الرئيسية / المكتبة الصحفية / أحمد أبو الغيط.. عازف لكنه لا يصنع الالحان

أحمد أبو الغيط.. عازف لكنه لا يصنع الالحان

أبدأ حديثي عن مذكرات الوزير أحمد أبو الغيط بالاعتراف بما اعتراني طيلة العيش معها من الشعور المتكرر بالانقباض، ولهذا قصة قصيرة قديمة لا بد منها، فقد كان واحد من أساتذتنا الكبار في الطب إذا أراد أن ينتشل احداً من تلاميذه من أحلام اليقظة قال له: احذر يا بني أن تكون من نموذج النائب الممتاز الذي يترقى حتى يُصبح أستاذاً عادياً، وكان يضرب كثيرا من الأمثلة من زملائه من أساتذة الطب ممّن كان نجمهم في شبابهم المبكر مُبشّراً بأكثر ممّا وصلوا إليه، وكان أستاذنا مُغرماً بأن يُعدّد ويدرس أسباب الانحدار في المستوى الذي يُصادفه من كان مُحبوهم يتمنون لهم مزيداً من التألق، وكان في مقدمة هذه الأسباب الاكتفاء أي ان يكتفي المعيد الواعد بنجاحه المُبكر في بداياته عن أن يستمر في النجاح مُفضلا أن يلتفت إلى ما يصادفه مما هو مؤهل له المادة أو الوجاهة أو السلطة أو النفوذ من دون أن يُنمّي من مُستواه العلمي والمهني والفكري بما يتناسب مع تألقه المُبكر ومع خبرته القادمة.

كان السبب الثاني الذي يلفت أستاذنا نظرنا إليه هو اليأس حين تُجهض الأحلام الباكرة فيتحوّل صاحب الأحلام إلى إجهاض فكرة القدرة على الحلم فيجهض هذه القدرة نفسها كنتيجة لإجهاض حلم واحد وهكذا يمضي مثل هذا الرجل مُتحولا إلى ما هو ممكن من المكاسب بدلا مما هو منشود من الأمجاد.

أما السبب الثالث الذي كان أستاذنا يلفت نظرنا إليه فهو الغواية حين يستجيب الطبيب لغوايات الحب والعاطفة، أو اللذة والإدمان، أو القوة والتأثير، فيُغدي عناصر هذه الغوايات بما تستحقه من حياته وذاته باذلاً فيها الجهد بدلاً من أن يُعنى بما رُزق من موهبة وكفاءة تنتظران التغذية والتنمية والترقي والإرتقاء.


أقفز لأقول بكلّ صراحة إن أستاذنا لو كان على قيد الحياة، ورويت له قصة أحمد أبو الغيط لأضاف على طريقته سبباً رابعاً لفشل الأستاذ في أن يُحقّق في الأستاذية مجداً يُوازي ما كان حقّقه في بداية حياته.. وكان استاذنا على طريقة الأطباء حريا بأن يُسمي هذا السبب الرابع بظاهرة أحمد أبو الغيط وذلك على طريقة العلماء الكبار في تسمية بعض الظواهر الطبية بأسماء المُصابين بها أو الذين اكتشف العلماء الباحثون الظاهرة الطبية في تاريخهم المرضي المُتاح امامهم بالتحليلات والفحوص والسجلات.

نعم فقد كان أحمد أبو الغيط حين بدأ خطواته الأولى في سلك الدبلوماسية أقوى بكثير من أحمد أبو الغيط وهو يُودّع وزارة الخارجية في مارس 2011 بعد أن قامت ثورة يناير 2011. ولست أتجنّى بهذا الحكم على أحمد أبو الغيط بل إنني ربما أروّع القارئ بأن أذكر له أن أحمد أبو الغيط كتب كتاب مذكراته الضخم الفخم وكأنه ما كتبها إلا لا واحد، هوأن يُثبت هذه الحقيقة التي جاءت ساطعة ناصعة في كلّ صفحة من صفحات كتابه، حتى إنه اضطر نفسه إلى أن يلجأ إلى منهج لم يلجأ إليه أيُّ مؤلف ولا أيُّ صاحب مذكرات من قبل بأن يروي لنا ما كان قد كتبه في مذكراته عن يوم ما في شهر ما في سنة ما، ثم بعد أن ينقل لنا بعض ما كتبه في مخطوطاته القديمة، فإنه يروي رأيه الجديد فيما كان هو نفسه قد ارتآه في ذلك اليوم العتيق .

قلت لنفسي: ليت أحمد أبو الغيط نشر مذكراته القديمة في أعلى الصفحة ثم جعل لها هوامش شارحة ومعلقة في الجزء الأسفل والأكبر من الصفحة حيث يُحدثنا عما يتذكره اليوم بعدما حدثنا عما كان يتصوره بالأمس.
قلت لنفسي: ليت أحمد أبو الغيط فعل هذا.. لكنه لم يفعل هذا لأنه كان أحمد أبو الغيط وليت أحمد أبو الغيط اقتصر فيما سجّله من المذكرات على الجديد فقط لكان قد قدم شيئا قيما جميلا.
قلت لنفسي: ليته اقتصر على القديم فقط من دون هوامش ولا تعليقات لقدّم شيئاً رائعاً مُتميّزاً.

أما ما فعله أحمد أبو الغيط في مذكراته فهو أنه شوش على الشاب الواعد أحمد بأحمد الشيخ القاعد، كما أنه من ناحية ٍأخرى، قلّل من جُهد الشيخ الحكيم برواية لمحات ذكاء الشاب المُنطلق. بدأت معرفتي باسم أحمد أبو الغيط ومكانته من حديث الأستاذ فتحي رضوان الذي كان صهراً للسفير كمال الدين صلاح والد زوجة أحمد أبو الغيط، وبفضل وجود فتحي رضوان في السلطة في أول عهد الثورة فإن العسكريين على غير عادتهم كرّموا اسم الشهيد السفير كمال الدين صلاح الذي استشهد وهو يؤدي دوراً دبلوماسيا في الصومال بأن أطلقوا اسمه على هذا النفق الجميل الذي يعبر فوقه كوبري قصر النيل حيث يصل إلى ميدان التحرير، كنا ونحن صبية نقرأ هذا الإسم على لافتة جدران النفق ولا نعرف من هو كمال الدين صلاح إلى ان جاء فتحي رضوان على ذكره في مذكرات له، وسألته عنه، وكان من ضمن ما رواه له أنه والد زوجة أحمد أبو الغيط الشاب الواعد في ذلك الوقت.

وما هي إلا سنوات قليلة ونشر محمد إبراهيم كامل مذكراته التي نشرها الأهالي في كتاب الأهالي بمقدمة خطابية لا يمكن وصفها بأقل منها “مروعة” للأستاذ فتحي رضوان نفسه وهي المذكرات التي تحدث فيها محمد إبراهيم كامل باعتزاز عن أحمد أبو الغيط، فلما تدارستها في كتابي “من أجل السلام” كُنت حريصاً على إثبات ما لاحظته من أن السفير محمد إبراهيم كامل كرّر الثناء على أحمد أبو الغيط بنفس الوصف، وهو أنه يصلح لكل المواقف، في ثلاثة مواضع،.


هكذا كانت صورة أحمد أبو الغيط الذي استحوذ على ثقة كاملة من أربعة على الأقل من الوزراء المُتعاقبين للخارجية والشئون الخارجية، فكان يداً يُمنى أو إصبعا من اليد اليمنى للدكتور أحمد عصمت عبد المجيد ومحمد إبراهيم كامل وكمال حسن علي ومحمد حافظ إسماعيل في مراحل مختلفة من حياته. ولهذا السبب ولأسباب أخرى كثيرة كُنت وكما هو مثبت في لقاءات صحفية في 2001 أرشح اسمه ليخلُف عمرو موسى في منصب وزير الخارجية بيد أنه لم يخلُفه مباشرة وإنما خلفه بعد صديقهما المشترك أحمد ماهر الذي تولى الخارجية من 2001 ـ 2004.

وهنا أقول بكلّ صراحة إن أبو الغيط كان مرشحاً لنجاح أكبر لو كان تولى الخارجية في 1991 حين شارف الخمسين ولنجاح كبير لو تولاها في 2001 لكنه أصبح مرشحاً لهذا النجاح المحدود الذي حقّقه حين تولاها في 2004 ودليلي على هذا هو مذكرات احمد أبو الغيط نفسه، فقد كتب هذه المذكرات ليقول بكلّ وضوح إنه كان قادراً على نجاح أكبر لو أنه كان قد وصل على المسئولية الكبرى مُبكراً لكنه أثقل نفسه بإحباط السنوات بأكثر مما أثقلها بخبرات هذه السنوات، وأثقل كاهله بفشل الآخرين الذي لم يكن مسئولاً عنه، وآثر أن يكون وهو في سن الستين وما بعدها وحتى السبعين شبيهاً بالأستاذ محمد القصبجي حين رضي من صحبة أم كلثوم بأن يكون عازفاً على العود فحسب، ولم يشغل باله بأن يصنع من كانت قادرة على أن تنافس أم كلثوم في ميدان ما، بعدما كان هو الملحن الذي وصلت معه إلى أول القمم العالية التي وصلت إليها.. أما أبو الغيط فإنه بقي عازفاً جيداً أو متميّزاً لكنه لم يصل حتى الآن إلى أن يكون ملحنا من أي طبقة، مع أنه كان في وسعه عن حق أن يصل إلى ما لم يصل إليه أسلافه بدءاً من الدكتور محمد فوزي وحتى أحمد ماهر، ذلك أن أحمد أبو الغيط تولى منصبه في سنوات الإعلام الهادر التي كانت كفيلة لألحانه بالعزف على نطاق عالمي لو أنه لحنها.. لكنه لسبب لا نعرفه آثر ألا يلحن واكتفى بالعزف.

تسألني على أية آلة عزف أبو الغيط فأقول لك إنه اختار أن يعزف على الساكسفون بما تتميّز به هذه الآلة من رتابة مريحة لكنها ليست مثيرة للأحاسيس ولا للانفعالات إلا أن يصحبها عزف حاكم من آلات أخرى، وهذا هو أدق تشخيص لما قدّمه أحمد أبو الغيط مع أنه كان بوسعه أن يستلهم تجارب أسلافه وأقاربه على نحو يهُزُّ الدنيا بألحان رائدة ومُبتكرة لرجل كانت كلّ الظروف تخدُمه لكنه أبى أن يخدُم نفسه. إذا قلت لي إن الظروف كانت أقوى منه فقد شاركتني الرأي دون أن تدري أنك شاركتني الرأي.

بقي أن نذكر لأبو الغيط قُدرة فائقة على الإنصاف حين يُريد أن يُنصف، فهو يملك من أدوات الإنصاف الكثير: العقل والتعقُّل والنية والتدليل والمعرفة والمنطق، لكننا لا نستطيع أن نقف عند حدود الإشارة بإنصافه من دون أن نُشير إلى أنه فيما كتب قد بدأ يُعاني إجهادات الذاكرة بصورها المُتعدّدة فهو يتحدث عن الدكتور مصطفى خليل في أكثر من موضع بينما هو بحديثه يقصد الدكتور عزيز صدقي، ومن الطريف أيضا أنه حين يريد أن يتذكر اسم قائد الجيش الثاني الذي خلف سعد مأمون في اثناء حرب أكتوبر فإنه يُسميه سعد خليل وهو يقصد عبد المنعم خليل، وقد جاءه اللبس بالطبع من أن عبد المنعم خليل كان يشترك في اسمه الأول مع قائد الجيش الثالث عبد المنعم واصل وهكذا فإن الذاكرة المكدودة جعلته يشترك في الاسم الأول مع قائد الجيش الثاني سعد مأمون ومن ثم يُصبح سعد خليل، وقل مثل هذا في كثير من الوظائف التي يصف بها أبو الغيط أصحابها في 1973 بينما كانت هي وظيفتهم في 1963 وكانوا قد أصبحوا في وظيفة أخرى في 1973 كمثل الدكتور محمود فوزي الذي كان نائبا لرئيس الجمهورية (1972 ـ 1974) بينما تحدث عنه أبو الغيط على أنه وزير الخارجية بينما كان قد ترك هذا المنصب منذ 1964.. وقل من مثل هذا الكثير.

 

 

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com