الرئيسية / المكتبة الصحفية / الدكتور إبراهيم شحاتة.. كان شاعرا وكان أفضل القانونيين العرب في جيله

الدكتور إبراهيم شحاتة.. كان شاعرا وكان أفضل القانونيين العرب في جيله


الدكتور إبراهيم شحاتة مفكر عربي نادر المثال في جيله باعتراف جميع أقرانه، وقد جمع الخبرة بالقانون والاقتصاد مع موهبة شاعرية وقدرة فائقة على التعبير المتميز شأنه شأن الدكتور سعيد النجار من أسلافه المباشرين، وتمتع بمكانة مصرية ودولية وعربية كبيرة، تولي عدداً من المناصب العربية والدولية المهمة، كان آخرها وأعلاها موقع نائب رئيس البنك الدولي للشؤون القانونية، وهو المنصب المسمى أيضا باسم بروتوكولي آخر هو: النائب الأول لرئيس البنك الدولي، وقد عرف بسعة الثقافة، وبارتقاء الخبرة والمعرفة، والإلمام بقواعد الاقتصاد الدولي والتنمية، كما عرف بتعدد المواهب، وبالتميز في السلوك الشخصي، وبإعطاء المثل في الإدارة الملتزمة بالقيم الأخلاقية، وقد ظهر دوره الدولي البارز عندما اختير نائبا لرئيس البنك الدولي (1983) بعد انفجار مشكلة المديونية الدولية، وامتناع المكسيك عن سداد ديونها، وقد نتج عن هذا أن اتجهت الاقتصاديات العالمية إلي إتاحة الفرصة لتعاظم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وقد استتبع هذا إنشاء منظمة دولية تابعة للبنك الدولي لتشجيع الاستثمارات الجنبية الخاصة المباشرة، وكذلك القروض طويلة الأجل، وهكذا ساعد إبراهيم شحاتة مساعدة بالغة في إنشاء المنظمة الدولية لضمان الاستثمارات المعروفة باسمها المختصر (ميجا).

كان الدكتور إبراهيم شحاتة كثير التعبير عن إيمانه بالديمقراطية، والحريات العامة، ونظام المساءلة، والاقتصاد الحر، وكان دائم الدعوة إلى الإصلاح الإداري المرتكز على قيم العمل والنزاهة والوعي، وكان دائب الاستنكار للعقيدة القائلة بإمكان نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي في ظل قوانين لا تؤمن باقتصاد السوق. ولد الدكتور إبراهيم شحاتة في 19 أغسطس عام 1937 في إقليم الدقهلية، وتلقي تعليماً مدنيا، ودرس القانون في جامعة القاهرة وتخرج فيها (1957)، وكان أول الدفعة التي كان منها الوزير عمرو موسى، واختيرا للعمل في مجلس الدولة (1957 ـ 1960)، ثم انتدب للعمل في المكتب الفني لرئيس الجمهورية في دمشق في أثناء عهد الوحدة (1959 ـ 1960)، وحصل على دبلومين في القانون من جامعة القاهرة، ثم على درجة الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة هارفارد (1964)، وعمل بعد عودته في هيئة التدريس في كلية حقوق عين شمس.


كان الدكتور إبراهيم شحاتة من الأكاديميين المصريين الذين آثروا العمل خارج مصر منذ الستينيات، وقد عمل مستشاراً قانونياً للصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية (1966 ـ 1970)، فمستشاراً أول للصندوق الكويتي بدولة الكويت، وإليه يعود الفضل في تفعيل دور هذا الصندوق، ووضع القواعد والإجراءات الكفيلة بعملياته، وقد عمل مديراً عاماً لصندوق الأوبك للتنمية في فيينا، مما مهد له سبل النجاح في إقناع دول الأوبك العربية بتفعيل صندوق للتنمية. ثم انتقل للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية وهيئة الأمم المتحدة حيث اختير أميناً عاماً للمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار في واشنطن، واشترك في عضوية مجالس إدارة عدد من المراكز الدولية للبحوث والتنمية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعمل رئيساً لمجلس إدارة المعهد الدولي لقانون التنمية في روما، وإليه يرجع الفضل في إنشاء الوكالة الدولية لضمان الاستثمارات.

نال الدكتور إبراهيم شحاتة كثيرا من التكريم وحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة السوربون بباريس، ومن جامعة داندي البريطانية. للدكتور إبراهيم شحاتة مؤلفات كثيرة في القانون الدولي، وفي التنمية الاقتصادية من أهمها كتابه المشهور «وصيتي لبلادي» الذي صدر في مجلد واحد قبل رحيله بشهور، بعد أن كان قد صدر علي أربعة أجزاء متفرقة (1994 ـ 1999)، وقد صدرت أيضا طبعة مختصرة من هذا الكتاب، وقد قدم هذا الكتاب مشروعاً شاملاً للإصلاح في مصر، بادئاً بإصلاح النظام الإداري، والتعليم، والدستور.. إلخ. وقد اختار الدكتور إبراهيم شحاتة أن يضع في صدر وصيته هذه الآية الكريمة: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ}، كما وضع عبارة أخري للمفكر الأوروبي الذي دافع كثيراً عن الوحدة الأوروبية جان سونيه تقول: «ينبغي لتغيير مجري الأشياء أن ننجح في تغيير روح الناس، ولا يغير الوضع الجامد الحالي إلا عمل مباشر ينصب علي نقاط رئيسية: عمل متعمق، وحقيقي، ودرامي، يغير الأمور، ويدخل في مجال الحقيقة التطلعات التي كاد الناس يفقدون أي أمل في تحقيقها.

وقد تحدث في كتابه الأشهر وفي مقالات متعددة عن الخيارات المتاحة لمصر، وكان يصنفها في ثلاثة: السير إلى الخلف، والحركة الواقفة (محلك سر)، والسير إلى الأمام، وكان يوضح فكرته بالقول بأن السير إلى الخلف هو الارتداد الفكري أو التطلع إلى العيش في القرن الحادي والعشرين وفق الممارسات والتفاصيل، بل والطقوس والخرافات التي سادت في عصور غابرة. وكان يقول في لغة واضحة حاسمة: «نحن لا نتكلم هنا عن القيم الأساسية التي لا ينازع أحد في صلاحيتها لكل مكان وزمان، ولا عن سنّة الله في خلقه التي لن نجد لها بديلا، ونحن لا نجادل في ضرورة تمسك المصريين بالمثل العليا لدينهم، والأخلاق الرفيعة التي يأمرهم بالتجمل بها، كما أننا لا نتكلم عن أهمية وضرورة المحافظة علي تميزنا الحضاري فيما هو مفيد، والتمسك بالجوانب الإيجابية من هويتنا، فهذه كلها لوازم ثقافية ينبغي التزود بها ونحن نواصل مجهوداتنا نحو التقدم، محافظة منا علي وجودنا في «صراع الحضارات» الذي ينبغي أن نري فيه تنافسها الإيجابي نحو الأفضل، وتكاملها فيما يحقق التقدم الإنساني.

وكان الدكتور إبراهيم شحاتة يلفت النظر إلى أن أصحاب هذا الاتجاه الارتدادي يريدون أن يشغلوا مصر كلها بصغائر الأمور، خاصة فيما يتعلق منها بالمسألة الجنسية. فالجنس عندهم يكاد يكون المعيار الوحيد للفضيلة، وهم يرتبون علي نظرتهم نحو الجنس نظرة أخري نحو المرأة من شأنها تحقير دورها في الحياة العامة والعمل، وهم لا يريدون لمصر أن تنطلق مع العالم في الغرب والشرق الذي مكنه العلم الحديث والتنمية الاقتصادية السريعة وتكافؤ الفرص بين الجميع من رفع مستوي المعيشة، والارتقاء بنوعية الحياة للناس، تحقيق ما كان من قبل في عداد المعجزات وكان يعبر عن اعتقاده في حقيقة أنه لا يسر أعداء الإسلام شيء أكثر من رواج هذا الاتجاه ووصول أصحابه للحكم، بما يضمن التخلف المستمر للمسلمين، والصراع الدائر في ديارهم، ولعل آخر دليل علي ذلك ما قاله الزعيم الروسي المتطرف جيرونوفسكي ـ المعروف بعدائه للمسلمين ـ من أن أمله الأكبر أن يري الدول الإسلامية وقد غرقت في حكم المشايخ والملالي حتي يمكن السيطرة عليها دون إطلاق رصاصة واحدة!

كذلك كان الدكتور إبراهيم شحاتة يشخص أسباب انتشار هذا الاتجاه الارتدادي في انتشار الأمية، وتدهور مستوي التعليم، وزيادة الهجرة من الريف إلى المدن، ومن مصر إلى الدول العربية. كما ساعد عليه الفراغ السياسي الذي عجزت الأحزاب القائمة عن ملئه، والاتساع المستمر في الهوة بين التعاليم الدينية والممارسات اليومية للأفراد، مع غياب المحاولات الجادة لتضييق هذه الهوة، وعن طريق إصلاح الممارسات بتقريبها من هذه التعاليم. ومن خلال التحليل الذي يسوقه الدكتور إبراهيم شحاتة للخيار الثاني الذي يمثله أصحاب الحركة الواقفة (محلك سر) نري أنه ينتهي إلى النتائج نفسها التي ينتهي إليها الخيار الأول: جمود في النظرة، وسقوط في شرك الأيديولوجية، وعدم قدرة على الرؤية الصحيحة، والتحليل الصحيح، والاستبصار بما يحمله المستقبل من تغيير وتطوير.


كان الدكتور إبراهيم شحاتة يؤكد على أن الفساد يعتبر سببا رئيسيا يحول بين مصر وتحقيق أهدافها الاستراتيجية بعد أن تضخمت أبعاده في المجتمع المصري -عبر العصور- حتى اكتسب كثير من صور الفساد مع الوقت قيماً اجتماعية إيجابية. وكان الدكتور إبراهيم شحاتة يقول: «فالفرد الذي ينجح في التهرب من القوانين أو الضرائب كثيراً ما يوصف بالمهارة التي تستحق التقدير والتقليد، والموظف الكبير الذي يساعد أقرباءه وبلدياته في الحصول على الوظائف -على حساب مَنْ هم أولي بها- يوصف بالشهامة، ومسؤول الضرائب أو الجمارك الذي يتغاضى عن التحصيل مقابل خدمات تقدم له من الممول يوصف بالعرفان بالجميل، ورجل الأعمال الذي يفسد مناخ المنافسة برشوة المسئول يوصف بالفعالية ويعفي من العقوبة إن أبلغ عما جنته يداه، والمسؤول الكبير الذي يحتفظ بالهدايا التي تقدم له من جهات في الداخل أو الخارج يشبه بالنبي الذي قبل الهدية، إلي آخر الصور الشائعة المعروفة في مصر وفي بعض الدول النامية الأخرى. فالرشوة أصبحت جزءاً من سمات التعامل العادي في كثير من الأماكن، وأصبحت أكثر الرشاوي الصغيرة تدفع لكي يقوم الموظف العام بأداء العمل المكلف به أصلا دون تباطؤ أو تعقيد، ويزيد من هذه ترقية الموظفين -لا بناء على كفاءتهم- ولكن على أساس الأقدمية، أو إرضاء رؤسائهم والتزلف إليهم، مما يزيد من تخلف الجهاز الإداري.

ظل الدكتور إبراهيم شحاتة يؤكد على دور الجهاز الحكومي القادر على وضع السياسات الملائمة، وتحديد الأولويات الاستراتيجية، واختيار أوجه الإنفاق العام التي تناسبها، وتنفيذ البرامج والمشاريع الحكومية بكفاءة ونزاهة بعيدا عن الفساد. كان الدكتور إبراهيم شحاتة دائب التعبير عن إيمانه ويقينه بأن مصر لن تتقدم إلا بالأساليب العلمية الحديثة التي تضمن لها سرعة الاندماج في الاقتصاد العالمي، والإفادة من فرصه الكبيرة، مع ضرورة حماية نفسها من آثاره السلبية بالتنظيمات المناسبة، والأجهزة القوية القادرة، والتزود بالمعرفة الشاملة التي تمكنها من قيادة شعبها وشعوب المنطقة إلى عالم جديد من الأمان والرخاء.

بالإضافة إلى استاذيته في القانون والاقتصاد كانت للدكتور إبراهيم شحاتة أعمال شعرية غير مشهورة وكان على حد تعبير الأستاذ فاروق شوشة يحمل في أعماقه وجدان شاعر، وكان يجيد التعامل بالحروف والكلمات، وصياغة الصور الشعرية البديعة، والبوح الجميل الكاشف عن همومه وأحزانه وقلقه ومعاناته الوجودية العميقة، وإحساسه الشامل بالفساد الضارب من حوله، وغيبة ميزان العدل والحرية الحقيقية، التي ليست مجرد هامش أو هوامش، ومحاولة التنفس في فضاء لا يسوده تلوث بيئة، ولا تختنق فيه صدور الناس بالكروب والعلل والأوبئة، والانسحاق من أجل لقمة العيش حينا، ومحاولة التمسك بكرامة الإنسان -الحد الأدنى منها- حينا آخر. وقد اكتملت لديه أركان المعرفة، وأتيح له من آفاق التجارب وفضاءاتها ما لم يتح لغيره، طاف وتنقل ورأي واهتزت أوتاره لما لا يحصي من الحالات والمشاعر والانفعالات والمواقف، واستطاع في زحام شواغله، وبالرغم منها، «أن يصيد بعض هذه المواقف، وأن يحولها إلى لوحات شعرية ونثرية تندي بكيمياء الصدق، وماء الإبداع، وأصالة التعبير». على المستوي الشخصي تميز الدكتور إبراهيم شحاتة بالهدوء، والذكاء، والتواضع، وتوازن الشخصية، والمعرفة، والرغبة في البحث عن الحلول المتوازية.

توفي الدكتور إبراهيم شحاتة في مايو عام 2001. وكتب عنه العلامة د. سعيد النجار مقالا بعنوان “إبراهيم شحاتة العالم الفذ”، ووصفه زميله د. سلطان أبو علي في عنوان مقاله: بأنه فارس القانون والاقتصاد كما وصفه زميله الآخر د. أحمد صادق القشيري بأنه سنهوري القانون الدولي، ووصفه د. أحمد السعيد شرف الدين بأنه القدوة الطبية. وكتب عنه فاروق شوشة: إبراهيم شحاتة شاعرا، كما كتب عن كتابه وصيتي لبلادي وكتب عنه الأستاذ عبد المنعم سليم: إبراهيم شحاتة.. نجم أضاء في سماء البنك الدولي واقترح لويس جرجس: دراسات عليا في القانون باسمه إبراهيم شحاتة.

 

 

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com