كان الأستاذ محمد السباعي (1881 ـ 1921) نموذجا بارزا للأديب الذي يموت مُبكرا فيُعوضه الله في ابنه، ويتولى الأبن تكريم الأب بما كان يستحق من نشر تراثه وطبع ما لم يطبع من مؤلفاته، فقد توفي الأستاذ محمد السباعي وهو في الخمسين من عمره قبل أن يُتم ولده يوسف دراسته، فلما أتم يوسف السباعي تعليمه الثانوي التحق بالكلية الحربية، وتخرج فيها ضابطا وأصبح من قواتنا المسلحة، وتمتع بنفوذ واسع كان الأدباء يجيدون تصويره بالقول بأنهم يعملون في “عزبة يوسف بك”، ومارس الأدب والصحافة حتى أصبح وزيرا الثقافة والإعلام ونقيبا للصحفيين ورئيس لمجلس إدارة مؤسسة الهلال والأهرام ورئيسا لتحرير الأهرام وعدد من الصحف والمجلات، وكان الابن وفيا لتراث أبيه فنشر رواياته التي لم تُنشر في حياته بل إنه أتم إحدى هذه الروايات، وبفضل يوسف السباعي أُعيد التعريف بوالده محمد السباعي المُترجم العبقري.
أما الأستاذ محمد السباعي فكان واحدا من أبرز الأدباء المترجمين والمترجمين الأدباء الذين لم تقف ترجماتهم عند حدود الترجمة وإنما كانت تتعداها إلى بنية العمل المُترجم فتُتيح له خصائص بيانية ذات قيمة في اللغة العربية، وهكذا فإن ترجمة السباعي للأعمال القصصية كانت تُقدم هذه الأعمال في ثوب عربي حريص على انتقاء اللفظ وتنميق السياق حتى ليبدو النص المترجم وكأنه عربي الأصل ببيانه وألفاظه.
وعادة ما تتجلى مهارة هؤلاء المُترجمين الأفذاذ في ترجمة الأعمال الشعرية، وهو ما حدث في ترجمة السباعي المُبكرة لرباعيات الخيام عن النص الإنجليزي الذي ظل لفترة من الزمن هو الأصل الأدبي المُعتمد لهذه الرباعيات بعد أن أتمه المُستشرق فيتزجيرالد، وذلك قبل أن يترجم الشاعر أحمد رامي الرباعيات عن أصلها الفارسي وينشرها في مطلع العشرينيات، من الطريف أن السباعي ترجم الرباعيات في شكل الخُماسية. وهكذا اجتمعت النسبة إلى ثلاثة اعداد في جملة واحدة فإن السباعي (المنسوب في بعض المفاهيم إلى الرقم7) ترجم الرباعيات (المنسوبة إلى الرقم 4) على هيئة خماسيات (المنسوبة إلى الرقم 5).
بدأ السباعي حياته الدراسية في مدرسة الطب ثم تحول إلى الدراسة في مدرسة المعلمين العليا في وضع شبيه بوضع الأستاذ المازني (الذي يليه في المولد بتسع سنوات) وتخرج السباعي في المعلمين العليا في 1904 فعمل مدرسا للغة الإنجليزية في مدرسة المعلمين العليا وفي المدارس الثانوية في القاهرة والإسكندرية والمنصورة.
وظل السباعي على صلة وطيدة باللغة الإنجليزية مع صلته بالصحافة حيث كان من كُتاب الجريدة والبيان لصاحبها الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي الذي كان يكبره بسبعة أعوام، والبلاغ، والبلاغ الأسبوعي لصاحبيهما لأستاذ عبد القادر حمزة الذي كان يكبره بعام واحد. ترجم السباعي رواية شارلز ديكنز “نشيد الميلاد” في وقت قريب من وقت صدورها، بيد أن أبرز الكتب التي حفظتها المكتبة العربية للسباعي المترجم كانا كتابين تربويين مهمين أولهما “التربية” للفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر، وثانيهما هو كتاب “الأبطال” لتوماس كارليل.
أما رواياته التي نُشرت بعد وفاته:
الخادمة ” (1957) وقد أتمها ابنه يوسف السباعي”
“العاشق المتنقل” 1957
“الدروس القاسية” 1957
وكلها من الروايات الاجتماعية الواقعية.
أما كتابه “الصور” فهو مجموعة من مقالاته التأملية التي نشرها في الصحافة وتمثل إرهاصا مبكرا لما تفوق فيه بعد ذلك الأستاذ يحي حقي. من الطريف أن شقيقه، ووالد زوجة إبنه يوسف، وهو طه السباعي باشا كان من أصدقاء مكرم عبيد باشا ووصل إلى الوزارة من خلال حصة حزب الكتلة الذي أسسه مكرم عبيد، كما كان من أصدقاء نجيب الهلالي باشا، ولهذا عاد إلى الوزارة مرة أخرى، لكن المهم في ذكره أنه قد ترجم كتابا إنجليزيا طريفا عن “الملابس” أُتيح له أن يُعاد طبعه في مكتبة الأسرة في بدايات القرن العشرين.
يذكر للأستاذ محمد السباعي أن الأستاذ عباس محمود العقاد نظم قصيدة رائعة يوم وفاته، في رثائه، وقد عدد فيها مناقبه في الأدب، والبيان، والتسامح، والجد، والصبر، والتجلد، وتحمل أذى الناس، والتأسى، وحب الأدب، وصفاء القلب، والنزاهة، والصراحة، والعفة، وسمو النفس، وفيها يقول أستاذنا العقاد:
غايةُ الحيِّ ساعة من زمانه ينتهي عندها مدى جثمانه
طُويت صفحة السباعي فينا وهو طاوي الطروس في تبيانه
مسمح النفس في الحياة تولَّى مسمح النفس في الردى قبل آنه
لم يطامن لصرعة الموت رأسًا من صراع الحياة لهو رهانه
ذاقها صابرًا وساغ مريرًا من جنى دهره ومن إنسانه
وَتَأَسَّى ومثله من تَأَسَّى ضاحكًا من كرامه وهجانه
فتنته غواية الأدب الحـ ـرِّ فأودى بقلبه في افتتانه
وثنى راحتيه عن خفض عيشٍ كان حينًا أقصى مُنى أقرانه
ما أراه على الحياة حزينًا بعض حزن الصحاب يوم احتجانه
يا سليم الفؤاد في باطن الرأي سليم الفؤاد في إعلانه
مرض الدهر فامض عنه معافًى من أكاذيبه ومن أدرانه
أنت خدن الكتاب والموت سفرٌ صدقه ظاهرٌ على عنوانه
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا