من حقائق تاريخنا الحديث غير المشهورة وغير المنكورة أيضا، أن الخديو عباس حلمي الثاني 1874- 1944 كان أكثر حكام العصر الحديث في مصر علاقة بالبنية الأساسية والإصلاحات الهندسية المدنية متفوٌقا بهذا من الناحية النوعية والنسبية على الحاكمين اللذين فاقاه في مدة توليهما حكم مصر، وهما جده الأكبر محمد علي باشا، والرئيس حسني مبارك، كما أنه تفوق على جده المباشر الخديو إسماعيل الذي ترك بصمات بارزة لا يمكن إنكارها من حيث التحديث والمدنية.
وباختصار شديد كفيل بأن يفتح الأبواب لمزيد من البحث والدراسة، فإن الخديو عباس حلمي الثاني الذي حكم مصر 22 عاما ما بين 1892 و1914 نجح في إنفاذ وإنجاز كثير من المشروعات الهندسية الناجحة، كما نجح فيما لم ينجح فيه غيره بذات القدر من وضع قدم مصر على بساط دولة المؤسسات الحديثة الكفيلة بإنجاز المشروعات وتسييرها بعيدا عن مركزية الدولة أو الجيش، ولم يكن هذا الإنجاز الذي مضى فيه الخديو عباس حلمي الثاني خطوات واسعة بالأمر الهين لا في عصره، ولا حتى فيما بعد عصره، ومن المؤكد أن هناك مجموعة من العوامل تضافرت في مساعدته على هذا الإنجاز.
وتأتي في مقدمة هذه العوامل: شباب الخديو حين تولى الحكم، وثقافته، وعقليته المتأثرة بأسلوب المدرستين الحضاريتين الألمانية والنمساوية التي فتح عينيه عليهما، وطموحه الذي لم يقف عند حدود ما أنجزه أسلافه، وما وفرته له ثروة بلاده من قدرة على الحركة. ساعدت كل هذه العوامل الخديو عباس حلمي الثاني على أن يمضي في سبيل الإنجاز “المدني” بالمعنييْن المعروفيْن لمصطلح المدني، ومن الطريف أنهما معنيان متٌصلان على الرغم من الاعتقاد في تباعدهما، فالمدني الهندسي مرتبط تمام الارتباط بالمدني الاجتماعي / السياسي الذي يوظف الديموقراطية في قيادة حركة المجتمع بدلا من الاعتماد التام على حصرية السلطة أو على أبوتها، وهو الإنجاز الذي لا يمكن تحقيقه من دون أن يكون المجتمع نفسه قد استوفى من إنجازات تسيير الحياة اليومية ما يكفل سلاسة الحكم والاتصال بين الحاكم والمحكوم كما يكفل هذه السلاسة بين الراغب في تولي المسئولية والقوى المحددة لمن يتولاها وهى قوى الشعب والمجتمع (المدني) بطريقة أو بأخرى.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد تأسست جامعة القاهرة، وبدأت عملها في عهده 1908 كما أنه هو أول من وضع منذ 1895 خطة شاملة لترميم آثار مصر الإسلامية وبدأ بهذا في جامع السلطان حسن ومسجد عمرو بن العاص ومسجد ابن طولون، وهو الذي أنشأ وافتتح محطة رمسيس للسكك الحديدية بكل جمالها، والمتحف المصري، ومتحف الفن الإسلامي، وكوبري إمبابة، وكوبري أبو العلا، وكوبري الملك الصالح، وكوبري عباس، وكوبري الجلاء، وقصر المنتزة، وفي عهده شيدت قناطر أسيوط، وقناطر إسنا، وخزان أسوان، المعروف بأنه سد أسوان القديم تمييزا له عن السد العالي، وهو الذي افتتح شبكة خطوط ترام القاهرة سنة 1896..الخ.
والشاهد أنه يمكن لنا أن نقرأ تاريخ عهد الخديو عباس حلمي الثاني قراءة جديدة من خلال أحداث متعاقبة وقضايا ووقائع توالت على مصر في عهده، وكشفت كل قضية منها على قدرة مصر وحاكمها على الإسهام في حركة التاريخ الإقليمي، ونكاد نلاحظ في هذه القضايا المتعاقبة أنها لم تنتظم في مسبحة واحدة مسيطرة عليها كأن نقول إنها كانت في سبيل الاستقلال الوطني أو الخلاص من المستعمر البريطاني أو التوجه نحو الديموقراطية والدستور.. الخ، وإنما كانت هذه القضايا قد انتهت إلى حلول وسطى، وحلول توفيقية بدأت على يد الخديو إسماعيل ثم الخديو توفيق ودخول الاحتلال البريطاني في 1882 وبقاء السلطة العثمانية على الرغم من وجود الاحتلال مع وجود أشكال من الحكم الذاتي والمشاركة الديموقراطية والتمثيل النيابي المحدود والتأثير المتصاعد للصحافة والثقافة العام والحفاظ على مناخ يتمتع بهامش من الحرية يفوق ما كان مُتاحا في إسطنبول وفي بلاد الشام وفي بعض البلاد الأوروبية وهو ما جعل القاهرة بمثابة ملاذ آمن للباحثين عن حرية الرأي والفكر والإبداع مع ازدهار نسبي في دور الأزهر والمدارس العليا التي نشأت معتمدة على بيئته، وبدء عهد من الموسوعية العربية المرتبطة بتراث عريض من الفكر العربي، وباقتباسات غير محدودة من التقدم الذي أحرزه عصر النهضة في أوروبا ولم تتردد مصر في استقباله وترجمته ونقده والبناء عليه.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا