدايات حياته الفنية، ولقد مرت به في باريس أيام من الضيق والفقر، ولكنه تغلب عليها بإرادته وشجاعة نفسه، وقد اضطر كما ذكرنا للعمل في مصانع الذخيرة في أثناء الحرب بعد أن انقطعت موارده، وظل يحفظ لفنه أوقات فراغه من العمل بالمصنع حتي انتهت الحرب وفتحت المعارض أبوابها فحمل تمثاله «نهضة مصر» إلي معرض الفنانين الفرنسيين، فرأي فيه نقاد الفن «أول شعاع تنبثق منه نهضة الفن المصري وحياته حياة جديدة».
لم يكن ما تميز به الفنان محمود مختار من الترفع عن تولي الوظائف والمراكز (على الرغم من هذا الجهد المرتبط بالشخصية المصرية والوطنية المصرية) إلا نتيجة طبيعية لأصالة نفسه ونقاء جوهرها ولما غرسته روح العصر من تقدير للفنون وعناية بها.
أخيرا فمن الطريف أن نذكر أن الفنان محمود مختار كان لا يفتأ يشكو من معاملة الرسميين، وهو يقول في إحدى رسائله إلى صديقه الدكتور حافظ عفيفي:
«لماذا يهيننا هؤلاء السادة ويعملون على إهدار اعتبارنا، في حين كان من واجبهم أن يبحثوا عنا، وأن يشجعونا، وأن يبثوا فينا الحماسة؟ إنهم حقا ليسوا على مستوي مناصبهم، وهم لم يحققوا إلا العظمة الزائفة التي لا تلبث أن يحجبها الظلام».
بدأ الفنان محمود مختار يعاني من المرض منذ عام 1931 فكان يهجر فرنسا إلى مصر يلتمس الدفء لجسده المكدود. ثم ينطلق مرة أخرى إلى باريس وكأنه أراد أن يودع باريس. وفي يوليو عام 1933 أجريت له جراحة لكنه لم يعد إلى سابق عهده من الصحة.
وفي 27 مارس عام 1934 خرجت القاهرة تودع الفنان محمود مختار، وسار النعش من المستشفى وعلى مقربة من تمثال نهضة مصر توقف المشيعون قليلا بجثمان الفنان.
وعقب وفاته تكونت جماعة أصدقاء الفنان محمود مختار من السيدة هدى شعراوي والإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق، والدكتور علي إبراهيم باشا، وحافظ عفيفي باشا، وعلى الشمسي باشا، وعثمان محرم باشا، وعلي ماهر باشا، وبهي الدين بركات باشا، ود. طه حسين باشا، والشاعر خليل مطران، وأحمد راسم.
بعد أن توفي الفنان محمود مختار عام 1934 تنازلت أسرته عن أعماله الفنية للدولة بشرط إقامة متحف لها، وكان رواد الحياة الثقافية في مصر وعلى رأسهم السيدة هدي شعراوي قد بدأوا دعوتهم الجادة إلى الحفاظ على أعماله الفنية وجمعها لحمايتها من الاندثار والضياع، وكللت هذه الجهود بالتوفيق وتقرر في عام 1938 قيام وزارة المعارف بإنشاء متحف للفنان محمود مختار ومقبرته على نفقة الوزارة. وفي نفس العام تم استرجاع بعض اعماله إلى مصر وعرضت بمعرض المثالين الفرنسيين المهاجرين بالجمعية الزراعية وأقيمت بهذه المناسبة ندوات ومحاضرات عن قصة حياته تناولت عبقريته الفنية بالنقد والتحليل.
فلما اندلعت الحرب العالمية الثانية نشأت ظروف قاهرة حالت دون إعادة بقية التماثيل إلا ان جهود السيدة هدي شعراوي حققت نجاح عودة كثير من التماثيل.
وفي عهد وزارة الوفد الأخيرة 1950-1952 كان للوفد ولجهود الدكتور طه حسين وزير المعارف أثر كبير في استرجاع بقية أعمال الفنان محمود مختار إلى مصر.
وفي عام 1952 تم افتتاح متحف الفنان محمود مختار في ملحق خاص بمتحف الفن الحديث حيث عرض 59 تمثالاً، وقام على تأسيس وإعداد المتحف كل من الفنان راغب عياد زميل الفنان محمود مختار وصديقه، والصحفي والأثري البارز كمال الملاخ. ثم قام المهندس رمسيس ويصا واصف بتصميم متحف الفنان محمود مختار الحديث في حديقة الحرية بأرض الجزيرة، ونقل رفات الفنان محمود مختار إلي المقبرة الجديدة بالمتحف.
وهكذا أصبح لمصر متحف عظيم تباهي به الدنيا هو ” متحف مختار” قائما بزهو وبساطة وهدوء في حديقة الحرية بالجزيرة منذ أن افتتح سنة 1962.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا