الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / الرئيس شكري القوتلي الذي دخل بسوريا في جبل الجليد

الرئيس شكري القوتلي الذي دخل بسوريا في جبل الجليد

كان الرئيس شكري القوتلي بلا جدال سببا من أسباب ضياع سوريا لأنه ظن أنه يضعها في يد أمينة هي يد الرئيس جمال عبد الناصر ثم اكتشف بعد أشهر أن تقديره كان خاطئا

كان الرئيس شكري القوتلي نموذجا بارزا للزعامات العربية التي وُجدت في نهاية عصر الليبرالية وظنت أن بإمكانها أن تتوافق مع عهد العسكريات البازغ وظلت على هذا الظن مع كل تجربة مريرة، تُمنّي نفسها بأن العيب قابل للإصلاح بينما العيب يتكرر وهي لا تصدُق نفسها القول وإنما تُحاول خداع النفس بالأماني حتى مع وضوح العوامل المبشرة بيأس تجربتها من المستقبل.
وصل الرئيس شكري القوتلي إلى رئاسة سوريا منذ 1943 وكان النحاس باشا في ذلك الوقت في رئاسته السادسة للوزارة (1942 ـ 1944) وقدّر له أن يشهد تطور العلاقات العربية – العربية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وأن يشهد تأسيس الأمم المتحدة وعددا من منظماتها والجامعة العربية، وعرف الحياة السياسية وعرفته كما عركته الحياة السياسية وعركها، وصُنّف على أنه رجل مقبول من الأغلبية إن لم يكن من الجميع، وقد رشّحه للرئاسة رئيس سابق هو أبو الجمهورية الرئيس هاشم الأتاسي، وتوافق الزعماء على اختيار أكثر السوريين السياسيين استقامة وهو سعد الله الجابري ليكون رئيس الوزراء العامل معه، ثم تعاقب رؤساء الوزراء على العمل معه، وخرج من الرئاسة وعاد إليها، لكنه ظل يأمل في الميؤوس منه، وهو المولود في 1891 الذي وصل إلى الثامنة والخمسين حين وقعت الانقلابات العسكرية الثلاثة المتوالية في 1949 : حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي.
كان يتوهم أنه قادر على أن يتغلب على العسكر
رأى الرئيس شكري القوتلي كيف كان العسكريون يتصرفون فكان يُمنّي نفسه أنه يستطيع التغلب على رعونتهم، وفي مرحلة تالية كان يُمنّي نفسه بأنه يستطيع التغلب على غطرستهم، وفي مرحلة ثالثة كان يظن أنه سيُقنعُهم بالتزام حدودهم من دون أن يورّطوا الجيش ويتورطوا بالسلاح.. لكنه لم يعلم أن هذا كله محض سراب ، ظل الرئيس شكري القوتلي يخرج من تجربة ليدخل أخرى حتى جاءت الوحدة وهو رئيس للجمهورية السورية فاستنكف أن يقول : لا ، وآثر أن يقول: نعم ، مع أنه كان يعلم مستقبل هذه الدولة التي تنازل عن رئاستها للرئيس جمال عبد الناصر، أظهر الرئيس شكري القوتلي فرحه باللقب الذي مُنح له وهو المواطن العربي الأول مع أنه لم يكن هناك مواطن عربي بمعنى المواطن الحقيقي، وإنما الكل في نظر الرئيس عبد الناصر رعايا، ظل الرئيس شكري القوتلي في الصورة يرى الفشل ويمنع نفسه من انتقاده، ويرى مقدمات الانفصال فيؤثر الصمت ولا يُبدي النصيحة الواجبة التي كان يجب أن يُبديها في صراحة واضحة ، ثم يحدث الانقلاب المعروف بحركة 8 مارس 1963 فيتكلم أخيرا ويتحرك أخيرا ، ويترك سوريا ومصر إلى بيروت ويشاء الله ألا يموت حتى يشهد هزيمة 1967 ويموت في 29 يونيو 1967 أي في نهاية ذلك الشهر الحزين في بيروت وترفض السلطة السورية البعثية الجديدة أن تُعامل جنازته بما يستحقه رئيس سابق لسوريا ورئيس سابق لوزارتها، فيُدفن من دون أن يحظى بالبروتوكول، ويشهد القليلون جنازته ويتذاكرون جنازة الرئيس هاشم الأتاسي الذي مات قبل 7 سنوات فحضرت جنازته الدولة كلها وعلى رأسها الرئيس جمال عبد الناصر وحضر البعث كله لكن الرئيس شكري القوتلي الذي خلف الرئيس هاشم الأتاسي بترشيح منه نفسه يموت وراء ستائر مسدلة ويكفن في أثواب مسدلة ويدفن في مقابر مسدلة لا لشيء إلا لأنه لم يقل كلمة لا في الوقت المناسب ولو أنه قالها على نحو ما قالها الرئيس هاشم الأتاسي لاحتفظ لنفسه بمكانة أفضل في تاريخ العرب المعاصر.
كان من دون أن يدري سببا من أسباب ضياع سوريا
كان الرئيس شكري القوتلي بلا جدال سببا من أسباب ضياع سوريا لأنه ظن أنه يضعها في يد أمينة هي يد الرئيس جمال عبد الناصر ثم اكتشف بعد أشهر أن تقديره كان خاطئا فسكت عن الخطأ وتحمل وجعل غيره من الزعماء يتحملون، وكانت النتيجة أن عانت سوريا من الفشل في كل شيء وانتقلت إليها عدوى الغطرسة الناصرية، وعدوى الادعاء الإعلامي المصري، وعدوى التفكك في الإدارة، وعدوى التصلب في القرار.. ولا تزال سوريا منذ ذلك الحين ويعد مضي ما يقرب من ستين عاما تُعاني، وفي مقدمة أسباب معاناتها أن الرئيس شكري القوتلي لم يقل “لا” في الوقت المناسب.
بداياته السياسية
بدأ الرئيس شكري القوتلي حياته السياسية في عهد الخلافة العثمانية حيث كانت سوريا لا تزال جزءا من الدولة العثمانية، وكان هو من عائلة دمشقية كبيرة وثرية يعود أصلها إلى الكرد وتعمل في التجارة وإدارة الأراضي الزراعية، وتلقى تعليما مدنيا حتى أتمّ دراسته الثانوية في مدرسة مكتب عنبر وهي أفضل المدارس الدمشقية في ذلك الوقت، ثم انتقل إلى الكلية السلطانية في إسطنبول ونال درجة الليسانس في العلوم السياسية وهو في الحادية والعشرين من عمره (1912).
قبل أن يتخرج بعامين كان الرئيس شكري القوتلي قد انضم إلى الجمعية العربية الفتاة التي تأسست على غرار تركيا الفتاة، كما انضم إلى ما سمى بالمنتدى الأدبي.. وفي بداية الحرب العالمية الأولى كان الرئيس شكري القوتلي من الذين اعتقلهم جمال باشا السفاح حاكم سوريا تأمينا لجبهة العثمانيين، وقد قضى فترة من التعذيب في سجن خان الباشا ويُروى أنه حاول الانتحار في مواجهة التعذيب حتى لا يعترف بأسرار القوميين.
حين تأسست المملكة السورية (1918 ـ 1920) كان الرئيس شكري القوتلي من داعميها فشارك في تأسيس حزب الاستقلال العربي بل إنه أصبح مديرا لدائرة مراسلات رئيس الوزراء الأول علي رضا الركابي، ويُروى أن الملك فيصل الأول كان ينوي تعيينه واليا لدمشق لكن الانتداب الفرنسي فاجأ الجميع وأسقط المملكة السورية وأُحيل الرئيس شكري القوتلي ضمن ستين شخصية لمحاكمة عسكرية فرنسية فحُكم عليه بالإعدام غيابيا ضمن أربع وثلاثين، كان معظمهم قد غادر البلاد.
مر مبكرا بتجربة النفي
عرف الرئيس شكري القوتلي معنى النفي مُبكّرا (1920 ـ 1924) على نحو ما عرفه مرات عديدة كانت أقساها هي تجربة سنوات حياته الأخيرة بعدما كان قد وصل للرئاسة مرتين، حيث تُوفي في بيروت وهو عاجز عن العودة إلى وطنه.
وفي المنفى الأول تنقل الرئيس شكري القوتلي بين مصر وفلسطين وأوروبا حتى عاد إلى دمشق 1924 فكان من عناصر الثورة السورية الكبرى أغسطس 1925 وانضم إلى سلطان باشا الأطرش في السويداء، وسرعان ما قُبض عليه وحكم عليه مرة بالنفي إلى جزيرة إرواد ، فلما أُطلق سراحه غادر سوريا نظرا لأنه محكوم عليه بالإعدام، وفي المنفى تحول الرئيس شكري القوتلي إلى جمع التبرعات للثورة.
وفي أثناء الثورة عُرف الرئيس شكري القوتلي كزعيم لمؤيدي حزب الاستقلال في مواجهة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الذي عُرف كزعيم مؤسس لحزب الشعب، وكان حزب الشعب في تصوير القوتلي وأنصاره يميل إلى تشجيع الثورة المسلحة على حين كان الاستقلاليون متّهمين من أنصار الشهبندر بالميل إلى بريطانيا، ومن المفهوم أنه في ظل الانتداب الفرنسي وقسوته يُصبح الميل إلى بريطانيا دليلا أو مؤشرا على نوع من الوطنية، وهكذا ترسّخت الزعامة للقوتلي مُبكّرا رغم كل الاتهامات التي وُجّهت إليه وإلى مسلكه السياسي والتنظيمي.
في 16 فبراير 1926 صدر عفو عام عن جميع الجرائم المُرتكبة خلال الثورة فيما عدا سبعين شخصية كان الرئيس شكري القوتلي بالطبع منهم..
وفي 1928 تشكّلت الكتلة الوطنية لتكون بمثابة ثاني حزب ينضوي الرئيس شكري القوتلي تحت لوائه على الرغم من أنه كان في خارج سوريا، وفي 1928 أيضا كُتب الدستور السوري الثاني وكان كاتبه هو كاتب الدستور الأول الذي هو الرئيس هاشم الأتاسي نفسه.. وفي 1928 أيضا أُجريت انتخابات الجهة التأسيسية.
نادي بعودة الملكية إلى سوريا
في تلك الفترة كان الرئيس شكري القوتلي يُنادي بعودة الملكية إلى سوريا ولم يكن يُمانع في بيعة الملك فيصل الأول مرة أخرى أو أي أمير من الأمراء الهاشميين أو السعوديين فقد كان الأمير (الملك فيما بعد) فيصل بن عبد العزيز في ذلك الوقت تواقا لمثل هذا المجد.
في 1930 أُسقط حكم الإعدام عن الرئيس شكري القوتلي وعاد إلى سوريا وشارك في مؤتمر القدس 1932 وفي الإضراب الستيني (1935 ـ 1936) وهو الإضراب الذي قاد إلى التوصل مع فرنسا لاتفاقية الاستقلال وانتخابات 1936 وفوز الرئيس هاشم الأتاسي برئاسة الجمهورية (ديسمبر 1936).
صعوده لرئاسة الكتلة الوطنية
في تلك الفترة صعد اسم الرئيس شكري القوتلي ليكون رئيسا للكتلة الوطنية أثناء غياب الرئيس هاشم الأتاسي في فرنسا لإجراء المفاوضات مع الفرنسيين، كما صعد اسمه بانتخابه نائبا عن دمشق، بل إنه أصبح نائب رئيس البرلمان في الوقت الذي أصبح فيه جميل مردم بك رئيسا للوزارة، واختير الرئيس شكري القوتلي وزيرا للدفاع ووزيرا للمالية (1936) أي أن الرئيس شكري القوتلي كان وزير الدفاع في سوريا في الوقت الذي حصل فيه الرئيس جمال عبد الناصر على الشهادة الثانوية وبدأ مساعيه للالتحاق بالكلية الحربية في مصر.
وسرعان ما صعد نجم الرئيس شكري القوتلي أكثر حين كلّفه جميل بك مردم بالنيابة عنه في رئاسة مجلس الوزراء أثناء سفره للتفاوض مع الفرنسيين (1937).
وفي بداية 1938 سافر الرئيس شكري القوتلي للحج، وعند عودته اختلف مع الرئيس جميل بك مردم ووصل الأمر إلى استقالته في مارس 1938.
ثم تدافعت الأحداث التي صعدت به إلى القمة:
ففي 1939 استقال الرئيس هاشم الأتاسي من رئاسة الجمهورية بعد ثلاث سنوات، وكلف بهيج الخطيب بالرئاسة.
وفي 1940يونيو اغتيل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في دمشق، ومع أن الرئيس شكري القوتلي شارك في تشييع الجنازة ودعا إلى تجاوز الحدث فقد وجه إليه الاتهام بالتحريض على اغتيال الدكتور الشهبندر، وكان هذا إيذانا بهجرته إلى العراق ثم إلى السعودية التي كان قضى فيها بعض الوقت قبل ذلك، وكان هذا منفى جديدا.
ومع هذا الموقف الحرج فإن الرئيس شكري القوتلي نجح في أثناء وجوده في العراق في توثيق علاقته بالشيخ أمين الحسيني والجماعات العربية التي كانت قد أعربت عن الولاء لألمانيا في الحرب العالمية الثانية ويُقال إنه كان السوري الوحيد في لجنة التعاون مع ألمانيا.
ويُذكر له في تلك الفترة أيضا أنه رأس لجنة التبرعات لحكومة رشيد عالي الكيلاني في العراق.
انتهت التحقيقات إلى براءة الرئيس شكري القوتلي من اغتيال الدكتور الشهبندر، فعاد إلى دمشق وعادت شعبيته إلى الصعود وقاد احتجاجات 1941، وتولى مفاوضة الفرنسيين نيابة عن المحتجين.
ودعا الرئيس شكري القوتلي في ذلك الوقت إلى عقد المؤتمر السياسي السوري الشامل لكن مطالب الكتلة لم تتحقق باستثناء إقالة الوزارة.
المنفى الاختياري في سويسرا ثم رئاسة الجمهورية
في هذه الأجزاء، سافر الرئيس شكري القوتلي إلى سويسرا كمنفى اختياري جديد وبقي فيها حتى 1942 وفي بداية 1943 رفض تشكيل الوزارة (وقد سبقه إلى الرفض الرئيس هاشم الأتاسي)
أُجريت الانتخابات البرلمانية في 1943 ففازت الكتلة فوزا ساحقا، واقترح الرئيس هاشم الأتاسي زعيم الكتلة ترشيح الرئيس شكري القوتلي رئيسا للجمهورية وأصبح الأتاسي كما نقول صانع الرؤساء، بينما أصبح الرئيس شكري القوتلي رئيسا للجمهورية في 17 أغسطس 1943
ها هو الرئيس شكري القوتلي رئيسا للجمهورية وهو في الثانية والخمسين من عمره، وبدأ سياسته الهادفة إلى تفعيل الاستقلال السوري، ودفعه ذكاؤه السياسي إلى أن يُشرك معه زعيمي لبنان رياض الصُلح وبشارة الخوري في مواجهة فرنسا بمطالب الدولتين معا. وقد وقف الرئيس شكري القوتلي فيما بعد موقفا حاسما من اعتقال فرنسا لبشارة الخوري ورياض الصلح وزملائهما.
توثيق العلاقة مع النحاس باشا والساسة المصريين
في تلك الفترة كان الوفد يتولى الحكم في مصر فسارع الرئيس شكري القوتلي إلى قبول دعوة النحاس باشا زعيم الوفد وأوفد رئيس الوزراء سعد الله الجابري ووزير الخارجية جميل مردم بك لبدء التنسيق من أجل كيان عربي يضمن القوة لسوريا في مواجهة رغبة فرنسا في امتداد نفوذها تحت مسمّيات مُختلفة. وهكذا فإنه في عهده شاركت سوريا في الاجتماعات التي أسفرت عن بروتوكول الإسكندرية لتأسيس الجامعة العربية، وقد مثل سوريا في توقيع البروتوكول الزعيم سعد الله الجابري الذي أُقيل في 14 أكتوبر 1944 بعد أسبوع من توقيع البروتوكول وذلك بعد أن كان النحاس باشا نفسه قد أُقيل في اليوم التالي لتوقيع بروتوكول الإسكندرية.
سرعان ما اقتدى الرئيس شكري القوتلي بخطوة أحمد ماهر في مصر في إعلان الحرب على ألمانيا واليابان فأعلنها في 26 فبراير 1945 ليكون من حق سوريا حضور الاجتماعات التأسيسية لهيئة الأمم المتحدة، وحضرت سوريا مؤتمر سان فرانسيسكو في نهاية مارس 1945 واشتركت في تأسيس هيئة الأمم المتحدة.
كان فارس الخوري قد أصبح رئيسا للوزراء خلفا لسعد الله الجابري في 14 أكتوبر 1944 ليكون بذلك ثاني رئيس للوزراء في عهد رئاسة الرئيس شكري القوتلي الأولى للجمهورية، بينما تولى سعد الله الجابري رئاسة البرلمان، واندلعت المظاهرات السورية عقب رفض البرلمان للاتفاقات التي اقترحتها فرنسا (مايو 1945)، وحين انتوت القوات الفرنسية قصف البرلمان نجح الزعيم سعد الله الجابري في تفادي الحدث بأن أعلن فض اجتماع البرلمان قبل انعقاده، وفرضت فرنسا قسوتها المعتادة في مثل هذه الأحداث فغادر سعد الله الجابري سوريا إلى بيروت في صُحبة البطريرك الروسي الذي تصادف أنه كان يزور سوريا ونجح في أن يستعدي بريطانيا التي تدخّلت في 31 مايو وقررت إيقاف القصف الفرنسي على الرغم من استمرار الاحتجاجات السورية ضد فرنسا ومصالحها.
إنهاء الانتداب الفرنسي
أُجريت مفاوضات ثلاثية في لندن ثم في مجلس الأمن الذي وافق في فبراير 1946 على إنهاء الانتداب الفرنسي وجلاء القوات الفرنسية تماما عن سوريا في 17 أبريل 1946 وهو اليوم الذي أصبح بمثابة اليوم الوطني لسوريا.
كان نجاح الرئيس فارس الخوري والزعيم سعد الله الجابري والرئيس شكري القوتلي في إدارة المعركة على هذا النحو الذي تكلّل بالنجاح هو ما دفع النقراشي باشا إلى محاولته في عرض قضية مصر على مجلس الأمن لتحقيق نصر على البريطانيين، بيد أنه لم ينجح في مسعاه.
ومن الحق أن نشيد بذكاء هؤلاء الزعماء في مُعالجتهم لقضية استقلال سوريا ولبنان على هذا النحو الذي تمكنوا به من توظيف هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن في إحقاق الحق، وهو موقف معقد لم ينجح فيه أحد من العرب بعدهم بالدرجة نفسها.
تنامي المشكلات الاقتصادية
على كل حال فإن بقاء الكتلة الوطنية في الحكم بقيادة الرئيس شكري القوتلي وأقرانه منذ 1943 أضعف من كفاءتها المحلية حسب ما هو معتاد في مثل ظروفها، فقد كان أنصار الأحزاب المعارضة لها يتربّصون بكل خطوة من خطواتها ليضفوا عليها ما تستحقه وما لا تستحقه من المآخذ من قبيل الحزبية والمحاباة والفساد.. الخ.
وكانت المشكلات الطبيعية الناجمة عن فترات الكفاح وعن المعاناة في الحرب العالمية الثانية تتفاقم، وهكذا تجمعت في مواجهة رئاسة الرئيس شكري القوتلي وحكوماته المتعاقبة مشكلات اقتصادية من قبيل زيادة التضخم وزيادة البطالة وارتفاع تكلفة المعيشة، وهكذا فقد الرئيس شكري القوتلي جزءا من لياقته السياسية مع مرور الوقت ونجمت أزمات حادة نتيجة بعض المواقف السياسية مثل أحداث السويداء التي استهدفت كسر نفوذ آل الأطرش، وإغلاق صحيفة النضال بسبب انتقادها لوزير الداخلية صبري العسلي، لكن هذا كله لم يمنع الرئيس شكري القوتلي من اتخاد قرارات جريئة من قبيل إعدام سلمان المرشد مؤسس الطائفة المرشدية (1907 ـ 1946) وهو زعيم محلي ترك له الفرنسيون الأسلحة الفرنسية عند جلائهم فبدأ سياسة العصيان للحكومة السورية مُتصورا إمكانية أن يستقل بدولة للعلويين أو بدولة في اللاذقية، وقد اختلط المذهب الديني بالسياسة بالمزاعم “المهدوية” والقداسة في دعوته التي تولاها من بعده ابنه محيي المرشد (1920 ـ 1952) الذي اغتيل على يد قائد الشرطة العسكرية في 27 نوفمبر 1952. ومن الحق أن نشير أن صلابة الرئيس شكري القوتلي في التصدي لسليمان المرشد حمت سوريا من كثير من الترهات التي كانت كفيلة بتمزيقها استجابة لتشجيع غربي دؤوب ومستمر ومتجدد منذ الحروب الصليبية.
نشأة حزب منافس للكتلة وازهار نقابات العمال
في أواخر 1946 بدأ التوجه إلى تشكيل حزب جديد يُنافس حزب الكتلة فتشكّل حزب الشعب (1948) بقيادة رشدي الكخيا (1899 ـ 1987) و ناظم القدسي (1906 ـ 1998) ومن الجدير بالذكر أن القدسي هو نفسه الرئيس الذي اختاره الانفصاليون في 1961 ليكون رئيسا للجمهورية بعد الانفصال (ديسمبر 1961 ـ مارس 1963) .
وفي الوقت ذاته كانت نقابات العمال تستدعي فورة التجارب النقابية في العالم الشرقي كله وتفرض نفسها في مواجهة أي حكومة قائمة معتمدة على قضايا جديدة ترتبط بالتنمية الاجتماعية وحقوق المواطنين الاقتصادية بعد أن تم الانتهاء من ملف الاستقلال.
وهكذا كان على الرئيس شكري القوتلي أن يواجه في انتخابات 1947 نفس المأزق الذي واجهه تشرشل في بريطانيا بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية، وقد حاول الرئيس شكري القوتلي أن يحافظ على نظام الانتخابات على درجتين ، لكن الجماهير كثّفت مطالبتها بالانتخاب على نظام الدرجة الواحدة أي الانتخاب المباشر، وقد انتهت نتيجة الانتخابات إلى فوز الرئيس شكري القوتلي وحزب الكتلة في دمشق على الرغم من ثورة التحالف المتشكل ضده فيها، كما فاز في السويداء ودرعا لكنه خسر في حلب وحماة كما خسر الأغلبية البرلمانية وإن لم يخسر الصدارة، وهكذا تمكن حزب الكتلة من أن يحصل على منصب رئاسة الحكومة لجميل مردم بك في 12 أكتوبر 1946 وإن كان حزب الشعب قد اشترك في الوزارة . .
تعديل الدستور السوري
وبدأت محاولة تعديل الدستور ليكون انتخاب الرئيس بطريقة مباشرة من الشعب لكن المحاولة لم تتم لكن تعديلا آخر أهم أُجري على الدستور (مارس 1948) ، بحيث عُدّلت المادة التي كانت قد حددت ولاية الرئيس بدورة واحدة فقط على أن يكون من حقه أن يعود للترشّح بعد انقضاء دورة أخرى، ومن ثم فقد كان المتوقع للرئيس شكري القوتلي أن يبتعد عن الرئاسة وأن نرى رؤساء سابقين متعددين، ومع وجاهة الفكرة القديمة وديموقراطيتها جاء تسويق فكرة تعديل الدستور من باب تحقيق الاستقرار السياسي و استغلال المزايا التي يضمنها استمرار الرئيس نفسه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والمحاور العربية وقضية فلسطين.
في 1947 توفي سعد الله الجابري، الذي كان أكبر رجال الكتلة شعبية في حلب وغيرها وكان معارضا لمد فترة الرئيس شكري القوتلي، وخلا الجو له فترشّح وانتخب في أبريل 1948 ، على أن تبدأ ولايته في أغسطس 1948 ولتستمر رئاسته التي كانت قد بدأت في أغسطس 1943 ، وهكذا كان من الممكن أن يظل الرئيس شكري القوتلي في الرئاسة حتى أغسطس 1953 لولا أن تدافع الأحداث أتى بانقلاب حسني الزعيم قبل أن تنقضي سنتان من رئاسة الرئيس شكري القوتلي الثانية. لكن هذه الرئاسة الثانية شهدت أهم التطوّرات العربية وهي حرب فلسطين 1948وكان الرئيس شكري القوتلي هو نفسه الذي رأس مؤتمر بلودان في سبتمبر 1946 كما كان هو نفسه الذي وقع اتفاقية التعاون السياسي والعسكري العربي في فبراير 1948، وكان الرئيس شكري القوتلي متفائلا بالنصر في حرب فلسطين هو والرئيس جميل مردم بك رئيس الحكومة.
إشكاليات حالة الحرب مع الكيان الصهيوني
وفي أثناء الهدنة الثانية أدّى الرئيس شكري القوتلي القسم لبدء دورته الثانية وكلف جميل مردم بك أيضا برئاسة الحكومة. لكن حالة الحرب استدعت كثيرا من الإجراءات المضادة للحريات وبدأت سلسلة من الأحداث التي أثرت على مسار التاريخ السياسي للزعامات السياسية العربية التي صعدت في الفترة اللاحقة.
فمن الطريف الذي يعرف الناس نصفه ولا يعرفون النصف الآخر أن الاتحاد السوفييتي كان أول دولة في العالم اعترفت بإسرائيل، أما النصف الثاني فإن الرئيس شكري القوتلي الذي كان صديقا للشيوعيين اتخذ قرارا بحل الحزب الشيوعي السوري نظرا لعلاقة الاتحاد السوفييتي بإسرائيل.
كانت قوة حزب البعث قد بدأت في البزوغ، فقد تطور الأمر بجماعة الإحياء العربي التي كونها الزعيم ميشيل عفلق إلى تأسيس حزب البعث في 7 أبريل 1947، وكان لا بد من اعتقال ميشيل عفلق في هذه الظروف. كذلك كان لا بد من الإجراءات المعتادة في مثل هذه الظروف من قبيل إعلان حالة الطوارئ وفرض الأحكام العسكرية وإغلاق المدارس.. الخ.
أول الانقلابات العسكرية السورية
في ديسمبر 1948 شكل خالد العظم آخر وزارات العهد الأول للرئيس شكري القوتلي في رئاسة الجمهورية و تواكبت هذه الحكومة مع حكومة إبراهيم عبد الهادي في مصر التي تشكلت عقب اغتيال النقراشي باشا لكنها لم تكن بقوة حكومة إبراهيم عبد الهادي ، وهو ما أعطى الفرصة لانقلاب حسني الزعيم، وكان آخر العوامل في الاندفاع إلى تنفيذ انقلاب حسني الزعيم هو أن المجلس النيابي في جلسة مغلقة انتقد الجيش انتقادا لاذعا ، وهكذا رأى قائد الجيش حسني الزعيم وأنصاره أن يُبادروا هم بالاستيلاء على الحكم على نحو ما حدث بعد حوالي عشرين عاما في حركة حافظ الأسد التصحيحية.
ومن الثابت أن الرئيس شكري القوتلي لم يندفع إلى أيه إجراءات وقائية ضد الانقلاب العسكري الوشيك وربما كان مُحقّا في ترك الأمور تكشف نفسها بنفسها وقد اعتقل الانقلاب رئيس الجمهورية بينما هو في المستشفى للعلاج فنقلوه من المستشفى المدني إلى مستشفى المزة العسكري واستكتبوه بخط يده استقالته في 6 أبريل مع أنه كان مصمّما على المقاومة حتى الموت لكن رئيس وزرائه الثاني الرئيس فارس الخوري (1873 ـ 1962) وكان رئيسا لمجلس النواب وقتها ذهب إليه و تمكن بعد لأي من إقناعه بكتابة استقالته ، وفيما بعد فقد أظهرت الوثائق الديبلوماسية الغربية أن حسني الزعيم كان ينوي قتله لولا تدخل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وبعد عشرة أيام أي في منتصف أبريل تقرر مصادرة أمواله وأموال ابنه ونفيه إلى الخارج فاختار الإقامة في الإسكندرية .
وتمادى الزعيم حسني الزعيم في تصوير الرئيس شكري القوتلي متهما بالفساد المالي وكأن الفساد المالي كفيل بأن يُشرعن الانقلاب.
صُوّر الرئيس شكري القوتلي أثناء وجوده في المنفى معارضا للتقارب مع العراق وهو الاتجاه الذي كان يتبناه الرئيس هاشم الأتاسي، ووصل الأمر إلى أن اتهم بأنه متعاون مع أجهزة سرية مصرية ومع الشيخ أمين الحسيني في التآمر على حياة الملك عبد الله ملك الأردن لكن هذا الاتهام تبدّد.
وأصبح الرئيس شكري القوتلي على كل حال بمثابة رئيس احتياطي موجود في المنفى، ومن الطريف انه في أبريل 1954 زاره وفد سوري من رجال الدين المسلمين والمسيحيين يدعونه للعودة إلى دمشق فقامت مظاهرات ضد عودته لكنه عاد في أغسطس 1954.
تراجع شعبية حزب الرئيس القوتلي
وجاء عصر ربيع الديموقراطية مرة أخرى ، وأجريت الانتخابات في 1954 فجاء حزب الشعب في المركز الأول لكن تمثيله انخفض من 40 % إلى 24% وجاء حزب البعث في المركز الثاني وجاء الحزب الوطني برئاسة الرئيس شكري القوتلي في المركز الثالث، ومع هذا فإن الأحزاب التي تراجعت في هذه الانتخابات أمام البعث (أي الشعب والوطني) اتفقت على التعاون فيما بينها وكان أهم مظاهر هذا التعاون هو اتفاقها على ترشيح الرئيس شكري القوتلي رئيسا للجمهورية، فتم انتخابه في 1955 لفترة رئاسية جديدة، وتمادت الأحزاب في تحديها للقوة الجديدة التي يُمثّلها حزب البعث فكلّف الرئيس شكري القوتلي سعيد الغزي بتشكيل أول وزارات عهده الثاني فشكّلها من الحزب الوطني وحزب الشعب دون أن يُشرك فيها حزب “البعث” الفائز بالكتلة الثانية في الانتخابات.
القوتلي كان ناجحا رغم الدعايات المضادة
هكذا بدأت الفترة السابقة على الوحدة والتي شهدت نهاية عهد الرئيس شكري القوتلي في منصب رئيس الجمهورية (1955 ـ 1958) وفي هذه الفترة كان الرئيس شكري القوتلي يُحقق نجاحات استراتيجية وسياسية ساحقة على عكس ما هو مُشاع عن عمد (في الأدبيات العربية) للتقليل من قيمة نجاحاته من أجل التبرير لحاجة سوريا إلى زعامة عبد الناصر.
وعلى سبيل المثال فقد وقف الرئيس شكري القوتلي ضد حلف بغداد بقوة معارضة أكبر من معارضة عبد الناصر لذلك الحلف وكان الرئيس شكري القوتلي أذكى من عبد الناصر في مهاجمته للعناصر الاستراتيجية التي استطاع أن يُلصقها بذلك الحلف ليجعل من معارضته ضرورة وطنية حتى لو لم تكن هذه العناصر من سياسات الحلف المُعلنة ، وقد كان الرئيس شكري القوتلي وليس الرئيس عبد الناصر هو الذي أعلن عن معارضته للتحالف العراقي التركي وكان هو الذي أعلن عن تخوفه من التحالف الهاشمي (الأردني العراقي) وكان هو أول من دعا إلى تكوين حلف شبيه بحلف بغداد تكون عناصره الثلاثية الأقوى هي مصر وسوريا والسعودية.. ومع هذا فإن كلا من نظام الرئيس عبد الناصر والسعوديين لم تكن لهما قوة الرئيس شكري القوتلي الفكرية أو التنظيمية الكفيلة بخروج مثل هذه الأفكار إلى حيز بيروقراطي وإعلامي.
وعلى سبيل المثال أيضا فقد كان الرئيس شكري القوتلي هو من استطاع في 1956أن يُقنع الملك حسين بن طلال ملك الأردن بالابتعاد عن الانضمام لحلف بغداد، بل إنه وقع اتفاقية للتعاون العسكري مع الأردن في حالة أي اعتداء إسرائيلي على أي منهما.
الرئيس شكري القوتلي هو الذي سارع عقب توقيع اتفاقية الأسلحة التشيكية لمصر إلى توقيع اتفاقية مماثلة في يناير 1956، ثم إلى توقيع اتفاقية تجارية مع بولندا في أكتوبر 1956 ثم إقامة العلاقات الديبلوماسية مع كل من الصين ورومانيا.
الرئيس شكري القوتلي هو الذي وقّع (أكتوبر 1955) اتفاقية مجلس الدفاع المشترك مع مصر، واتفاقية مماثلة للدفاع المشترك مع لبنان.
الرئيس شكري القوتلي هو أيضا الذي قام بأول زيارة لرئيس عربي إلى الاتحاد السوفييتي ما بين 30 أكتوبر و4 نوفمبر 1956، وجاءت هذه الزيارة المحددة سلفا لتتواكب مع العدوان الثلاثي على مصر، وكان وجود الرئيس شكري القوتلي في موسكو بمثابة أكبر دافع لموقف الاتحاد السوفييتي الحاسم مع مصر ضد العدوان الثلاثي
الرئيس شكري القوتلي أيضا هو الذي رفض (13 أغسطس 1957) عرض الولايات المتحدة الأمريكية السلام مع إسرائيل مقابل أربعة ملايين دولار توازي أربعة أضعاف الموازنة السورية.
النجاحات الداخلية للرئيس القوتلي
وبالإضافة إلى هذه النجاحات الخارجية والعربية والاستراتيجية، فإننا نجد الرئيس شكري القوتلي ناجحا داخليا إلى أقصى الحدود الممكنة:
وعلى سبيل المثال فإنه هو، وليس غيره، من بدأ استيعاب طموحات حزب البعث رغم ما كان بينهما من جفاء، وقد رأى أن اتجاه الريح في الشارع السياسي يتطلب منه أن يقترب من حزب البعث على حساب تحالفه مع حزب الشعب وهو التحالف الذي أوصله للرئاسة.
ومن ناحية أخرى ، فقد وقف الرئيس شكري القوتلي ضد ديكتاتورية البعث المبكرة في رد فعل البعث على اغتيال الضابط البعثي عدنان المالكي على يد أعضاء من الحزب السوري القومي الاجتماعي ومارس الرئيس شكري القوتلي بذكاء سلطة الدولة في مواجهة قوتين قادرتين على الحشود الفاشية بكل خطورتها ، وهما البعث السوري والقومي الاجتماعي، فضلا عن الجيش القابل للتحالف مع إحدى القوتين ضد الديموقراطية وقد كان الرئيس شكري القوتلي هو من استطاع أن يستصدر قرار حل الحزب السوري القومي الاجتماعي واعتقال قادته وهو من فصل الضباط الموالين لذلك الحزب في القوات المسلّحة.
الرئيس شكري القوتلي هو الذي استطاع نزع الفتيل الاستقطابي في قضية التصديق على الأحكام الصادرة بحق المتهمين باغتيال عدنان المالكي وهو استقطاب وصل إلى التهديد السافر بالانقلاب العسكري وباغتيال الرئيس شكري القوتلي نفسه، لكن الرئيس شكري القوتلي كان من الشجاعة بحيث صدّق على إعدام اثنين وبقاء الثالث في السجن.
نظام الرئيس شكري القوتلي هو الذي روج (صدقا أو كذبا) لاكتشاف مخطط لانقلاب عسكري جديد يُخطّطُ له القوميون السوريون مع الشيشكلي لإعادته للسلطة.
الرئيس شكري القوتلي هو الذي دعا إلى (الميثاق الوطني) بين الأحزاب والقوى السياسية السورية وهي التجربة السياسية التي حاول عبد الناصر تنفيذها في مطلع الستينات
الرئيس شكري القوتلي هو الذي شجع تشكيل حكومة وحدة وطنية في جنيف 1956 برئاسة صبري العسلي فلما انهارت بحكم المعارضة المؤتلفة ضد الرئيس شكري القوتلي (من حزب الشعب وحركة التحرر العربي بقيادة الشيشكلي وبعض المستقلين) تمكن في آخر أيام 1956 من تشكيل حكومة صبري العسلي الثانية التي ضمت الحزب الوطني (حزب الرئيس شكري القوتلي) وحزب البعث وكتلة خالد العظم.
الرئيس شكري القوتلي أيضا هو من استجاب لوساطة مصر في حل المشكل بينه وبين وزير الدفاع الذي أقاله الرئيس لأنه أبعد قائد الجيش المحسوب على الرئيس شكري القوتلي بسبب فصله الضباط البعثيين ونقلهم.
الاندفاع السوري نحو الاندماج مع مصر
بالمواكبة لكل هذه النجاحات كانت القوى النافذة في المجتمع السوري قد مضت في تيار الاندفاع نحو وحدة اندماجية مع مصر ، وكانت الدافعية الكبرى لهذه القوى هي دافعية القفز على الواقع الذي لم يكن يتناسب مع ما عُرف عن الكفاءة السورية والطموح السوري ولأن أجيال الآباء في سوريا وجدوا النجاح في القاهرة والإسكندرية ومصر عموما فإن السوريين المحدثين كانوا يرون انهم يستطيعون أن يوظفوا الزعامة البازغة للرئيس جمال عبد الناصر في القفز على مشكلاتهم وفي تمكين كفاءاتهم من قيادة الأمة العربية كلها ولم يكن هؤلاء ومعهم الرئيس شكري القوتلي نفسه يتصورون أنهم بخطوتهم هذه يدفعون سوريا إلى أسوأ صعيد يمكن لأمة مثلها أن تندفع إليه فقد كان الكيان الوحدوي الذي صنع على عجل كيانا مبتسرا وكان محتواه فارغا وسطحه هشا وأركانه مزلزلة .
كانت المشاعر العروبية قد بدأت تصل إلى أقصاها بسبب العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر 1956 فقد اندلعت المظاهرات وهوجمت المؤسسات المرتبطة بالعراق باعتبار العراق ولبنان يمثلان الرجعية العربية (أما السعودية و الأردن فكانتا مثل سوريا قد وقفتا بحماس في مواجهة العدوان على مصر)، وكان تصنيف العراق على هذا النحو مفهوما لكن لبنان انضم لهذا التصنيف بسبب رعونة الرئيس كميل شمعون في التعبير عن عداوته للرئيس عبد الناصر ومن ثم للتوجهات الوطنية والعروبية، وواصل البعث صعوده كما واصلت كتلة العظم صعودها مع بقاء الرئيس شكري القوتلي والحزب الوطني في مقدمة الحياة السياسية ، وبهذا التحالف الثلاثي حكم الرئيس شكري القوتلي حتى 1958 ، بل إن الحكومة السورية نصّت في برنامجها على إقامة الوحدة الفيديرالية مع مصر.
التطور المتسارع في حركة الوحدة مع مصر
بدأ التوجه العملي نحو الوحدة مع مصر يتصاعد بأسباب حقيقية وأخرى اصطناعية مع عدم وجود فارق حقيقي بين هذين النوعين من الأسباب
ففي 1957 أذاعت سوريا أنها أحبطت محاولة عملية انقلاب أمريكي على الرئيس شكري القوتلي.
وفي 11 سبتمبر1957 أرسلت مصر قوات إلى ميناء اللاذقية بعد الإعلان عن توتر في العلاقة بين تركيا وسوريا، وكان هذا التوتر رد فعل لبعض اتفاقات الرئيس شكري القوتلي مع الاتحاد السوفييتي، وهي اتفاقات رأت فيها تركيا تهديدا لأمنها القومي وهي مسألة حساسة عند الأتراك.
بدأت مفاوضات الوحدة في أكتوبر 1957 وانتهت كما هو معروف بالاندماج التام في فبراير 1958 وقبل الرئيس السوري الذي سيترك الرئاسة وهو الرئيس شكري القوتلي نفسه أن يتخذ قرارا سياسيا بحل الأحزاب الحزبية مُنهيا بهذا عهدا من الحياة الحزبية بدأ منذ ما قبل الاستقلال.
مكانة الرئيس القوتلي في ظل النظام الناصري
كان النظام الناصري في بدايات الوحدة يُحافظ للرئيس شكري القوتلي على مكانة بروتوكولية باعتباره المواطن العربي الأول، لكن هذه المكانة بدأت تتقلص حتى اختفت تماما وأصبح الرئيس الذي حكم سوريا منذ 1943 وحتى 1949 ومنذ 1955 وحتى 1958 واحدا من رعايا الرئيس جمال عبد الناصر فحسب.
لما حدث انقلاب عبد الكريم النحلاوي في سبتمبر 1961 تراجعت مكانة الرئيس شكري القوتلي فلما حدث انقلاب البعث الصريح في 8 مارس 1963 عومل الرئيس شكري القوتلي معاملة الأعداء فصودرت أملاكه واختار النفي إلى بيروت بعدما أحس بذكائه أن وجوده في القاهرة ليس مرحبا به، وترحّم على زمن مضى نفاه العسكر السوريون في عهد الشيشكلي إلى حيث يريد فاختار الإسكندرية.
النفي إلى بيروت والوفاة فيها
كانت بيروت على كل حال أرحم بأعصاب الرئيس شكري القوتلي الذي قدّر له الله أن يعيش حتى يشهد بعيني رأسه هزيمة 1967 التي هُزمت فيها سوريا ومصر معا، وكأن استمرار حياته حتى نهاية شهر وقوع هذه الهزيمة كان عقابا، وكأن الهزيمة نفسها كانت عقابه النهائي على أنه لم ينفع وطنه بحكمته وخبرته على نحو بعيد عن الانسياق إلى المجاملة غير المبررة لنظام كان هو نفسه بحكمته وحنكته يعرف أنه يحوي بذور الفشل العاجل.
عاش الرئيس شكري القوتلي من أجل سوريا لكنه لم يمانع في أن يجعل سوريا تنزف من أجل مجد الرئيس جمال عبد الناصر. كان الرئيس شكري القوتلي قادرا على أن يقول الحق لكنه خضع لعمره المتقدم فآثر الصمت، ولو أنه اقتدى بمن كان يكبره بستة عشر عاما وهو الرئيس هاشم الأتاسي لأنصف نفسه، ولو انه اقتدى بمن كان يصغره وهو الرئيس خالد العظم لأنصف نفسه، ومن العجيب أن حكومة الوحدة وعلى رأسها الرئيس عبد الناصر كرّمت الرئيس هاشم الأتاسي بجنازة رسمية أما الرئيس شكري القوتلي فنقل جثمانه إلى دمشق بصعوبة وصُلي عليه في المسجد الأموي في جنازة غير رسمية وصار تجاهل اسمه ومجده معلما من معالم نهج الناصرية وسلوك البعث على حد سواء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com