بدأت معرفتي باسم عبد السلام الشاذلي باشا بطُرفة موحية، حين بدأت الاتصال بالمجتمع العلمي عضوا في المجمع المصري للثقافة العلمية والاتحاد العلمي المصري، ذلك أنه لفت نظري الاسم الطويل للدكتور خالد عبد السلام الشاذلي العالم الزراعي الجليل ومؤسس كلية زراعة الإسكندرية والحاصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم والذي كان يحظى بمكانة كبيرة بين العلماء، فالعادة في أنداده أن يقتصروا على اسمين فقط، لكن حرص صاحب الاسم على اسمه الكامل كان له ما يُبرره من اعتزازه بوالده الكبير الذي كان من رموز الليبيراليين المتنورين والنزهاء.
بعد أسابيع قليلة علمت أن الشخصية البارزة في مجال الرياضة الأستاذ محيي الدين الشاذلي رئيس نادي اسبورتينج السكندري الشهير، والذي كان من الأسماء المرشحة لأن تتولى مسئولية وزارة كالشباب والرياضة كان هو الآخر ابنا لهذا الوزير العظيم.
كان عبد السلام الشاذلي باشا نموذجاً للإداريين المتفتحين الذين لعبوا أدواراً سياسية متقدمة في عهد الليبيرالية، ويكفي أن أدلل على تفتّحه بأن أذكر قصة المنحة التي نظمتها مديرية البحيرة في عهده وخصصتها لتخليد ذكرى الشيخ محمد عبده ابن البحيرة، وأن هذه المنحة خُصّصت لتمويل بعثتين دراسيتين اثنين من خريجي الأزهر في أوربا صار أولهما وزيراً للأوقاف ومديراً للجامعة هو الدكتور محمد البهي، كما صار ثانيهما الدكتور محمد عبد الله ماضي وكيلاً للأزهر الشريف.
قبل أن يُصبح عبد السلام الشاذلي باشا مديراً للبحيرة فيما بين 1930 ـ 1933 كان قد عمل مديراً لأسيوط وأثبت وجوده في المديريتين بيد أن وجوده في البحيرة كان أقوى وأبقى اثراً، فهو الذي أنشأ مجلس المبنى البلدي وهو الذي أنشأ دار أوبرا دمنهور (التي كانت تُسمى بتياترو وسينما فاروق) والتي جُدّدت مؤخراً، وقد مكّنته علاقاته من أن يدعو الملك فؤاد لوضع حجر الأساس لهذين المبنيين التوأمين في 8 نوفمبر 1930 في عهد طغيان إسماعيل صدقي باشا.
في 1938 رشّحته خبرته لينتقل محافظاً للقاهرة بعد أسيوط والبحيرة محققا مجدا مبكرا فيما يسمى الإدارة المحلية، وفي 1939 أصبح عبد السلام الشاذلي باشا عضواً في مجلس الشيوخ وسرعان ما اختير وزيراً للشئون الاجتماعية في وزارة علي ماهر الثانية (أغسطس 1939) وكان هو أول وزير للشئون الاجتماعية التي تأسست على يد على ماهر باشا، فلما تأزمت الأمور السياسية حول علاقة الزعيم عبد الرحمن عزام بالأمور الحربية مع بدء الحرب العالمية الثانية تبادل الشاذلي باشا مع عبد الرحمن عزام باشا الموقع الوزاري فأصبح عزام وزيراً للشئون الاجتماعية بينما أصبح الشاذلي وزيراً للأوقاف.
من المفارقات الطريفة في حياة هذا الرجل العظيم الذي انشغل بالطبقية عن الوطنية أنه كان من تصدى لحماية انتماء نادي الجزيرة الرياضي بالزمالك للبريطانيين، ذلك أن هذا النادي الذي ازدهر على يد اللورد كرومر عقب الاحتلال البريطاني لمصر في ١٨٨٢ كان رمزا من رموز الاحتلال فلما بدأت المقاومة الشعبية للبريطانيين في ١٩٥١عقب إلغاء النحاس باشا لمعاهدة ١٩٣٦ اتخذ عبد الفتاح حسن باشا وزير الشئون الاجتماعية الوفدي قرارا بتخصيص أرض هذا النادي للمنفعة العامة بما يعني تمصيره وتمصير مبانية ومؤسسته على نحو ماهو الآن، لكن الشاذلي باشا باعتباره وزيرا سابقا للشئون اعترض دون جدوى على قرار وزارة الوفد، ومن الجدير بالذكر أن مجلة الرسالة الثقافية الرصينة أشارت إلى لقاء هذين الوزيرين حول هذا الموضوع تحت عنوان ” كلم اللسان” وهذا هو نص ما أوردته هذه المجلة العظيمة :
” في يوم 13 ديسمبر 1951 استقبل معالي عبد الفتاح حسن باشا وزير الشئون الاجتماعية سعادة عبد السلام الشاذلي باشا وجرت بينهما مناقشة حول استيلاء الحكومة على نادي الجزيرة ودافع الوزير عن وجهة نظر الحكومة.
” قال عبد السلام باشا للوزير: كان يجب عليك أن ترجع لوزراء الشئون السابقين لتستشيرهم قبل أن تقدم مثل هذا الاقتراح فإننا نعرف هذا النادي (الإنجليزي) ويظهر أنك لا تعرفه ولعلك لم تزره.
” فقال عبد الفتاح باشا: لقد استشرت ضميري وراعيت في الاقتراح ما يقتضيه صالح بلادي دون أي اعتبار.
” واحتدت المنافسة وقال الشاذلي باشا: إن قرار مجلس الوزراء بتخصيص أراضي نادي الجزيرة للمنفعة العامة هو جريمة.
” وهكذا سقط الرجل: ورد عبد الفتاح باشا على الشاذلي باشا قائلاً: (أنا لا أسمح لك بهذا الكلام فإن إلغاء ناد إنجليزي ليس الجريمة وإنما الجريمة ما ترتكبه أنت الآن من دفاع عن هذا النادي الإنجليزي).
أما جهود الشاذلي التأسيسية في وزارة الشئون الاجتماعية فتشمل كثيراً من الميادين:
– فقد بدأ بسياسة حماية الفلاح عن طريق بنك مركزي للتعاون
– حرص على تقديم جرعات الوعي بالشئون الاجتماعية على وجه العموم بما في ذلك علاقات الأسرة والزواج وروح العائلة ومحاربة الرذيلة والزنا وكان من أوائل من اقترحوا تشريعات محددة لمكافحة البغاء ومنعه، وتنشيط بوليس الآداب.
– عني بحماية الطفولة المشردة بتشريع قانون ينزع ولاية الآباء غير الصالحين لتولي مسئولية الأبوة، وتدخل الدولة في هذه المسئولية.
– أدخل فحوص ما قبل الزواج من أجل تجنب الحالات الصارخة من الأمراض الخلقية
– رفع الحد الأدنى للتردد على دور السينما وعلى ارتياد النوادي والمحال الترفيهية التي تُقدم الخمور
– بدأ تشريعات مكافحة التسول ومحاولة القضاء عليها
– بدأ سياسات البطالة، مع تحسين أحوال العمال وتنظيم رعايتها الاجتماعية.
– اهتم بحالة السجون ونظمها وعلاقتها بالمجتمع ومسئولية المجتمع عن أسر المسجونين، وشجع توظيف المسجونين في أعمال التطهير
– عني بالسياسات العاملة على منع العودة إلى الجريمة وذلك برعاية من أتموا مدة العقوبة في السجن وتوجههم إلى مصادر للدخل الشريف.
أما نشاطه في وزارة الأوقاف فقد بقي منه ما تناقلته الروايات عن صرامته مع الموظفين، ومبالغته في عقاب المقصرين منهم، والسبب في هذا ما رواه نجيب محفوظ الذي كان سكرتيراً برلمانياً لوزير الأوقاف منذ عهد أستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق، وهي قصة طريفة.
اقتصرت إسهامات عبد السلام الشاذلي باشا في المناصب الوزارية على هاتين الوزارتين اللتين تعاقب عليهما في وزارة واحدة هي وزارة علي ماهر الثانية التي خلفتها وزارة حسن صبري باشا في يونيو 1940 وكان هذا آخر عهد الشاذلي بالمناصب الوزارية لكنه ظل فاعلاً في الحياة البرلمانية عضواً في مجلس الشيوخ ومعارضاً قويا للوفد ويُذكر له من معارضاته الشهيرة للوفد أنه:
– كان من معارضي فصل مكرم عبيد باشا من مجلس النواب 1943 بعد نشره الكتاب الأسود (يذكر أن فصل مكرم عبيد تم بموافقة 208 عضواً ومعارضة 17 فقط).
– كان هو الذي دافع عمن اعتقلتهم وزارة مصطفى النحاس باشا في 1942 بسبب نشاطهم المعادي للحلفاء وكان من هؤلاء علي ماهر باشا رئيس الوزراء الذي عمل هو نفسه تحت رئاسته، ومحمد طاهر باشا والنبيل عباس حليم وكلاهما على علاقة بالأسرة المالكة لكن علاقتهما بدول المحور كانت مزعجة للحلفاء في اثناء المراحل الحرجة من الحرب.
– كان لعبد السلام الشاذلي موقف شجاع في الدفاع عن اثنين من الضباط الوطنيين أبديا اعتراضاً من نوع حماسي على حادث 4 فبراير 1942 (على نحو ما فعل الرئيس محمد نجيب نفسه) وقد أصبح لهذين الضابطين وضع متميز في التاريخ العسكري المصري وهما محمد كامل الرحماني وأحمد فؤاد صادق.
أما أهم مواقفه المعارضة للملك فؤاد والوفد معاً فتمثل في توقيعه عريضة أكتوبر 1951 الشهيرة التي كان على رأس من وقعها إبراهيم عبد الهادي والدكتور محمد حسين هيكل باشا ومكرم عبيد باشا ومحمد حافظ رمضان باشا ومصطفى مرعي بك وعبد الرحمن الرافعي بك وابراهيم الدسوقي اباظة باشا ورشوان محفوظ باشا وعلي عبد الرزاق باشا وطه السباعي باشا.
بورك للشاذلي في أبنائه فكان منهم كما ذكرنا الدكتور خالد عالم الزراعة الكبير مؤسس كلية الزراعة في إدفينا،، كما كان منهم الرياضي البارز رئيس نادي اسبورتينج محيي الدين الشاذلي، وقد نشر الدكتور عمر الشريف ترجمة جيدة له في كتاب “أعلام منسية من أرض الغربية” الذي صدر عام 2017 عن دار بيلومانيا للنشر والتوزيع.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا