إذا قُلنا بشارة الخوري وسكتنا فإن الأنظار تتجه إلى الشاعر اللبناني بشارة الخوري المعروف بالأخطل الصغير الذي غنّت له أم كلثوم وغيرها والذي يُعتبر أكثر الشُعراء اللبنانيين عروبة وحسّا ووطنية وقُدرة على الحياة والحب والوفاق والتعايش والسلام والعطاء والإبداع أما إذا قُلنا الرئيس بشارة الخوري فإننا نكون قد قصدنا الرئيس بشارة خليل الخوري (1890 ـ 1964) الرئيس الأول للبنان بعد الاستقلال، ومع أنه الرئيس الأول للبنان (1943 ـ 1952) ومع أنه أكثر شبابا ونفوذا من الشاعر بشارة الخوري (1885 ـ 1968) فإنه بالطبع لا يحظى ولن يحظى بشهرة الأخطل الصغير وجارة الوادي، نعيد التذكير بالاسم الثلاثي للرئيس اللبناني وأنه هو بشارة خليل الخوري، بينما الاسم الثلاثي للشاعر هو بشارة عبد الله الخوري.
تتمثل قيمة الرئيس بشارة الخوري في إخلاصه لفكرة استقلال لبنان ووحدته الوطنية، وقد وقف وقفة جادة من أجل تحقيق هذين الهدفين مع شريكه العظيم الرئيس رياض الصلح وقد سلك هذان الرجلان أفضل وأذكى السُبل لتحقيق هدفهما العظيم، وقد انطلق الرجلان بالدستور اللبناني الذي وُضع في عهد الانتداب الفرنسي وعملا على تخليص ذلك الدستور من كل مواده ونصوصه التي تتعارض مع الاستقلال ومن كل المواد التي تُساعد فرنسا على تقييد الاستقلال واستثماره أي توظيف موارد لبنان وأرضه وثقافته لمصلحتها، وكان صادقا في جُهده في التعاون مع الرئيس رياض الصلح وعلى الرغم من أن الفرنسيين قابلوا هذا التصرُف بالغطرسة والعجرفة فإن الشعوب العربية وقفت موقفا قويا في تأييد الرئيسين الصلح والخوري كما أن نبل الساسة السوريين جعلهم يقرنون سعيهم إلى استقلال لبنان بسعيهم لاستقلال بلادهم وهم يعرضون قضية الوطنين الشقيقين في الأمم المتحدة 1946، وهكذا تمكّن رئيس الوفد السوري (الذي هو فارس الخوري رئيس وزراء سوريا ) من الحصول على قرار الأمم المتحدة بجلاء القوات الفرنسية عن كل سوريا ولبنان في نفس اليوم.
ولد الرئيس بشارة الخوري 1890 في عائلة مارونية مارست السياسة في الأجيال السابقة ودرس القانون في جامعة القديس يوسف اليسوعية في بيروت وتخرّج فيها فعمل محاميا، ومارس مهنة المحاماة في بيروت والقاهرة وقد انتخب نقيبا لمحامي لبنان في عام 1930 كما كان قد اختير رئيسا لمحكمة الاستئناف الحقوقية 1922وبهذا شغل الموقع الأول بين القُضاة والمحامين والساسة على حد سواء وكان في هذا شبيها إلى حد متواضع بعبد العزيز فهمي باشا ( 1870- 1951) في مصر. كما أنه نه لم يصل في عُلوّ كعبه وذيوع صيته إلى ما وصل إليه معاصره السابق عليه في المولد والتخرج والعمل السياسي رئيس الوزراء السوري الأستاذ فارس الخوري 1873- 1962
بدأت حياة الرئيس بشارة الخوري السياسية بتعيينه وزيرا للداخلية (1926) في حكومة أوجست أديب باشا، وفي 1932 أسّس الكتلة الدستورية (التي تحوّلت إلى حزب سياسي في 1955 بعد أن ترك الرئاسة) وعُرفت هذه الكتلة الدستورية بمعارضتها لحزب الكتلة الوطنية الذي ترأسه إميل إده (1883 ـ 1949) الذي كان قد تولى رئاسة لبنان في عهد الانتداب الفرنسي .
وفي 1943 تولى الرئيس بشارة الخوري رئاسة لبنان في 23 سبتمبر 1943 وشرع مع الرئيس رياض الصلح فيما أشرنا إليه من حسم قضية الاستقلال لكن الفرنسيين في 11 نوفمبر 1943 اعتقلوه هو والرئيس رياض الصلح رئيس الوزراء في قلعة راشيا وعيّنوا بدلا منه إميل إده فثار اللبنانيون ثورة تضافر معهُم فيها العرب فأُفْرج عنهما واعترفوا باستقلال لبنان في 26 نوفمبر 1943 وبقي تسع سنوات في هذا المنصب.
وكان الرئيس بشارة الخوري قد حاول أن يمد مدّته في الرئاسة على نحو ما فعل الرئيس شكري القوتلي لكن سُمعة الوزارة المالية كانت قد وصلت إلى درجة يستحيل معها بقاؤها، وهكذا خلفه الرئيس كميل شمعون الذي حاول هو الآخر مدّ فترة رئاسته دون جدوى، وكان الرئيس بشارة الخوري قد احتال لهذا المد بأن أجرى انتخابات 1947 وانتُخب فيها. وفي 1948 عدّل الدستور وأعاد مجلس النواب انتخابه لكنه لم يستطع إكمال عهده الحزبي وإن كان قد أتمّ 9 سنوات كاملة في المنصب، لكنه لم يُكمل سنوات المدة التي انتُخب لها في 1947.
فلمّا اضطر الرئيس بشارة الخوري للرحيل تقرر أن يسلّم مقاليد الأمور إلى اللواء فؤاد شهاب كي يُجري الانتخابات ويُسلّم السلطة للفائز، الذي شكّل حكومة عسكرية حكمت عدة أيام حتى أجريت الانتخابات فتم انتخاب كميل شمعون رئيسا للجمهورية في 24 سبتمبر 1952 الذي بدأ مع حكمه عهد التوتّرات المكتومة في لبنان (التي تحولت مع الزمن وعبث العرب المجاورين وغير المجاورين ومؤامرات الغرب) إلى حرب أهلية.
يُذكر للرئيس بشارة الخوري أنه اعتزل المناصب السياسية بعد أن ترك رئاسة الجمهورية في 1952، ولم يفعل مثل الرؤساء السوريين المعاصرين له الذين اشتركوا جميعا في السياسة بعد تركهم المنصب بل وتولوا رئاسة الوزراء، ولم يفعل مثل خلفه الرئيس كميل شمعون الذي ظل يتولى مناصب الوزارة حتى توفي وهو وزير 1987.
من الجدير بالذكر أن الرئيس بشارة الخوري لم يأت لرئاسة الجمهورية من فراغ وإنما كان قد أثبت كفاءة في المناصب التشريعية والوزارية التي تولاها. فقد كان عضوا في مجلس الشيوخ اللبناني من 23 أبريل 1926 وحتى 17 أكتوبر 1927 ثم أصبح عضوا في البرلمان اللبناني طيلة الفترة من 1929 وحتى 1937 أي طيلة ثماني سنوات وقبل أن يُصبح نائبا في البرلمان كان قد عُيّن رئيسا للوزراء ووزيرا للمعارف العمومية (ثاني رئيس وزراء لبناني بعد أوجست أديب) ما بين 5 مايو 1927 و5 يناير 1928 ثم أُضيفت وزارة العدلية إليه فأصبح رئيسا للوزارة ووزيرا للمعارف العمومية والعدلية من 5 يناير 1928 وحتى 10 أغسطس 1928 وقد خلفه حبيب باشا السعد.
وعاد الرئيس بشارة الخوري لتولّي رئاسة الحكومة ومعها وزارات الداخلية والعدل والإسعاف ما بين 10 مايو 1929 و12 أكتوبر 1929 وقد خلفه إيميل إدة . أما ما قبل مناصبه التشريعية والوزارية فقد أشرنا إليه من قبل. أما في عهده فقد تعاقب على رئاسة الوزارة كل من:
– الرئيس رياض الصلح في 25 سبتمبر 1943
– ثم عبد الحميد كرامي في 10 يناير 1945
– ثم سامي الصلح في 23 أغسطس 1945
– ثم سعد الملا في 22 مايو 1946
– ثم الرئيس رياض الصلح في 14 ديسمبر 1946 وحتى اغتيل في عمان 14 فبراير 1951
– ثم حسين العويني في 14 فبراير 1951
– ثم عبد الله اليافي في 7 أبريل 1951
– ثم سامي الصلح في 11 فبراير 1952
– ثم ناظم عكاري في 10 سبتمبر 1952
– ثم صائب سلام في 14 سبتمبر 1952 وهو آخر رؤساء الوزارة في عهده، ومن الطريف أن صائب سلام ظل يُشكّل وزارات حتى كانت وزارته الأخيرة 1972 ـ 1973 وقد شكّل وزاراته في عهود الرئيس بشارة الخوري والرئيس الثاني كميل شمعون، والرئيس الثالث فؤاد شهاب والرئيس الخامس سليمان فرنجية وإن لم يعمل رئيسا في عهد الرئيس شارل حلو.
نأتي إلى أهم المصاعب السياسية التي واجهت الرئيس بشارة الخوري في أثناء رئاسته للبنان وقد تمثلت في قضيتين كبيرتين:
أولاهما بالطبع قضية فلسطين، ومما يُحسب للسياسة اللبنانية أنهم لم يخرجوا عن الإجماع العربي ولا عن الإخلاص العربي لقضية فلسطين وكان موقف لبنان قمة في الوفاء لعروبتها وإيمانها بهذه العروبة كما إيمانها بالاستقلال والحرية.
أما الموقف الثاني وهو الأصعب فقد خلفته جبهة القوميين السوريين برئاسة أنطون سعادة زعيم الحزب القومي السوري وقد وصل تهوّر هذه الجماعة في أعمال العُنف التي قامت بها في لبنان حدّا كان لا بد للدولة معه أن تتدخل، ومع أن الدولة تدخّلت فإن نتائج تدخّلها كانت أصعب من أن يتصورها العقل السياسي العربي ذلك أن ملاحقة الحكومة لأنطون سعادة اضطرته للهرب إلى دمشق بناء على ترحيب من الزعيم حسني الزعيم قائد الانقلاب السوري الأول، وكما هي عادة العسكريين فإن الزعيم حسني الزعيم وجد نفسه تحت ضغوط لتسليم أنطون سعادة لبيروت على الرغم من أنه هو الذي رحّب به في دمشق، وهكذا استدرجه ذات يوم لمقابلته ثم سلّمه إلى الأمن اللبناني، وكان يُعوّل على أن يقتله الأمن اللبناني في الطريق فيختفي سرّه معه، لكن الأمن اللبناني تمكّن من الحفاظ على أنطون سعادة حيّا حتى وصل إلى لبنان وعُقدت له محاكمة عاجلة في الفجر وقرّرت إعدامه ونُفذ حكم الإعدام .
وكان إعدام أنطون سعادة فاتحة لأبواب الشر على ثلاثة من الرؤساء كان تعاقب تأذيهم على النحو التالي:
– انفتح باب الشر على الزعيم حسني الزعيم حتى إنه يُعتقد إنه سرعان ما فقد حياته ثأرا لحياة أنطون سعادة فقد كان من بين رجال حسني الزعيم كثيرون من حزب أنطون سعادة.
– انفتح باب الشر على الرئيس رياض الصلح الذي تم اغتياله في 1951 وهو في الأردن مع إعلان صريح على أن الثأر لمقتل أنطون سعادة كان هو سبب قتل الرئيس رياض الصلح، وهو احتمال وارد وإن لم يكن الاحتمال الوحيد.
– انفتح باب الشر على الرئيس بشارة الخوري نفسه الذي فقد الرئيس رياض الصلح رئيس وزرائه القوي المحبوب المُتحالف معه، وفقد جزءا كبيرا من ثقة الجماهير العربية ومنها اللبنانية بقدرة الدولة اللبنانية على الحكم الصائب على الأمور، وسرعان ما انبرى مُعارضوه في مهاجمته لأسباب كثيرة حتى إنه اضطر كما ذكرنا للتخلّي عن منصبه في سبتمبر 1952 قبل أن تنتهي مُدّته التي انتخب لها بعد ترتيب دستوري أجهده. أما ما كشفت عنه وثائق الدولة اللبنانية فيما بعد، وتبعا لما نشرته جريدة الحياة من ترجمة لكتاب باتريك سيل وما أشار إليه من أوراق الأمير فريد شهاب التي نشرت سنة 2006 فإنه ” عند الساعة الثامنة مساءً في 7 يوليو، أصدرت المحكمة العسكرية حكم الإعدام على سعادة بموجب المادة 79 من قانون القضاء العسكري. وأرسل الملف إلى لجنة العفو التي أكّدت الحكم. بعد سماع دفاع المُدان، وقبل اتخاذ قرار في شأن مصير سعادة، دعا الرئيس بشارة الخوري إلى اجتماع حضره الرئيس رياض الصلح والأمير فريد شهاب، إضافة إلى حبيب أبي شهلا وغبريال المر، وهما مسؤولان بارزان من الطائفة الأرثوذكسية نفسها التي ينتمي إليها سعادة. وفقاً لملاحظة دوّنها الأمير فريد شهاب، قال الرئيس رياض الصلح إنه لا يحب الإعدام. ولاذ الرئيس الخوري بالصمت، لكن أبي شهلا والمر أيّدا إعدامه”.
يعقب باتريك سيل بذكائه وفطنته فيقول: “لا شك في أنهما اعتبرا أن سعادة يشكّل خطراً على موقعهما المسيطر في طائفتهما. ظلّ هذا الجانب من ظروف إعدام سعادة مجهولاً لمدة تزيد على نصف قرن، ولم يكشف عنه إلا بعد نشر أوراق الأمير فريد شهاب في 2006”
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا