كانت قصة حياة أحمد حسنين باشا (1889 ـ 1946) حتى ما قبل العقد الأخير منها قصة حياة متميّزة بلا أدنى شك لكنّها لم تكن درامية أو مثيرة وإنما كانت أقرب إلى أن تكون حياة مترفة حتى في مغامراتها الصحراوية والجوية ، فلم يكن فيها من عناصر الإبداع الفني والتصوير الفني ما أصبحت غنية به في نهايتها و لا تزال تحتفظ به حتى الآن ، لكن هذا الثراء جاءها من قدرة فنان كبير على الحكي والرواية والتصوير والاستبطان والاستبصار، كان هذا الفنان هو الأستاذ محمد التابعي الصحفي الذي قدّم حياة أحمد حسنين باشا في صورة ملحمة، ولم يُقدّم غيرها من الملاحم مع أن عناصر الملاحم كانت مُتاحة له في روز اليوسف وأسمهان وأم كلثوم وغيرهن لكنه آثر صديقه أحمد حسنين باشا بالتصوير الملحمي من خلال أسلوبه الروائي المُتميّز فجعل من حياة حسنين منذ كتب عنها وحتي الآن أفضل ملحمة للحب والسياسة في مصر الحديثة، بل ربما في التاريخ المصري كله ذلك أن قصة حياة كليوباترا وقصة حياة شجر الذر لم تحظيا حتي الآن بما حظيت به حياة الملكة نازلي وزوجها أحمد حسنين باشا على يد الأستاذ محمد التابعي
وقد قلت في حديث لي عن الأستاذ محمد التابعي إن من المذهل أن كلّ ما كُتب عن حياة أحمد حسنين باشا والملكة نازلي لم يخرج عن الإطار الذي صوّره (ولا نقول رسمه) الأستاذ محمد التابعي. ومن المُذهل أن تمضي السنوات فيعجزُ كلّ من أمسك القلم وتناول هذه الحياة أو تلك الحياة أن يصوغ رؤية مُخالفة لتلك التي صوّرها (ولا نقول رسمها) الأستاذ محمد التابعي، أمّا أحمد حسنين باشا نفسه فهو كما سنري من حياته طموح صُوّرَ مُغامراً مع أنه لم يكن مُغامراً إلى ذلك الحد الذي صوره الراسمون بل ربّما كان أدني إلى التدبر والتحفظ منه إلى المُغامرة، ولهذا السبب فإنه نجح في وظيفته بأكثر مما نجح في مُغامراته وذلك على خلاف ما يتصوّرُ الناس.
كذلك فإن حسنين باشا كان إنجليزي الطابع والانطباع على الرغم من أنه في سلوكه كان شخصية من شخصيات الثقافة الفرنسية المُتدفقة المندفعة إلى حب الفن والاستمتاع به وإلى حب الطبيعة وريادتها، ولهذا السبب فإنه تفوّق بين ذوي الثقافة الإنجليزية بما ليس في أنداده، كما أنه كان عند ذوي الثقافة الفرنسية من الزعماء المصريين المعاصرين له أقربُ إلى تصوّرهم النفسي من كلّ ما يُقال أو يروي عنه، حتى إنه يُمكن لك القوْلُ بأن أحمد عبد الغفار باشا (على سبيل المثال) كان في طابعه الإنجليزي أكثر تطَبُّعاً من أحمد حسنين الذي لازم الإنجليز في بلادهم وفي الصحراء وفي غير الصحراء، وقد وصل الأمر بأحمد حسنين في النهاية إلى أنه كان يفْخَرُ دون كلام ودون صوت بعلاقاته الفنية والثقافية، علي حين أنه كان يستخفي [بالنص وبالفعل] بعلاقاته ومهاراته السياسية ولم يكن هذا من باب الدهاء السياسي فحسب كما يُصوّرُه من عرفوه وفي مُقدّمتهم الأستاذ محمد التابعي ، ولكن هذا كان أيضا بسبب اعتقاده الواثق في علو مكانة الثقافة والرياضة علي السياسة والوزارة.
لم يرسم حسنين حياته أو يخططها على أن يصل إلى رئاسة الديوان فحسب، وإنما كان طموحه أكبر من هذا، ولو أنه رسمها على هذا النحو لوصل إلى هذه الرئاسة منذ عهد الملك فؤاد فهو من جيل حسن نشأت لكنه كان في حقيقة الأمر مشغوفاً بالمعرفة في المحل الأول، وواثقاً من أن مكانته ستأتيه بالمعرفة قبل أن تأتيه بحسن الإقناع، أو بأثر الانطباع وهو ما حدث بالفعل.
فكره السياسي
كان أحمد حسنين باشا سياسيا مستقلا عن الأحزاب ، وكان من القلائل الذين خططوا بإخلاص وحب وتفان وبصيرة لمستقبل مصر على المدى القريب و المدى المتوسط ، وإليه وحده يرجع الفضل في إنشاء أهم جماعة غير حزبية شاركت في حكم مصر بعد 23 يوليو 1952 وهي جماعة الرواد .وقد وصل عشرة على الأقل من أعضاء هذه الجماعة ومرشحيهم اللصيقين بهم إلى مناصب الوزارة في عهدي الرئيسين عبد الناصر والسادات بدءا بعبد الجليل العمري وإسماعيل القباني وعبد الرزاق صدقي ومحمد فؤاد جلال وعباس عمار و وليم سليم حنا وعلي الجريتلي ومحمد عوض محمد ثم عبد الوهاب البرلسي وعبده سلام
مسيرته الوظيفية
ولد أحمد حسنين باشا في العام الذي ولد فيه الأساتذة عباس العقاد، وطه حسين، وعبد الرحمن الرافعي، كما ولد فيه من علماء الطب الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا، أما من رجل الاقتصاد البارزين فقد ولد معهم عبود باشا.
كان ميلاد أحمد حسنين باشا في حي بولاق في القاهرة، وكان والده الشيخ محمد حسنين من علماء الأزهر، ومن المقربين للخديوي عباس حلمي، ثم للسلطان حسين كامل، أما جده فكان قائدا عسكريا مبرزا هو أحمد حسنين باشا الجد، وهي حالة من الحالات النادرة أن يرزق ضابط كبير بابن يصبح من علماء الأزهر الكبار لكن المجتمع المصري في ذلك العهد كان صحيحا سليما معافي من تأثير طفيليات الفهم الطبقي الخاطئ.
وقد استطاع الوالد من خلال رجال البلاط الحصول على توصية لإلحاق الابن بإحدى جامعات بريطانيا.
وفي بريطانيا أتيح لأحمد حسنين باشا أن يدرس في كلية أكسفورد، وأن يعيش الحضارة البريطانية بكل جوانبها، مما ساعده على التنمية المتميزة والمتوازية لمواهبه الرياضية، والكشفية، والثقافية، والفنية.
وفي أثناء دراسته برز تفوقه في الرياضة والألعاب الرياضية، خاصة المبارزة، وعرف كذلك بأنه لاعب سلاح ماهر، حيث كان بطلا في لعبة السيف والشيش
في أثناء الحرب العالمية الأولي (1914 ـ 1918) عمل أحمد حسنين باشا سكرتيرا عربيا للجنرال سير جون مكسويل، واختارته الحكومة المصرية ليشترك في مفاوضة إيطاليا حول حدود مصر مع ليبيا (1924)، ثم عينه الملك فؤاد في حاشيته، وظل يعمل في خدمة الملك فؤاد حتى وفاته، حيث تولي مناصب دبلوماسية في واشنطن ولندن، وعمل أميناً بديوان الملك فؤاد الأول فأميناً أول، ورأس الديوان الملكي بعض الأوقات.
وعهد الملك فؤاد إليه بالإشراف على تعليم وتثقيف الملك فاروق، وبهذه الصفة فإنه اصطحبه في أثناء إقامته في بريطانيا، وعاد معه إلى مصر حين عاد فجأة (1936) لتولي العرش، وسرعان ما أصبح رئيسا للديوان الملكي خلفا لعلي ماهر باشا، وفي تلك الفترة عرف بسعيه للوصول إلى رياسة الوزارة باعتبارها أرفع مناصب الدولة ، و قد رشحته الشائعات بقوة لتشكيل وزارة جديدة في أبريل 1943، ويروي أن الملك وقع بالفعل مراسيم تشكيل هذه الوزارة لكنها لم تتشكل بناء على تدخل الانجليز الشهير بعبارة لا تغيير ، وقد أوردت قصة هذه الوزارة بالتفصيل في كتابي كيف أصبحوا وزراء .
وكان من الممكن أن تكرر الفرصة نفسها لكن حياته ذاتها لم تطل.
وقد احتفظ أحمد حسنين باشا برياسة الديوان الملك فاروق حتى توفي في فبراير 1946.
تاريخيا عرف أحمد حسنين باشا بعدائه المستمر للوفد، ويري كثير من كتاب التاريخ أنه كان السند الوحيد للملك فاروق في أثناء حادث 4 فبراير، وقد حاول بعد ذلك مساعدة الملك في الخلاص من السفير البريطاني لورد كيلرن ومن وزارة الوفد أكثر من مرة
مغامراته في الطيران الفردي
وفي مجال الطيران روى الأستاذ مصطفى أمين أن أحمد حسنين باشا اشتري طائرة وقادها من لندن إلى القاهرة، لكنها تحطمت في الطريق ونجا بأعجوبة، واشتري طائرة ثانية وتحطمت به أيضا، والثالثة ونقلوه حطاما من بين حطامها إلى المستشفى وظن الجميع من قسوة إصاباته أن حياته قد انتهت، لكن الله وهبه عمرا جديدا حتى إن الطبيب المعالج قال: «لأول مرة أري ميتا يقف على قدميه».
رئاسة البعثة الأوليمبية المصرية
تولي أحمد حسنين باشا رئاسة الفريق المصري في الألعاب الأوليمبية في بروكسل (1920)، ومثل مصر في الألعاب الأوليمبية (1924)، كما تولي رئاسة النادي الأهلي المصري، وأنشأ ورأس نادي السلاح الملكي، كما رأس اتحاد السلاح في مصر.
الكشافة والرحلات
عرف أحمد حسنين باشا بأنه صاحب مواهب كشفية متميزة، وبأنه مغامر تواق. كما وصف مبكرا بالرحالة لكثرة رحلاته، ومن أبرز هذه الرحلات رحلته الشهيرة مع رحالة أجنبية اكتشفت واحة مصرية، وفي رحلة تالية اكتشف هو الآخر واحات أخري، وقد ساعده الملك فؤاد على إتمام رحلته لاستكشاف صحراء مصر الغربية من البحر المتوسط إلى دارفور، ويذكر له أنه اكتشف في هذه الرحلة العديد من الواحات التي لم تكن معروفة حتى وقتها، ونشر تقريرا عن اكتشافه بعنوان «في صحراء ليبيا» ترجم إلى الإنجليزية (1925).
التكريمات الشعبية لأحمد حسنين باشا
نال أحمد حسنين باشا كثيرا من التكريم الشعبي والسياسي، ولعل أشهر التكريمات التي أقيمت له ذلك الحفل الذي أقيم في كازينو «سان استيفانو» بالإسكندرية (27 أغسطس 1923)، تحت رعاية الملك فؤاد، وفيه نظم أمير الشعراء أحمد شوقي بك قصيدة ألقاها على الحضور بهذه المناسبة، وقد نشرتها جريدة «السياسة» في عددها الصادر في الصباح التالي، وقد جاء من أبياتها المطولة قول شوقي في حسنين:
أقدم فليس على الإقـدام ممــتنــع واصنع به المجد فهو البارع الصنع
وإن نبغــتـم فــفي عـــــلـم وفـي أدب وفي صناعات عصر ناســه صـــنع
أكبرت من حسنين همــة طمحــت تـــروم مـا لا يـــروم الفتــية القــــنع
رحالة الشرق إن البيد قد علمت بأنــك الليــث لم يخلـــق له الفـــزع
أجزت مصر ثناء أنــــت موضــعه فلا تذب من حياة حـين تستــــمع
ولو جزتك الصحاري جئتنا ملكا من الملوك عليك الريـش والــودع
وقال عنه أمير الشعراء أحمد شوقي في مناسبة أخري:
صحراء في طول الظنون وعرضها تطوي وتنشر في صحاف كتاب
وصفته مدرسة الأستاذ التابعي بالقول المتداول على نطاق واسع:” إن أحمد حسنين يتمتع بأعظم المواهب السياسية، لأنه أقنع الجميع بأنه رجل غير سياسي”.
مشروع وزارته الذي لم ير النور
كان من المفترض أن يعلن تشكيل وزارة أحمد حسنين باشا في ١٧ إبريل ١٩٤٤ لكن البريطانيين أوقفوا خطوات الملك فاروق في هذا السبيل، ومن الجدير بالتأمل أن نطلع القارئ على تشكيل هذه الوزارة ومكانة أعضائها في الحياة السياسية قبل هذه الواقعة وبعدها.
تضمنت هذه الوزارة أن يجمع أحمد حسنين باشا بين الرئاسة والخارجية وهو مالم لم يصل إليه بسبب وفاته المفاجئة في 1946.
وضمت المرشحين التالين:
عبد القوي أحمد: للأشغال كان بالفعل وزيراً للأشغال العمومية في وزارة علي ماهر الثانية (1939) وحسين سري الأولى (1940) كما تولى وزارة الوقاية المدنية في وزارة سري الثانية (1941). كما عاد لتولي وزارة الأشغال في وزارة إسماعيل صدقي الثالثة (1946).
حسن صادق باشا: للدفاع كان بالفعل وزيراً للدفاع الوطني في وزارتي سري الأولى والثانية، بل تولى وزارة المالية في أول ثلاثة أسابيع من وزارة سري الأولى.
حسن فهمي رفعت: للداخلية لم يصل إلى منصب الوزير رغم أنه ظلّ بمثابة وكيل هذه الوزارة العتيد فترة طويلة من الزمن.
مريت غالي بك: للتجارة والصناعة وصل في عهد وزارة أحمد نجيب الهلالي الثانية إلى وزير، لكنه لم يلبث في الوزارة إلا يوماً واحداً ثم قامت الثورة، ثم اختير وزيراً في نهاية وزارة علي ماهر الرابعة، لكنه لم يلبث إلا يوماً واحداً لثاني مرة.
عبد الفتاح عمرو باشا: وزير دولة لم يصل إلى منصب الوزارة وظل في لندن حتى قامت الثورة واستقال من منصبه بعد ما نقلته الثورة إلى الهند.
طراف علي باشا: للمواصلات اختير بالفعل وزيراً للمواصلات في وزارتي أحمد نجيب الهلالي الأولى والثانية.
راضي أبو سيف راضي بك: للشئون الاجتماعية اختير بالفعل وزيراً للشئون الاجتماعية وللصحة في وزارة أحمد نجيب الهلالي الأولى، ثم وزيراً للشئون الاجتماعية (فقط) في وزارة أحمد نجيب الهلالي الثانية.
علي عبد الرزاق باشا: للأوقاف اختير بالفعل وزيراً للأوقاف في أثناء وزارة النقراشي باشا الثانية مارس 1947 واحتفظ بمنصبه في وزارتي إبراهيم عبد الهادي.
محمد كامل مرسي باشا: للمعارف وصل بالفعل إلى وزارة العدل في ثلاث وزارات هي وزارة صدقي باشا الثالثة (1946) ووزارتا نجيب الهلالي الأولى والثانية (1952).
محمد علي نمازي: للعدل وصل بالفعل إلى منصب وزير العدل في وزارة علي ماهر الثانية (يناير 1952) وقبلها إلى منصب وزير المواصلات في وزارة سري الرابعة (نوفمبر 1919).
محمود محمد محمود: للمالية وصل بالفعل إلى منصب وزير المواصلات في آخر يوم من وزارة علي ماهر باشا الأخيرة.
تأملات الدكتور زكي مبارك ونقده لكتابه في صحراء ليبيا
كتب الدكتور زكي مبارك مقالا مطولا عن كتاب في صحراء ليبيا لأحمد حسنين باشا بمناسبة تقرير ذلك الكتاب على طلاب المدارس الثانوية، ومن الإنصاف أن ننقل للقارئ مختارات من هذا المقال القيم الذي استعرض فيه الدكتور زكي مبارك كثيرا مما ضمه الكتاب فضلا عن نقده لشخصية المؤلف ولطريقته في التأليف، وسوف نعرض للقارئ الفقرات التي اخترناها (مع قدر من التصرف اليسير) من هذا المقال المطول:
” في صحراء ليبيا ” هي رحلةٌ قام بها حضرة صاحب المعالي أحمد محمد حسنين باشا سنة 1923 من السلوم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، إلى الأُبيَض عاصمة مديرية كردفان بالسودان، وهي مسافة قدرُها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلو متر قُطعتْ على ظهور الإبل، وفيها وُفِّق الرحالة إلى كشف واحتين مجهولتين هما (أركنو) و (العوينات)، وكانتا غير معروفتين قبل ذلك للجغرافيين. وقد سُطِّر تاريخ هذه الرحلة في نحو أربعمائة صفحة بالقِطع المتوسط، وهي مقسمة إلى جزأين، وفيها كثير من الرسوم العلمية والجغرافية.
وقد بدأ الدكتور زكي مبارك بوصف أحمد محمد حسنين باشا فقال ضمن ما قال:
” هو رجل لم تلده ولاّدة، كما يعبِّر أهل مصر حين يصفون فتىً من النجباء”
” … باشوية جده الجادة أورثت حفيدها القدرة على أن يقول: إن أهله كانوا من ساكني البادية؛ وعلى أن يقول: نحن أهلَ الصحراء، لا يغنينا النوم عن العشاء”.
” كان أحمد حسنين في كل أدوار ماضيه من نماذج الفتوَّة واللوذعية، عاش في إنجلترا حيناً فكان صورة للفتى الموسوم بالبراعة والشهامة والصدق والجاذبية، ولم يمنعه تحضّره من الاتصال بالبادية، فاعتُمد عليه أيام الحرب الماضية في السفر إلى الصحراء الغربية للاتفاق مع زعمائها على رعاية واجب الجِوار في احترام الحدود. ثم طوحت به همته إلى اختراق تلك الصحراء ليكشف واحتين كان لهما في أذهان أهل البوادي خيال، ولم يكشفهما أحد من قبل، فكان التوفيق من حلفائه الأوفياء. ثم أراد أن يكون طياراً، ولكن الحوادث أرادت غير ما يريد، فقد طار من إنجلترا إلى إيطاليا، ثم سقطت طيارته، فأصلحها وطار، ثم سقطت فأصلحها وطار، وقد صمم على أن يدخل مصر طائراً ولو سقط بطيارته في جوف المحيط، ولكن برقية كريمة صدرت إليه بوحي من الملك فؤاد، فقهرته الطاعة على أن يدخل مصر وقد امتطى الماء، لا الهواء، وتلك أعظم محنة عاناها ذلك العربي الصوال”.
كان يتمتع بالرجولة ” المبرأة من شوائب الضعف والغفلة والقنوط”
” كان رجلاً بكل معنى الكلمة: كان بدويِّا في مواطن البداوة، وحضريِّا في معاهد الحضارة. كان حليما في أوقات الحلم، وجاهلاً في أوقات الجهل؛ فكان له في كل حالة لَبوس، وكان في جميع أحواله صورة من الرجل الذي يرى الخلُق الصحيح في رياضة النفس على مسايرة ظرف المكان والزمان
” عاش هذا الرجل نحو ثمانية أشهر في ظلال المخاوف والحتوف، وكانت الرِّيب تحيط به من كل صوب، وكانت الثعابين تداعبه من حين إلى حين، وكان يُؤْثر سُرَى الليل ليتجه بصره إلى ناحية واحدة، ومن هنا عرف أن الظلمة قد تنفع (والسياسي يعيش في عوالم من الظلمات، ولو سطع النور حول أغراض السياسي لتخاذل وضاع”.
” حين قام بتلك الرحلة العاتية…….. كان رجلاً من صميم البادية. كان رجلاً يهمه أن يقيم البراهين على أنه لم يتعلم في جامعة أكسفورد غير حزم الأمتعة، والتعرف إلى مواطن الخوف والرجاء في مفاوز الصحراء”.
” هو فلاح متحضر، فهو لذلك أذكى الرجال وأعقل الرجال. وقد عرف هذا الفلاح المتحضر ما في البادية من مكر ودهاء، فهو يلبس حُلة ذكائه في كل وقت، ويشتمل بثوب مكره في كل حين. وما ظنكم برجل تحيط به الشكوك من جميع الجوانب وهو فريد وحيد ثم ينتصر بلا مشقة ولا عناء؟
” يقع كتاب أحمد حسنين في عشرين فصلاً، وله في كل فصل مجالٌ خاص، وفقاً لاختلاف الأغراض. فالفصل الأول عن الصحراء من نواحيها المادية والروحية، وفي هذا الفصل كلام يقوله كل الناس، إلا كلامه عن الشوق إلى ما في الصحراء من متاعب وصعاب، ولا تظهر قيمة هذه النزعة لمن يقرأها في الفصل الأول إلا حين يعاني قدها في الفصل الأخير، ذلك بأنها تواجهه أول مرة وهي أشبه بالفلسفة الروحية، والناس قد يقرءون الفلسفة هادئين، ولكن هذه النزعة لا تواجه القارئ في الفصل الأخير إلا بعد أن يكون شارك المؤلف في الأنس بالصحراء، وعندئذ يحق له أن يتوجع لبلواه حين يقول وقد وصل إلى دار الأمان”
“ودب في نفوسنا جميعاً دبيب الابتهاج بعودتنا إلى الاتصال بحياة الحركة، ولكني شعرت حين انقلبت إلى فراشي بوخزة حزن في قلبي، لأن ذلك اليوم كان آخر أيامي في الصحراء، ورأيتني أضيف إلى صلوات شكري دعاه خالصاً أسأل الله فيه أن يقدر لي العودة إليها يوماً من الأيام”.
وفي الفصل الثاني يتكلم المؤلف عن وضع خطة الرحلة ويفاجئك بكلام نفيس عما صنع أبوه رحمه الله، وهو يزوِّده بالبخور والدعوات الصالحات ومن كلامه عرفت أشياء من عادات العرب في التأهب للرحيل. وقد أطنب المؤلف في الثناء على أبيه، ثم أعرب عن فجيعته لوفاته بعبارات لا تصدرُ إلا عن نجباء الأبناء”
وفي الفصل الثالث يقف المؤلف موقف المعلم لمن يحاولون اختراق الصحراء.
وفي الفصل الرابع نرى كيف يضطر الرحالة إلى تغيير خطة السير لينجو من مكايد الأعراب.
وفي الفصل الخامس يتحدث المؤلف عن السنوسيين وتاريخهم بإيجاز، ويشرح عقائدهم بالتفصيل.
وفي الفصل السادس يتكلم المؤلف عن واحة جغبوب.
وفي الفصل السابع يتحدث الرحالة عن الولائم والأدوية.
وفي الفصل الثامن يتكلم عن الزوابع في طريق جالو.
وفي الفصل التاسع يفصل القول عن واحة جالو، ويذكر ما بينها وبين الطليان من نزاع وشقاق.
” …… وأقول إن المؤلف مولع بوصف الأجسام فلا يرى شخصاً إلا حدثنا عن قوامه وعينيه، فما سر ذلك؟ يرجع السر إلى أن المؤلف عاش دهره موصول الأواصر بالأندية الرياضية، ومن هنا غُرست في نفسه بذور الثقافة الجسمية، فهو ينظر إلى الأجسام قبل أن ينظر إلى العقول، وهي نظرة تدل على أنه رجل هذا معنى غرام الرجل بالإبل والخيل، فهو جمّال إن أردت، وفارس إن شئت، وهو فوق هذا وذاك يحس مذاق الظل، وقد يتذوق طعم الغُبار في بعض الأحايين.
” ويهتم أحمد حسنين بدرس عادات البدو دراسة مضمّخة بعَبير الشوق والحنين، وهو يرد تلك العادات إلى أصولها من العواطف الذاتية، فالفتاة التي يحرق حِذاءها البارود تُزهَي وتختال، لأن ذلك شاهد على أنها تَغُلّ الباب الرجال. وفي هذه المرحلة يصرخ أحمد حسنين صرخات تنطق بأنه من أصحاب الأذواق. وهذا الرجل المفتون بالبادية هو أيضاً مفتونٌ بالحاضرة أعنف الفتون، فلا يطيل المكث إلا في المواطن التي يكثُر فيها اشتباك العواطف والأهواء”
” ثم يجب النص على اهتمام أحمد حسنين بأداء الصلوات، والتبرك بالأذان، فتلك شواهد على ما صرح به غير مرة من أن الصحراء تزيد من قوة الإيمان، وهو التصريح الذي أتاح لمعالي الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك أن يقترح إرسال علماء الأزهر إلى الصحراء!! والنكتة الدقيقة من أبرز عناصر الفن الرَّفِيع
زكي مبارك يصفه بأنه مرهف الحس لكنه بلا أسلوب
” أحمد حسنين ليس من أصحاب الأساليب، فليس له في الإنشاء مذهبٌ خاص، وهو فيما نعلم لم يفكر في أن يكون له مكان بين الكتّاب، وإن كان من أكابر الأدباء وقد أنشأ كتابه أول مرة بالإنجليزية، ثم ترجمه إلى العربية وهذا يفسِّر ما نشهد من تفاوت الأسلوب من حين إلى حين. ولكن الكتاب مع هذا على أعظم جانب من الحيوية، فما سرّ ذلك؟ يرجع السر إلى قوة إحساس المؤلف، فكل سطر من كتابه ينطق بأنه يَعنِي ما يقول، وسياق الحديث يدل في كل صفحة على أن الرجل جابَ الصحراء وهو مرهف الحِسّ ذكيّ الجَنان، وملاحظاته فِطريَّة بعيدة من التكلف، فهو يُشعِرك بأنه بدويٌ لا يرى غير ما في البادية من مخاوف وآمال، وهو ينقلك إلى تلك المجاهيل بقوة سِحرية فتسايره بتلهف وتشوق، كأنك عانيت من صابها ما عانَى وذقت من رحيقها ما ذاق.
“وإحساس أحمد حسنين يصل به إلى تذوق جميع الألوان، هو إحساس رجل سليم يرى ويسمع ويذوق بقوة وعنف، وكأنه طفلٌ يطَّلع أول مرة على غرائب الوجود تقدَّم إليه المائدة وهو في البادية فيُقبل عليها إقبال البدوي الغرثان، وينص على أنه أكل بشهية، ثم يصف ألوان الطعام بإسهاب، وذلك لا يقع إلا من رجل مدَّرع بالعافية ويدرس الوجوه باهتمام شديد، حتى جاز أن يحكم لفتاة بالجمال، ولم ترها عيناه، لأنه لاحظَ أن أخاها جميل ويدرس عواطف أصحابه بمهارة وحذق فيعرف ما يطوون في صدورهم من لواعج وأشجان، ثم يمضي فيتعقب ما بينهم وبين نسائهم من كدر أو صفاء، وهذا التطلع لا يقع إلا من رجل متشوف إلى درس الغرائز والطباع وهل ننسى حديث (السبحة) في ساعة أُنْس؟”
“وأحمد حسنين لا ينسى تسجيل ما مرّ به من عواطف، كأن ينص على أنه استيقظ في أعقاب حُلمٍ رائع على وجه فتاة حسناء، وكأن ينص على أنه كان يتلبّث في بعض المواطن ليزوّد قلبه وعينيه بأطايب الجمال وجملة القول إن أحمد حسنين شاعرٌ وصَّاف: هو يحدِّق في كل شيء، وهو يصف كل ما يراه وصفاً يشهد بأنه مفطور على قوة الإحساس.
” إن أحمد حسنين صوَّر نفسه في كتابه بصورة الرجل الممتحَن بهوى الصحراء، ولو قال له الغادون: ما تشتهي؟ لقال: أعود!! كما عبر الشريف الرضي عند فراق بغداد وهنالك صورة أبدع وأروع، هي صورة العالم الحصيف الذي أباحه العلم ما لا يباح من هتك أسرار الصحراء هنالك أحمد حسنين الذي يتمارض ليخلو إلى أجهزته العلمية في غفوة الليل، هنالك الباحث المستقصي الذي يدوِّن كل ما يرى وما يسمع وما يذوق بلا تأجيل ولا تسويف. . .هنالك الرجل الذي يرصد الشمس من وقت إلى وقت ليمُدّ العِلم بزادٍ جديد هنالك الوطني الغيور الذي ينص على قيمة بعض الواحات من الوجهة الحربية هنالك المفكر الذي يشرح ما في الصحراء الغربية من مذاهب وآراء”.
ويشير الدكتور زكي مبارك في نقده إلى أن المقدمة التي كتبها أحمد لطفي باشا السيد تتضمن معلومات مهمة كلمة مهمة عن ارتياد تلك الصحراء في عهد القراعين.
مكانته في المجتمع الرسمي
وقد وجدتُ طريقة جيّدة من الطرق الكفيلة بتصوير مكانة أحمد حسنين باشا في المجتمع الرسمي المصري قبل وصوله إلى رئاسة الديوان، وهي تحديد مكانه البروتوكولي من خلال تاريخ حصوله علي الباشوية، ففي قائمة الباشوات أنه حصل على هذه الرتبة العالية في 8 أغسطس 1936 وأنه كان في ذلك الوقت وزيراً مفوضاً وفي تلك القائمة نجد عدداً من وزراء الوفد لم يحصلوا على هذه الرتبة إلّا في 19 مايو 1936 أي قبل حسنين باشا بأقل من ثلاثة شهور ، وقد صادف هذا التاريخ تشكيل وزارة النحاس باشا الثالثة التي جاءت نتيجة فوز الوفد في الانتخابات البرلمانية التي أُجريَتْ 1936.
وهؤلاء الوزراء هم:
واصف بطرس غالي باشا (الذي كان قد تولي الوزارة لأول مرة في 1924)
مكرم عبيد باشا (الذي تولي الوزارة لأول مرة في 1928)
محمود فهمي النقراشي باشا (الذي كان تولي الوزارة لأول مرة في 1930)
ثم أربعة كان هذا أوّلُ عهدهم بالوزارة وهم:
محمود غالب باشا
علي زكي العرابي باشا
عبد السلام فهمي جمعة باشا
أحمد حمدي سيف النصر باشا
ونحن نعرف أن النقراشي من مواليد 1888 ومكرم عبيد من مواليد 1889 وهكذا فإن أحمد حسنين المولود في 1889 لحق بأنداده في السن الذي كانوا سبقوه إلى الوزارة، وإلى الباشوية أيضا.
●
لكن زواج أحمد حسنين باشا من ابنة الأميرة شويكار لم يكن له أي اثر تاريخي اذا ما قورن بما هو معروف و مذكور في كثير من المصادر التاريخية من أنه تزوج من الملكة نازلي بعد وفاة الملك فؤاد، ومع أن الزواج كان شرعيا و موثقا فإنه لم يكن علنيا، بيد أنه لم يكن سريا ، و إنما كان في منزلة بين المنزلتين ، وقد كانت لعلاقته بالملكة نازلي أصداء كثيرة في حياة الملك فاروق مع اختلاف زاوية الرؤية، فبعض الكتاب يري أن إخلاصه لفاروق كان صدي لعلاقته بأمه، والبعض الآخر يري أن فاروقا لم يكن ليستريح إلى زوج أمه، ولم يكن بالتالي يحبه.. وإن كان يعمل له حسابا أو يخشاه.
حياته الاجتماعية والفنية
وعلى مستوي الحياة الاجتماعية عُرف عن أحمد حسنين باشا كثير من علاقاته الوثيقة بالفنانين، وقد كان صديقا أثيرا لسليمان نجيب، ونجيب الريحاني وغيرهما من أعلام الفن.
ويروي أنه أحب الفنانة أسمهان التي عرفها لأول مرة عن طريق الأستاذ محمد التابعي في حفل ببيته في فبراير 1940، وكان بين المدعوين المطرب محمد عبد الوهاب أيضا، لكنه فيما يروي اضطر أن يقتصد في إعجابه بأسمهان من أجل الحفاظ على علاقته بالملكة نازلي، ويروي أنه اقترح عليها غناء قصائد القارئ العظيم الشيخ علي محمود قائلا لها: «إنك تغني قصيدة «يا نسيم الصبا» خيرا مما يغنيها الشيخ علي محمود نفسه، وغنتها أسمهان. وهكذا كانت الذائقة الفنية لرئيس الديوان الملكي تشارك في صنع الفن.
أما علاقته بالصحافة فكانت وثيقة ومتشعبة،
وفاته
توفي أحمد حسنين باشا في سنة 1946، بعد وفاة غريمه أمين عثمان باشا، وكانت وفاته فجأة في حادث سيارة حين اصطدمت به إحدى السيارات التابعة للجيش البريطاني على كوبري قصر النيل.. وتوفي في الحال، ونقلت جثته إلى بيته، وذهب الملك فاروق بنفسه إلى بيته حيث ألقي عليه نظرة الوداع، وقد كان بيته الأخير قصراً في ميدان المساحة بالدقي. وقد منح اسمه قلادة فؤاد الأول مما سمح بتشييع جنازته عسكرياً.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا