العناية بالمذكر والمؤنث خاصة بارزة من جماليات اللغة، أيّ لغة، وليست هناك لغة لا تُعنى بالمكر والمؤنث على نحو ما، فإنه لم يكن في جنس العلم أو الاسم ففي الضمائر والأفعال، ويصل الحال باللغة الألمانية إلى فكرة المحايد (كبديل ثالث) للخروج من الاقتصار على ثنائية المذكر والمؤنث، والمحايد موجود في اللغة العربية من دون نص على أنه المحايد الألماني، كما أنه موجود في اللغة الإنجليزية باعتباره الأغلب، أي الأكثر تواتراً، ومن الطريف أنه موجود أيضا بطريقة أخرى في اللغة الفرنسية وهو القول بأنه يصلح مذكراً ومؤنثاً حتى إن بعض الأعلام الفرنسية تصلح للذكور والإناث، ومن الطريف في هذا المقام أنني حين أصادف اسماً لعلم فرنسي من الزملاء يجوز عليه التذكير والتأنيث أراوح بين حيل مختلفة لتحديد جنس الشخص حتى لا أقول إن “الأنثى كتب” أو إن “المذكر كتب”، ومن هذه الحيل البحث عن صورة العلم، أو عن نص يتحدث عنه إلى أن أجد ضمير المذكر أو المؤنث في سياق الحديث.
هنا ينبغي لنا أن نذكر بكل وضوح أن المؤسسة المصرية الرائدة في حل هذه المشكلة هي كلية طب قصر العيني التي تلتزم في كشوف أعضاء هيئات التدريس بها بأن تأتي إلى الأسماء المشتركة بين المؤنث والمذكر وتكتب جنس صاحبها بين قوسين، وتلتزم قصر العيني منذ دخلناها طُلاباً أي منذ أكثر من أربعين عاماً بهذا بدون أي استثناء مهما كان الأستاذ مشهوراً وذلك قطعاً للشك باليقين، والمطالع لكشوف أعضاء هيئة التدريس بكلية طب القاهرة يجد هذا المعنى واضحاً كل الوضوح وكأنه جزء من الاسم، ومن توفيق الله لمن أخذوا القرار بهذا التقليد أنهم لم يأخذوا بكلمة سيد أو سيدة حتى لا يقعوا في محظور جديد هو هل هذه سيدة أم آنسة، كما أنهم لم يقعوا في “محظور” الرجل والمرأة بما تعنيه الكلمات من معان قيمية وسيكولوجية ولكنهم اعتمدوا قاعدة الفسيولوجيا الطبيعية [بكل براءة] فحسب.
من الألفاظ صيغت على وزن فاعلة للتدليل على التمادي في الفعل المؤثم وأبرزها كلمة “الطاغية” التي تدل على الحاكم الذي بلغ الذروة في الطغيان بينما مذكرها لا يدل إلا على طغيان محدود
لا نريد للاستطرادات العلمية أن تأخذنا أبعد من هذا في موضوع المذكر والمؤنث من وجهة النظر اللغوية والعلمية والتاريخية لكننا بعد هذه المقدمات السريعة نستطيع أن ندخل إلى موضوع المفارقة التي نتحدث عنها في مدونتنا اليوم وهو أن أكاديمية اللغة الفرنسية (مجمع الخالدين الفرنسي) حتى الآن لا توافق على أن تؤنث الوظائف فلا يجوز لك أن تقول أستاذة القانون ولا مديرة المدرسة ولا رئيسة اللجنة. ومن الطريف الذي هو من الإنصاف في الوقت نفسه أن ننظر إلى هذا المعنى على أنه لا يصدر عن تحيّز ضد المؤنث وإنما هو قمة الحرص على حق المؤنث، بأن يكون له نفس اللقب الذي للذكر، فالأستاذ أستاذ ذكراً كان أم أنثى وهكذا.
أما الأكثر طرافة من هذا فإن اللغة العربية تؤيد اللغة الفرنسية في هذا المنحى إلى حد كبير، وتُقدم أسباباً مختلفة لحرصها على إبقاء ألفاظ الوظائف في صيغة المذكر وذلك من قبيل “التغليب” والتمهيد للجمع.. الخ والذين يطالعون شرح حديث مسلم للنووي يجدونه يثبت في هامش من هوامشه أن الخادم يطلق على الجارية كما يطلق على الرجل، ولا تقال خادمة إلا في لغة شاذة قليلة. لكن المفاجأة الكبرى تكمن في أن أعظم ألقاب المهن العربية صيغت بتاء التأنيث، وذلك من باب التكريم والتعظيم والتبجيل أو التدليل، ولن أفيض في ذكر التحليل النفسي لهذا التوجه اللغوي العربي وإنما سأكتفي بأن أبدأ بذكر الأمثلة الدالة عليه التي توضح لنا صواب ما نذهب إليه من عناية اللغة العربية بإعطاء تاء التأنيث حظوظا من التدليل والتفخيم والتبجيل.
– أول هذه الوظائف هي وظيفة “العمدة” سواء في ذلك العمدة الإداري في القرية والمدينة أو عمدة العلم أو الفن حين نقول هو عمدة المؤرخين وعمدة المحققين وعمدة النقاد ، ومن الطريف أن لفظ العمدة الذي يدل على عمدة المدينة والقرية وما إلى ذلك امتد عند المصريين البسطاء في لغتهم الدارجة حتى أطلقوه على المعتمد البريطاني أو المندوب السامي البريطاني الذي كان يتصرف في أمور مصر باسم الإمبراطورية البريطانية، ويحتفظ الفلكلور المصري بالأغنية التي شاعت في الحرب العالمية الأولى التي تقول عن الخديو عباس الذي عزله الإنجليز: الله حي.. عباس جي.. ضرب البمبة في دار العمدة وهو جايّ.. (البمبة أي القنبلة)
– ننتقل إلى الألفاظ التي اخذت من صيغ المبالغة التي فضلت التأنيث على التذكير للدلالة على أقصى درجات الرقي والتمكن وذلك من قبيل العلامة، والفهامة، والبحاثة، والرحالة.. فالعلامة هو أعلم العلماء والفهامة هو أذكى الفاهمين البحاثة هو أول الباحثين. ونحن نرى هذه الألفاظ تصف علماء العربية في القرون الوسطى من دون أن يعترض أحد على اختيار الصيغة المؤنثة لها.
– ثالث هذه المجموعة من الألفاظ ليست من صيغ المبالغة لكنها اختيرت من الأساس لتكون دليلاً على القمة المرجعية وأشهر هذه الألفاظ هي “حُجة” التي تدل على المرجع الأعلى بين مراجع متعددين فالعالم يرتقي ليكون علاّمة ثم ليكون مرجعا ثم ليكون حُجة.
– رابع هذه المجموعة من الألفاظ صيغت على وزن فاعلة للتدليل على التمادي في الفعل المؤثم وأبرزها كلمة “الطاغية” التي تدل على الحاكم الذي بلغ الذروة في الطغيان بينما مذكرها لا يدل إلا على طغيان محدود، ومن الطريف أننا نجد من هذا الوزن لفظ الراوية الذي يُطلق على أفضل رواة الحديث أو الشعر أو القصص.
– خامس هذه المجموعة من ألفاظ الوظائف تتعلق بالماديات والرياضيات والكميات المقيسة، فلا تُصاغ في صيغة المذكر وإنما اختارت لها اللغة العربية صيغة المؤنث حين عبرت عن معاني الذروة، والقمة مع أن المعنى لا يرتبط بالتأنيث من قريب ولا من بعيد، ومع أن هذا المعنى في أغلب اللغات الأوروبية مرتبط بالتذكير.
– سادس هذه المجموعة يرتبط بالكيانات الحاكمة نفسها فإننا نقول مملكة للدلالة على الوطن المحكوم بالملكية وجمهورية للدلالة على الوطن المحكوم بالنظام الجمهوري بل إننا نقول دولة وإمارة وسلطنة والأكثر من هذا مدعاة للتأمل أننا نقول حكومة ونقول سلطة ونقول هيئة ونقول لجنة، ولا نلجأ على الإطلاق إلى بدائل مذكرة من هذه الأسماء.
– سابع هذه الحالات يدلنا على أسماء معنوية من قبيل الأيقونة والتميمة وليس للمذكر فيها حظ، هذا والله سبحانه وتعالى أعلم.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا