كان الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف (1888 ـ 1956) واحدا من أبرز الفقهاء المجددين والمجتهدين في الشريعة الإسلامية، كان في حياته ملء الأسماع والأبصار. و كان واحدا من الذين بنوا ملامح الصرح العلمي القوى لمصر في حقبة الليبرالية ، حتى إنك تستطيع أن تقول إنه هو الذي شق للفقهاء من أمثاله و تلاميذه طريقهم للوجود في الإذاعة والإعلام والحياة العامة والثقافية ورسم ملامح هذا الوجود بأدائه المتميز الذي عرف مناطق الحاجة ومناطق التفوق ، وقد كان ابرز من خاطبوا الجمهور من خلال الراديو عند نشأة الإذاعة ثم كان هو نفسه نجم الحياة العامة والمواسم الثقافية مع تميز بارز في نجوميته وأدائه إلى الحذ الذي جعل مثقفا كبيرا كالأستاذ أنيس منصور فيما نقله عنه الأستاذ محمد السيد أبو ريان يقول في جريدة الأهرام، 2010 ” كنت أقول ولا أزال إن في مصر أربعة يحببونك في اللغة العربية : طه حسين وفاروق شوشة والشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ محمد رفعت”
وكان الشيخ عبد الوهاب خلاف أبرز الفقهاء والقانونيين ممَنْ رزقوا أسلوب البيان الرائع، وقد روى الذين عاصروه أن أسلوبه في المحاضرة كان كما كان أسلوبه في التأليف واضحا مبينا. وقد كان الشيخ عبد الوهاب خلاف محبا للأدب والكتابة، ولم يكن حبه للأدب إلا صورة من صور تفوقه في البيان العربي في كل ما تناوله من علوم القانون والاجتماع.
وقد أتيح للشيخ عبد الوهاب خلاف كما أشرنا أن يكون من أبرز مَنْ شاركوا في برامج الإذاعة منذ عهدها المبكر وألقى مجموعة من الأحاديث في مختلف الموضوعات العلمية والاجتماعية والدينية، وأخصها «من قصص القرآن»، أما أحاديثه الدينية فقد وصفت عن حق بأنها اتسمت بالتجديد والرشد، وكذلك ألقى مجموعة من المحاضرات في المناسبات الدينية والاجتماعية، ولايزال بعض تسجيلات هذه الأحاديث يذاع حتى الآن.
تولى الشيخ عبد الوهاب خلاف الأستاذية في مرحلتين من حياته، فقد بدأ بها وانتهى إليها، وفيما بين ذلك عمل مديرا للمساجد في وزارة الأوقاف كما عمل قاضيا ومفتشا قضائيا وبهذا كان من القلائل بل النوادر الذين جمعوا الأطراف الثلاثة في ممارسة الوظائف الأزهرية محققا للمدرسة التي تخرج فيها كل ما كانت تطمح إليه على يد مؤسسيها من أن تؤدي دورا مرموقا في هذه الوظائف الثلاث فإذا بهذا الأمل يتحقق على يدي الشيخ ويتحقق فيه هو نفسه.
ترتبط سمعته الباقية بأنه كان واحدا من أبرز أساتذة الشريعة في كليات الحقوق، وهو لاحق للأستاذ أحمد بك إبراهيم (1874 ـ 1945)، وطيلة عمله أستاذًا بكلية الحقوق أتيح له أن يواصل جهد سلفه الشيخ أحمد إبراهيم في تقريب فقه الشريعة الإسلامية إلى الحقوقيين على مستوياتهم المتعددة. وقد كان أسبق في أستاذيته من اللاحقين به من أساتذة الشريعة: زميل دفعته الشيخ على الخفيف (1891 ـ 1978)، ثم الشيخ محمد أبو زهرة 1898- 1974 ومن لحقوا به.
وقد عده تلاميذه واحدا من أبرز أبناء مدرسة الشيخ محمد عبده، بل ذهبوا إلى أن تعاليم هذه المدرسة ومبادئها قد لقيت حظها من الذيوع على يديه حين كان مدرسًا بمدرسة القضاء الشرعي، ثم في كلية الحقوق، حيث خرَّج في الأولى جيلاً من القضاة الشرعيين المؤمنين بالتجديد، وأضفى روحه على تلاميذه من القضاة، و يذكر تلاميذه له أيضا أنه حين كان مديرًا للمساجد عمل على أن يكون المسجد بإمامه ونظامه عاملاً فعالاً في محاربة البدع والخرافات التي علقت بالإسلام.
●
اسمه بالكامل عبد الوهاب عبد الواحد خلاف، لكنه يعرف في الأغلب الأعم باسمه الثنائي فقط، ومن الجدير بالذكر أن شقيقه الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف كان من أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر، كان رئيس التحرير (المسؤول الرسمي) عن مجلة الثقافة 1939-1952 التي كانت تصدر عن أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر، وإن عرفت بنسبتها إلى الأستاذ أحمد أمين.
ولد الشيخ عبد الوهاب خلاف بمدينة كفر الزيات في مارس 1888 ، وتلقى تعليما دينيا تقليديا بدأه بحفظ القرآن الكريم في الكتاب ثم بالأزهر (1900)، وأكمل دراسته في مدرسة القضاء الشرعي وكان من أوائل مَنْ التحقوا بها عند تأسيسها سنة 1907 ، وقد تخرج فيها سنة 1915، ومن الجدير بالذكر أن زميله الأستاذ على الخفيف [اللاحق به في أستاذية الشريعة و في عضوية مجمع اللغة العربية ] قد تخرج أيضا في مدرسة القضاء الشرعي عام 1915 على الرغم من أنه كان يصغر الشيخ عبد الوهاب خلاف بثلاث سنوات.
عمل الشيخ عبد الوهاب خلاف مدرسًا بمدرسة القضاء الشرعي عقب تخرجه مباشرة، وبقي بها حتى اندلعت ثورة 1919 فكان من أوائل المبادرين إلى قيادتها، والمحركين لمشاعر الجماهير فيها وقد شارك في تلك الثورة بلسانه، وقلمه، لهذا فإنه أجبر على ترك مدرسة القضاء الشرعي بسبب مشاركته النشطة في الثورة، وهكذا انتقل إلى مناصب القضاء في المحاكم الشرعية (1920)، ثم عين مديرًا للمساجد بوزارة الأوقاف 1924 ثم اختير مفتشا في إدارة التفتيش للمحاكم (1931).
ثم انتدبته كلية حقوق القاهرة مدرسا بها في أوائل سنة 1934، وفى 1936 استقر به المقام عائدا إلى الأستاذية ، حيث عين أستاذا للشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة القاهرة ، وفى هذه الكلية ظهرت موهبة الشيخ عبد الوهاب خلاف العلمية، وقدرته في العلوم الشرعية، وتتلمذ على يديه عدد كبير من أبناء مصر والدول الإسلامية والعربية، واختير أيضا وكيلا للكلية وظل بالكلية حتى بلغ سن التقاعد 1948 ، و قررت الجامعة بعد إحالته للمعاش أن تمد خدمته ، ثم انتدبته الجامعة بعد ذلك للتدريس في قسم الدراسات العليا حتى أقعده المرض في عامه الأخير.
كذلك قام الشيخ عبد الوهاب خلاف في أواخر حياته بالتدريس في معهد البحوث والدراسات العربية مع زميله الأستاذ الشيخ على الخفيف الذي كان يرأس القسم في ذلك المعهد.
أشرف الشيخ عبد الوهاب خلاف خلال حياته على كثير من الرسائل العلمية الجامعية، وسافر عدة مرات إلى الأقطار العربية الشقيقة، واطلع فيها على بعض المخطوطات النادرة، فكان سفيرا ناجحا في هذه الدول لمصر.
ويذكر له في هذا الميدان أنه زار السودان (1946) وألقى عدة محاضرات بالنادي المصري في الخرطوم، وكان لزيارته ومحاضراته صدى كبير في نفوس الأشقاء بالسودان.
رأيه الذكي في سلطة الاجتهاد
كان للشيخ عبد الوهاب خلاف رأى ذكي في قضية الاجتهاد ما بين فتح بابه وقفل بابه، وقد انتهى إلى رأى جميل وازن بين فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ودون أهلية لمن يقوم به، وبين إغلاق باب الاجتهاد في كل مسألة معاصرة تستدعيها الحوادث والتطورات، وقد لخص رأيه في قوله:
«والرأي السديد أن يسد باب الاجتهاد للأفراد، ويفتح بابه للجماعة التشريعية التي تختار أفرادها من خيرة رجال العلم والدين والقانون والاقتصاد، لتختار هذه الجماعة من مذاهب المسلمين ما هو أوفق لحاجتهم، وأوفى بتحقيق مصالحهم».
وفي هذا المقام، فاني أحب أن أشير إلى أن تأصل الفكرة الأكاديمية أو المجمعية ودورها كان هو السبب المباشر في هذه الرؤية ، وقد تحقق هذا النمط الفكري للشيخ عبد الوهاب خلاف كما تحقق لزميله الشيخ محمود شلتوت 1893- 1963 من خلال ممارستهما لعضوية مجمع اللغة العربية ، وقد اختيرا معا لعضويته مع الدكتور عبد الرزاق السنهوري في 1946 ، وعملهما من قبل ذلك في هيئات التدريس الجامعية ، حيث تطرح الاجتهادات للفلترة و والصياغة والتقطير على يد جماعة العلماء فيصلون بالفكرة إلى افضل صورها من حيث الصيغة التي قادت الشيخ عبد الوهاب خلاف إلى أن يصل إلى هذه الفكرة الآمنة التي لم تحظ بالتطبيق الذكي حتى الآن ، وإن كان زميله في عضوية مجمع اللغة العربية الشيخ محمود شلتوت قد مضى بها خطوات واسعة من خلال تأسيسه لمجمع البحوث الإسلامية ، مهتديا بالكيان التنظيمي لمجمع اللغة العربية وإن لم تتحقق لذلك المجمع سلطته الروحية أو المعنوية حتى الآن .
وعلى صعيد آخر، فقد أشار الشيخ عبد الوهاب خلاف بكل وضوح إلى ضرورة التجديد، مقارنة بخطورة التوجه نحو حصر الذهن فيما انتهت إليه اجتهادات السابقين فقال:
«.. لكن الدستور الذي يرجعون إليه هو استنباطات المجتهدين السابقين التي استنبطوها لعصرهم في مصالحهم، فإذا أريد معرفة حكم نوع من الشركات أو المعاملات رجعوا إلى عبارة المتن أو الشرح، وحكموا بإشارتها أو بالقياس علىها، ولاريب في أن تطبيق هذه الأحكام الجزئية في غير عصرها وفى غير بيئتها لا يتفق والمصالح، ولا يساير التطورات».
على هذا النحو نستطيع أن نفهم من هذه المعاني توجه الشيخ عبد الوهاب خلاف إلى استئناف جهد الشيخ محمد عبده، وقد أشرت من قبل إلى أن العلماء والمعاصرين للشيخ عبد الوهاب خلاف كانوا ينظرون إليه اعلى أنه واحد من مدرسة التجديد، التي كان رأسها هو الشيخ محمد عبده، وأنه هو استمرّ بهذا النهج ذاته في أثناء عمله في مدرسة القضاء الشرعي التي كان الشيخ محمد عبده من الداعين إلى نشأتها لتجمع في مناهجها الدراسية بين معطيات العلوم الشرعية ومتطلبات العلوم العصرية من قوانين معاصرة وإجراءات قضائية بيروقراطية.
●
أعتقد أن مجموعة محاضرات الشيخ عبد الوهاب خلاف عن «مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه»، هي أشهر الآثار العلمية للأستاذ خلاف، وقد ألقاها الشيخ وهو في قمة نضجه الفكري على طلبة قسم الدراسات العربية العليا في سنتي 1953 و1954.
وفى تقديمه لهذه المحاضرات، أجمل الشيخ عبد الوهاب خلاف أغراضه التي رمى إليها، فقال:
«وأهم الأغراض التي أهدف إليها ثلاثة:
أولها أن أحكام الفقه الإسلامي لم تقف عند الأحكام التي وردت بها النصوص التشريعية في القرآن والسنّة، ولا عند الأحكام التي استنبطها الأئمة المجتهدون السابقون، بل إن لها معينا لا ينضب، ومدادا لا ينفد، وهو الطرق التي مهدها الشرع الإسلامي للاستنباط والتقنين لكل ما يحدث من الوقائع ولا نص فيه».
«وثانيها: أن المصادر التشريعية التي أرشد الشرع الإسلامي إلى استنباط الأحكام بها فيما يحدث من الوقائع مصادر مرنة وخصبة وصالحة لأن تساير مصالح الناس، وتطورات البيئات لو فهمت على الوجه الصحيح الذي يوصل إلى ما قصده الشارع بتمهيدها، وتولى الاستنباط بها جمع من ذوي المؤهلات البعيدين عن الأهواء والشهوات الذين يهدفون إلى تحقيق مصالح الناس، وتبرئة الفقه الإسلامي من تهمة الجمود والقصور».
«وثالثها: أن المصلحين المعنيين بربط الدول العربية بعدة وحدات تقرب بينهم وتجعلهم أمة واحدة، لو اتخذوا الفقه الإسلامي أساسا لوحداتهم القانونية لوجدوا من أحكامه التي وردت بها النصوص، وأحكامه التي استنبطها المجتهدون، ومصادره التشريعية الخصبة أسسا قوية لتحقيق هذه الوحدة، وسن القوانين التي تلائم البيئات العربية على اختلافها، وكانت قوانين الدول العربية من شجرة واحدة، ومعين واحد، وكانت أقوى دعامة لوحدتهم».
تأكيد فقهه على مكانة القرآن والسنة و وفائهما بمقتضيات العصر
كتب الشيخ عبد الوهاب خلاف في مجلة كنوز الفرقان:
«القرآن الكريم هو دستور المسلمين، وقانونهم الأساسي الذي يجب أن ترجع إليه حكوماتهم وأفرادهم في العقائد، والمعاملات، والأخلاق، والتشريع، والسياسة وكل شأن من شئون الدنيا والدين».
وقد أعاد الشيخ عبد الوهاب خلاف التأكيد على المعنى نفسه ببعض التفصيل في مجلة «لواء الإسلام» حيث قال «إن القرآن والسنة الصحيحة التشريعية – التي ليست زمنية- ليس فيهما ما يقف عقبة في سبيل مصالح الناس الاقتصادية؛ بل فيهما الأساس الصالح لكل تشريع مالي يساير تطورات الناس، ويحقق نفعهم، ويدفع الضر عنهم».
«مَن استقرأ تشريع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في العبادات أو المعاملات أو أي نوع من أنواع الأحكام، يتبين أنه كانت له في تشريعه خطة قويمة تقوم على عدة أسس؛
أولها: مراعاة مصالح الناس وحاجاتهم، ومسايرة هذه المصالح في تطورها وتبدلها.
وثانيها: التيسير والتخفيف واجتناب ما فيه المشقة والحرج.
وثالثها: التقليل من تشريع الأحكام، فلم يشرع رسول الله حكما لواقعة فرضية ولم يفتح لأصحابه باب السؤال عن حكم واقعة فرضية، بل كان تشريعه على قدر الحاجة.
ورابعها: المشاورة والوقوف على آراء أولي الرأي من صحابته».
رأيه في فقه الدولة في الإسلام
انظر إلى هذا النص البديع الذي كتبه الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه عن السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية حيث تحدث عن طبيعة نظام الحكم في الإسلام حديثا رائقا قاطعا، بلغة علمية عصرية مفهومة فيقول:
” اتفقت كلمة علماء القانون على أنه لا بد من تحديد علاقة القوة الحاكمة بالأمة المحكومة حتى يمكن التوفيق بين سلطان الحاكم وحرية المحكوم، ومن اختلاف هذه العلاقات اختلفت أشكال الحكومات وتنوعت إلى دستورية واستبدادية، وتعددت أشكال كل واحدة من النوعين.
والناظر في آيات الكتاب الكريم وصحاح السنة يتبين أن الحكومة الإسلامية دستورية وأن الأمر فيها ليس خاصًا بفرد وإنما هو للأمة ممثلة في أولي الحل والعقد لأن الله، سبحانه، جعل أمر المسلمين شورى بينهم، وساق (أي أورد) وصفهم بهذا مساق الأوصاف الثابتة والسجايا اللازمة، كأنه شأن الإسلام ومن مقتضياته، فقال عز من قائل في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: ٣٨].
“وأمر الرسول المعصوم أن يشاور في الأمر فقال سبحانه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: ١٥٩]، وجعل الطاعة لأولي الأمر والمرجع إليهم فقال عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩]. وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: ٨٣.]
ويؤكد الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف على فكرته الواضحة بما وجده في السنة النبوية وسلوك كبار الصحابة من مبادئ حاكمة لأسلوبهم في مقاربة الأمر:
” ووردت في السنة عدة أحاديث تدعو إلى الشورى، وكان عمله -صلي الله عليه وسلم- وسنن الراشدين من بعده على التشاور وعدم الاستقلال بالأمور”.
“وكذلك تضافرت الأدلة على أن الرياسة في الحكومة الإسلامية ليست حقًا لقريش ولا لغير قريش، لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة ما يدل على أن أمر المسلمين بعد رسول الله يكون في أسرة خاصة ولأفراد معينين، ومقتضي ترك هذا التعيين أن يكون أمر الرياسة العليا موكلًا إلى الأمة تختار له من تشاء. ورسول الله -صلي الله عليه وسلم- لم يستخلف على الناس أحدًا ولو كان الأمر وراثيًا لعهد به إلى صاحبه.
” والمسلمون لما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة على إثر وفاة الرسول واختلفوا فيمن يلي الأمر بعده، كانت حجج الفريقين المختلفين ناطقة بأنهم لا يعرفون الأمر حقًا لمعين حتى إن بعض الأنصار دعا إلى بيعة سعد بن عبادة، وبعضهم قال للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير، وأبو بكر لما حاجهم بأن الأئمة من قريش لم يحاجهم به على أنه نص من الدين ولكن على أنه نظر صحيح لما لقريش إذ ذاك من العصبية والمنعة.
” وقد بين أبو بكر نفسه وجهة هذا النظر إذ قال: “إن هذا الأمر إن تولته الأوس نفسته عليهم الخزرج وإن تولته الخزرج نفسته عليهم الأوس ولا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش” ولو كان نصًا من الدين ما خفي على جميع من كان في السقيفة من الأنصار والمهاجرين ما عدا أبا بكر، وما احتاج أبو بكر إلي حديث المنافسة بين الأوس والخزرج، وما ساغ لعمر أن يقول وهو يفكر زمن خلافته فيمن يستخلفه: “لو كان سالم مولي حذيفة حيًا لوليته” إذ كيف يولي مولي بعدما سمع في السقيفة أن الأئمة من قريش. ويؤيد هذا (الفهمَ) النصوصُ الواردة بالاعتماد على الأعمال لا على الأنساب وبالتبرؤ من عصبيته الجاهلية وبأن أكرم الناس عند الله أتقاهم.: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٧]
بعض آرائه الفقهية
كان الشيخ عبد الوهاب خلاف يرى أن الأحكام الشرعية أوسع مما تصورته كتب الفقه والقانون:
«إن نصوص القرآن والسنّة ليس فيها ما يقف عقبة في سبيل مصالح الناس، بل فيهما الأساس لكل تشريع مالي يساير التطورات، ويحقق النفع، ويدفع الضرر، فالله سبحانه وتعالى يقول: «إلا أن تكون تجارة عن تراض»، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا ضرر ولا ضرار»، فكل مبادلة تجارية عن تراض بين المتبادلين، وليس فيها ضرر لأحدهما ولا لغيرهما من الناس فهي مباحة، وكان الواجب أن يكون دستور المسلمين ومرجعهم في أحكام العقود والتصرفات والمضاربات أن تسأل: أهي تجارة عن تراض؟ هل فيها ضرر ما، ثم نبني الحكم؟».
وعلى سبيل المثال، فإنه في مجال الإصلاحات الفقهية والتشريعية، كان الشيخ عبد الوهاب خلاف أفضل مَنْ تناولوا قضية التأمين الاجتماعي من أفق رحب، وفهم دقيق، وكان الاهتمام بهذه القضية قد ازدهر في أعقاب نشر تقرير مشهور حرره العالم الاجتماعي البريطاني «بفروج»، وكانت مصر المثقفة في ذلك الوقت تواكب التطور الفكري والاقتصادي في العالم، حتى إن الحكومة المصرية بدأت التفكير الجدي في الأخذ به، وقد كان رأي الشيخ عبد الوهاب خلاف أعلى من رأي الحكومة قيمة، وقد لخصه في عدة مبادئ مهمة:
واجب العمل على كل قادر يجد باب الرزق ولا ينهض له، وهو بذلك لا يستحق المعونة، بحيث لا ينالها غير الضعيف العاجز.
الأمة وحدة، وأفرادها متضامنون، وكل فرد مسئول عن نفسه، وعن غيره من أفراد أمته: «إن الأسس والمبادئ التي وافق عليها مجلس الوزراء ليوضع على أساسها قانون التأمين الاجتماعي تقتضي أن يكون القانون مقصورا على عمّال المدن دون عمّال القرى، وهذا ليس إصلاحا شاملا، بل يجب أن يعم الجميع».
الأسرة وحدة، وأعضاؤها متضامنون تضامنا خاصا، ويجب ديانة وقضاء على الموسر منهم أن يقوم بنفقة الكفاية للفقير العاجز، كما لا يكلف زوج أن ينفق على زوجته إلا بقدر ما في وسعه، ولا يكلف قريب أن ينفق على قريبه إلا بقدر كفايته وما يسد حاجته.
في أموال الأغنياء حق معلوم للفقراء، وهو حق دوري له مناسباته المتعددة في العام، كما أن في إيراد الدولة العام حقا للفقراء عليها تأديته.
نظرته للمذهبية الفقهية
أبان الشيخ عبد الوهاب خلاف عن فهمه المتقدم لطبيعة أسلوب اتباع طلبة العلم وخريجي المعاهد العلمية للمذاهب الفقهية، فصور هذا الأسلوب الذي يأخذ به الأزهر في التمذهب على أنه طريق من طرق معرفة الحكم الشرعي وليس واجبا مقصودا لذاته، وذلك حيث قال:
«… إن تقليد المسلم لإمام من الأئمة المجتهدين ليس عبادة، ولا واجبا مقصودا لذاته، وإنما هو طريق لمعرفة الحكم الشرعي، أو وسيلة لاتباع المسلم أحكام دينه، وليس لإمام مجتهد ممن يقلدهم المسلم ميزة على غيره من الأئمة تجعله معصوما من الخطأ، وبناء على ذلك يجوز لمن التزم أن يقلد الشافعي في أحكامه أن يقلد مالكا أو أبا حنيفة في بعض الأحكام، لأنه في كل حال يتبع أهل الذكر، ومن سوء الظن أن يتوهم مسلم أن مذهب بعض الأئمة هو الصواب، ومذهب غيره خطأ، إذ أن كل قول لهؤلاء يحتمل أن يكون صوابا، وأن يكون خطأ، وقد أكدوا ذلك وقرروه».
●
وقد عبر الشيخ عبد الوهاب خلاف عن هذه المعاني بعبارات أخرى قريبة من روح العصر الذي نعيشه حيث فقال:
«إن المذاهب الفقهية ليست أديانا مختلفة، وإنما هي فروع من شجرة واحدة، وجداول يجرى فيها الماء العذب من منبع واحد، فمن أي فرع نال المسلم ثمرة جنى ثمرة طيبة، ومن أي جدول شرب روى بماء عذب، والتعصب الأعمى لمذهب من المذاهب جهل من الجهل، وتصويب مذهب دون غيره على سبيل القطع والجزم جرأة وافتيات، وتفريق لكلمة المسلمين، وتمزيق لوحدتهم، فاختلاف الأئمة يسر ورحمة».
●
وقد أشار الدكتور محمد رجب البيومي أيضا إلى فضل الأستاذ عبد الوهاب خلاف في تحرير قضية تعدد المذاهب الفقهية وطبيعة الفائدة التي تتحقق للمسلمين من هذا التعدد فقال:
«كتب الأستاذ مقالا تحت عنوان «في اختلاف الأئمة رحمة» بدأه بتاريخ للتشريع من عهد النبوة حتى انتهى إلى أئمة المذاهب، موضحا أن ما وقع فيه الاختلاف انحصر في جزئيات تختلف فيها المصالح باختلاف الأحوال، ورب حكم منها يكون فيه الرفق والرحمة ورفع الحرج في حالة معينة بالنسبة لشخص معين، ويكون نقيض ذلك بالنسبة لشخص آخر، فمن التوسعة على المسلمين أن يجدوا من الأحكام المختلفة ما يجعلهم في سعة من أن يأخذوا ما يناسبهم من الأحكام».
وكان الشيخ عبد الوهاب خلاف يقول:
«إن الله عز وجل ما أوجب على أي مسلم أن يكون حنفيا أو شافعيا أو مالكيا أو حنبليا، وإنما أوجب على المسلم أن يتبع أحكام دينه، فإن عرف حكم الدين بنفسه اتبعه، وإن لم يعرف سأل عنه أحد المجتهدين واتبعه».
رؤيته التشريعية الإصلاحية
كانت للشيخ عبد الوهاب خلاف مشاركات متعددة في تقييم النظم السياسية والقضائية السائدة في مصر، ومن ذلك نقده الصريح للمرجعية القانونية في البلاد، محاضرة «الشريعة الإسلامية مصدر صالح للتشريع الحديث»، التي ألقاها عام 1940حيث قال فيها: «إن أخذ قوانيننا المصرية عن القوانين الفرنسية ما كان سببه أن شريعة البلاد الأصلية – وهي الشريعة الإسلامية – لم تصلح لأن تكون مصدراً للنفسيين، أو أن مبادئها وأحكامها قورنت عند النفسيين بغيرها، فكان غيرها أصلح للأمة وأعدل، أو أن تطبيقها أظهر فشلها في تحقيق مصالح الناس والعدل بينهم، أو أن علماءها طلب منهم أن يصوغوا قوانين من أحكامها فعجزوا، ما كان من ذلك كله، وإنما هي الامتيازات الأجنبية، والحرص على رضا الأجانب، ودولهم قضت بأن يهمل جانب الأمة المصرية في التشريع لها، وبأن تفرض علىها قوانين غيرها».
ارتبطت رؤية الشيخ عبد الوهاب خلاف في الإصلاح بالتصدّي النظري التحليلي للأمراض الاجتماعية، وتقديم حلول عملية جذرية لحلّها، وهو يرى أن «وسائل نجاح المشاريع الإصلاحية في أمرين؛ الأول: الوفاء بحق الدين الذي ندين به… والاعتراف بفضل هذا الدين الذي لم يهمل شؤون الأمة الاجتماعية، وشرع لكل شأن من شؤون الجماعات ما يكفل إصلاحه. والثاني: ضمان نجاح مشروعات الإصلاح الاجتماعي مرهون بإيمان الناس بأن فيها خيرهم ونفعهم».
لم يكن الشيخ عبد الوهاب خلاف يقف في آرائه عند تقييم وبنقد الحلول القائمة، وإنما بدأ في طرح حلول بديلة. ومن ذلك نقده لسياسة التطهير الإداري التي اتبعتها الحكومة، حيث قال:
«ينبغي أن توجه الحكومة عنايتها إلى تطهير الأساس، وهو تطهير العقول والأخلاق، لأنه ما دامت العقول معتلة، والأخلاق فاسدة، فالتطهير في أفراد الموظفين ظاهري ووقتي، ولا ضمان لأن يخلق الموظف الفاسد موظفًا صالحًا، وما دام أصل الشجرة فاسداً، فكلما بترت ثمرة مصابة خلفتها ثمرة مصابة».
كان موقف الشيخ عبد الوهاب خلاف من قضايا الفساد، الإداري والمجتمعي، عنيفًا، إلى حد أنه وصف المتورّطين في قضايا الفساد بأنهم:
«زائغون ملحدون إباحيون مستهترون بهيميون، يريدون أن يتحللوا مما حرمته الأديان»، مقدّمًا في مقالة له بعنوان «التطهير» طريقين لا ثالث لهما يُقتدى فيهما بالرسول – صلى الله علىه وسلم – في التعامل معهم، حيث «دعا أولاً بالبينة والبرهان، ومن كابر قاوم مكابرته بالسيف والقتال، ولابد لنصرة الحق من اتخاذ الطريقين، فطريق البرهان ينفع مع من ليست في قلوبهم أمراض، وطريق القوة والسيف. وهو الذي يقمع الآخرين».
تلخيصه الفذ لحقائق ومبادئ أصول الفقه
كان كتاب الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف منبعا مبكرا لكتابة مؤلفات مختصرة بلغة عصرية تقرب علم أصول الفقه على دقته للمثقفين من غير المتخصصين في علوم الشريعة، وتحفل مكتباتنا العامة بكثير من الكتب أو الملخصات التي لخصت كتاب الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف ومنها على سبيل المثال مختصر موجز أعده الاستاذ نوري حمدون في الأبيض.
” ….. علم أصول الفقه في الاصطلاح الشرعي هو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها الي استفادة (يقصد الحصول على) الاحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. أو هو مجموعة القواعد والبحوث التي يتوصل بها الي استفادة الاحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. يعني هو مجموعة القواعد التي نعرف بها الحلال والحرام.
“…. موضوع البحث في أصول الفقه هو الدليل الشرعي الكلي من حيث ما يثبت به من الاحكام الكلية. فالأصولي يبحث في القياس وحجيته والعام وما يقيده، والامر وما يدل عليه، و هكذا..
” والاصولي لا يبحث في الادلة الجزئية و لا فيما تدل عليه الاحكام الجزئية ، و انما يبحث في الدليل الكلي و ما يدل علىه من حكم كلي ليضع قواعد كلية لدلالة الادلة كي يطبقها الفقيه على جزئيات الادلة لاستثمار الحكم التفصيلي منها” .
” تتكون مجموعة الاحكام الفقهية في طورها الاول من أحكام الله و رسوله صلى الله علىه وسلم و فتاوي الصحابة و أقضيتهم . و مصادرها القرآن و السنة و اجتهاد الصحابة” .
” عهد التابعين و تابعي التابعين و الائمة المجتهدين هو بالتقريب القرنان الثاني و الثالث”
” اتسعت الدولة الاسلامية و دخل في الاسلام كثيرون من غير العرب . و واجهت المسلمين طوارئ و مشاكل و بحوث و نظريات و حركة عمرانية و عقلية حملت المجتهدين على السعة في الاجتهاد و التشريع لكثير من الوقائع . و فتحت لهم أبوابا من البحث و النظر . فاتسع ميدان التشريع للأحكام الفقهية” .
” أول من دون من قواعد هذا العلم و بحوثه مجموعة مستقلة مرتبة مؤيدا كل ضابط منها بالبرهان و وجهة النظر فيه الامام محمد بن ادريس الشافعي المتوفي سنة ٢٠٤ للهجرة
” المشهور في اصطلاح الاصوليين أن الدليل هو ما يستفاد منه حكم عملي مطلقا ، أي سواء أكان على سبيل القطع أم على سبيل الظن . و لهدا قسموا الدليل الي قطعي الدلالة و الي ظني الدلالة” .
” ثبت بالاستقراء أن الادلة الشرعية التي تستفاد منها الاحكام العملية ترجع الي أربعة : القرآن و السنة و الاجماع و القياس .
” و هذه الادلة الأربعة اتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها . و اتفقوا أيضا على أنها مرتبة في الاستدلال بها هذا الترتيب : القرآن ، فالسنة ، فالإجماع ، فالقياس”
” و توجد أدلة أخري عدا هذه الادلة الاربعة لم يتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها ، بل منهم من استدل بها على الحكم الشرعي ، و منهم من أنكر الاستدلال بها . و أشهر هذه الادلة المختلف في الاستدلال بها ستة : الاستحسان ، و المصلحة المرسلة ، و الاستصحاب ، و العرف ، و مذهب الصحابي ، و شرع من قبلنا “.
“جملة الادلة الشرعية عشرة : أربعة متفق من جمهور المسلمين على الاستدلال بها . و ستة مختلف في الاستدلال بها” .
” أنواع الاحكام التي جاء بها القرآن الكريم ثلاثة :الاول : أحكام اعتقادية : تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر .و الثاني : أحكام خلقية : تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل و أن يتخلى عنه من الرذائل و الثالث : أحكام عملية : تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال و عقود و تصرفات . وهذا النوع الثالث هو فقه القرآن.. وهو المقصود الوصول اليه بعلم أصول الفقه”.
” والاحكام العملية تنتظم نوعين: أحكام العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج ونذر ويمين ونحوها من العبادات التي يقصد بها تنظيم علاقة الانسان بربه. و أحكام المعاملات من عقود و تصرفات و عقوبات و جنايات و غيرها مما عدا العبادات، و ما يقصد بها تنظيم علاقة المكلفين بعضهم ببعض ، و سواء أكانوا أفرادا أم جماعات أم أمما”
“ومن استقراء آيات الاحكام في القرآن يتبين أن أحكامه تفصيلية في العبادات وما يلحق بها من الاحوال الشخصية و المواريث لأن أكثر أحكام هذا النوع تعبدي و لا مجال للعقل فيه و لا يتطور بتطور البيئات. وأما فيما عدا العبادات والاحوال الشخصية من الاحكام المدنية و الجنائية و الدستورية و الدولية و الاقتصادية، فأحكامه فيها قواعد عامة و مبادئ أساسية، و لم يتعرض فيها لتفصيلات جزئية الا في النادر. لأن هذه الأحكام تتطور بتطور البيئات والمصالح. فاقتصر القرآن فيها على القواعد العامة والمبادئ الاساسية ليكون ولاة الامر في كل عصر في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم في حدود أسس القرآن من غير اصطدام بحكم جزئي فيه.”
” نصوص القرآن جميعها قطعية من جهة ورودها وثبوتها ونقلها عن الرسول الينا. وأما نصوص القرآن من جهة دلالتها على ما تضمنته من الاحكام فتنقسم الي قسمين: نص قطعي الدلالة على حكمه، و نص ظني الدلالة على حكمه “.
“السنة في الاصطلاح الشرعي هي ما صدر عن رسول الله (ص) من قول أو فعل أو تقرير. و تنقسم السنة باعتبار رواتها عن الرسول الي ثلاثة أقسام: سنة متواترة، و سنة مشهورة، و سنة آحاد.
” أما من جهة الورود: فالسنة المتواترة قطعية الورود عن الرسول، لأن تواتر النقل يفيد الجزم والقطع بصحة الخبر كما قدمنا. والسنة المشهورة ليست قطعية الورود عن الرسول. لأن أول من تلقي عنه ليس جمع التواتر. و لهذا جعلها فقهاء الحنفية في حكم السنة المتواترة، فيخصص بها عام القرآن و يقيد بها مطلقه ، لأنها مقطوع ورودها عن الصحابي . و الصحابي حجة و ثقة في نقله عن الرسول . فمن أجل هذا كانت مرتبتها في مذهبهم بين المتواتر وخبر الواحد. و سنة الآحاد ظنية الورود عن الرسول . لأن سندها لا لا يفيد القطع “
” أما من جهة الدلالة فكل سنة من هذه السنن الثلاثة قد تكون قطعية الدلالة ، اذا كان نصها لا يحتمل تأويلا ، و قد تكون ظنية الدلالة اذا كان نصها يحتمل التأويل” .
” ليس كل ما صدر عن الرسول يعتبر تشريعا : فما صدر عنه بمقتضي طبيعته الانسانية من قيام و قعود و مشي و نوم و أكل و شرب ، فليس تشريعا . لأن هذا ليس مصدره رسالته ، و لكن مصدره انسانيته . و لكن اذا صدر منه فعل انساني و دل دليل على أن المقصود من فعله الاقتداء به، كان تشريعا يهذا الدليل. وما صدر عنه بمقتضي الخبرة الانسانية والحذق والتجارب في الشؤون الدنيوية من اتجار أو زراعة أو تنظيم جيش أو تدبير حربي أو وصف دواء لمرض أو أمثال هذا فليس تشريعا أيضا لأنه ليس صادرا عن رسالته، وانما هو صادر عن خبرته الدنيوية و تقديره الشخصي. و لهذا لما رأي في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين قال له بعض صحابته : أهذا منزل أنزلك الله ، أم هو الرأي و الحرب و المكيدة ؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
” و ما صدر عن رسول الله و دلّ الدليل الشرعي على أنه خاص به، و أنه ليس أسوة فليس تشريعا عاما : كتزوجه بأكثر من أربع زوجات .
“وهكذا فإن ما صدر عن رسول الله من أقوال و أفعال في حال من الحالات الثلاثة التي بيناها فهو من سنته و لكنه ليس تشريعا ، و لا قانونا واجبا اتباعه . و أما ما صدر من أقوال و أفعال بوصف أنه رسول و مقصود به التشريع العام و اقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين و قانون واجب اتباعه .
” و قد اصطلح علماء الاصول على تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الطلب أو التخيير بالحكم التكليفي . و على تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الوضع بالحكم الوضعي . و لهذا قرروا أن الحكم الشرعي ينقسم الي قسمين: حكم تكليفي ، و حكم وضعي .
ينقسم الحكم التكليفي الي خمسة أقسام : الايجاب ، و الندب ، و التحريم ، و الكراهة ، و الاباحة .
“إذا ورد في النص لفظ خاص ثبت الحكم لمدلوله قطعا، ما لم يقم دليل على تأويله و ارادة معني آخر منه . فان ورد مطلقا أفاد ثبوت الحكم على الاطلاق ما لم يوجد دليل يقيده. و ان ورد على صيغة الامر أفاد الايجاب المأمور به ما لم يوجد دليل يصرفه عن الايجاب . و ان ورد على صيغة النهي أفاد تحريم المنهي عنه ما لم يوجد دليل يصرفه عن التحريم .
” اللفظ الخاص: هو لفظ وضع للدلالة على فرد واحد بالشخص مثل محمد أو واحد بالنوع مثل رجل أو على أفراد متعددة محصورة مثل ثلاثة و عشرة و مائة و قوم و رهط و جمع و فريق ، و غير ذلك من الالفاظ التي تدل على عدد من الافراد و لا تدل على استغراق جميع الأفراد .
“مجال الاجتهاد أمران :ما لا نص فيه أصلا و ما فيه نص غير قطعي، و لا مجال للاجتهاد فيما فيه نص قطعي .
” يشترط لتحقق الأهلية للاجتهاد شروط أربعة:
الأول: أن يكون الانسان على علم باللغة العربية وطرق دلالة عباراتها ومفرداتها.
الثاني: أن يكون على علم بالقرآن.
الثالث: أن يكون على علم بالسنة كذلك.
الرابع: أن يعرف وجوه القياس.
جهده الرمزي في تفسير القرآن الكريم
كان للشيخ عبد الوهاب خلاف جهد متميز في تفسير بعض سور من القرآن الكريم، وقد فسر الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف سورا قصيرة، جمعها في كتاب «نور على نور»، وقد أهدته مجلة «لواء الإسلام» إلى قرائها.
كان الشيخ عبد الوهاب خلاف يلقي سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم بدار الحكمة على مدى سنوات متوالية، وكانت دار الحكمة حريصة على هذا التميز في برنامجها الثقافي بدعوة قطب من أقطابه لإلقاء محاضراته فيها بصفة أسبوعية، وقد روى علامة الجزيرة العربية الأستاذ حمد الجاسر أنه كان في أثناء إقامته في القاهرة (1946) لا يحرص على شيء حرصه على الاستماع إلى خطبة الجمعة في قصر ولي العهد في منيل الروضة، وعلى حضور المحاضرة الأسبوعية التي يلقيها الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف في التفسير في دار الحكمة.
نشاطه في مجمع الخالدين
عين الشيخ عبد الوهاب خلاف عضوًا في مجمع اللغة العربية سنة 1946، ضمن عشرة كانوا هم: السنهوري، وخلاف، و شلتوت، و إبراهيم مدكور، وأحمد زكى، ومصطفى نظيف، وعبد الوهاب عزام، وزكى المهندس، ومحمد فريد أبو حديد، و محمد شرف.
ولعل أبرز الإسهامات المجمعية للشيخ عبد الوهاب خلاف، أنه كان صاحب فضل كبير في وضع معجم ألفاظ القرآن الكريم الذي صدر عن المجمع.
وقد أسهم الشيخ عبد الوهاب خلاف في أعمال كثير من لجان مجمع اللغة العربية : لجنة ألفاظ الحضارة الحديثة، ولجنة الأدب، ولجنة علوم الأحياء والزراعة، ولجنة القانون والاقتصاد، ولجنة ألفاظ القرآن الكريم، ولجنة اللهجات، وكانت له اقتراحات مجمعية مهمة منها: أن تصدر المجلة مرتين في السنة في أول نوفمبر وأول مايو من كل عام، وأن ينشر المجمع المصطلحات التي وضعتها اللجان وأقرها المجلس بطريقة دورية، بحيث تنشر مصطلحات كل علم في نشرة خاصة ، وما أقره المؤتمر من هذه المصطلحات يعاد نشره بعد ذلك في مجلة المجمع.
وفى أثناء عضويته في المجمع، ظهر ما كان للأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف من اهتمام عميق بدور المجمع في رعاية الأدب العربي وتوجيهه، حتى إنه كان هو العضو الذي ألقى كلمة عن البحوث الأدبية الفائزة في مسابقة المجمع اللغوي عن «مهيار الديلمي وشعره»، وذلك في الحفل العلني لإعلان نتيجة المسابقة الأدبية لعام 1947/ 1948.
وهو الذي ألقى كلمة المجمع في استقبال الأستاذ على عبد الرازق باشا عند انتخابه عضوا، كما أنه هو الذى ألقى كلمة المجمع في تأبين صديقه الأستاذ أحمد أمين.
أستاذيته المؤثرة في الحياة الثقافية والأدبية
عرف الشيخ عبد الوهاب خلاف بمشاركاته الدائبة في الحياة الثقافية، وعرف كذلك بالتميز في محاضراته العامة التي جمع كثير منها وطبع. ويمكن لنا أن نقول باطمئنان بأن الشيخ عبد الوهاب خلاف كان مثقفا عضويا بالمعنى الدقيق للكلمة التي تستخدم استخداما الآن متعسفا.
وعندي ثلاث شهادات مرموقة لعلماء أفذاذ تشي بهذا المعنى.
فقد شهد أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي بهذا المفهوم في قوله:
«[كان] يعيش أحداث عصره عيش الواعي اليقظ الدؤوب، فهو يطالع ما يجد من النظرات الاجتماعية، والأصول القانونية، وما تفيض فيه الصحف من إصلاحات اجتماعية وسياسية حدثت في أوروبا، وبهرت الناس بما انتهت إليه، يطالع ذلك كله، فلا ينكل عن أن يبدى رأى الإسلام فيما جد، بيديه مدعما بالدليل، حريصا على ألا يستثير القارئ بتحمس مفتعل يضر أكثر مما ينفع، بل ليستميله بما يبدي في هدوء تام من الحجج ذات الوجه الصريح!».
●
كذلك قد أجاد الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت وصف حضور الشيخ عبد الوهاب خلاف في الحياة العامة العلمية فقال:
” إن الشيخ عبد الوهاب خلاف إذ كان في حياته المادية شخصًا واحدًا، فإنه في حياته العلمية الباقية شخصيات متعددة، فأبناؤه القضاة الشرعيون، وأبناؤه القضاة المدنيون، وأبناؤه المدرسون، والشعوب الإسلامية التي انتفعت بتفسيره وأحاديثه وبحوثه ومؤلفاته، كل أولئك الشيخ خلاف.
وقال الشيخ شلتوت أيضا:
«عرفناه في ميادين العلم والعمل، وزاملنا في هذا المجمع حينا من الدهر، فكان أينما كان مشرفا ترسل شمسه أشعتها الوضاءة الهانئة على العيون فتبصر، وعلى القلوب فتطمئن، وعلى الضمائر فتسكن، وعلى الحقائق فتنكشف».
●
أما الشيخ محمد أبو زهرة اللاحق به في أستاذيته فقال في تأبينه:
” لقد كان أستاذنا الجليل الذي فقدناه قوة للشريعة بشخصه المهيب، وبيانه الرائع، وأحاديثه العذبة السهلة، وبحوثه الفياضة، وكنا في كلية الحقوق نحس بأن الشريعة، ولها مكانتها القدسية ودقتها الفقهية، تحتاج دائماً إلى شخصيات تجليها، ولها من المكانة في النفوس ما يرد زيغ الزائغين”
كذلك فقد تحدث الشيخ محمد أبو زهرة في المقدمة التي كتبها للطبعة السابعة من كتاب «علم أصول الفقه» عن نواحي العظمة والتفوق في حديث الشيخ عبد الوهاب خلاف فقال:
«… وأشهد أنى ما سمعت في الشيوخ أظرف حديثا، ولا أملك بفنون التحديث، وأعلم بمداخل النفوس من الأستاذ خلاف، وكأن الحديث الحلو فن في ذاته عنده، إذ تثير عقله المجالس العلمية الخاصة إلى أشتات المعاني فيجمعها في قول يقول كأنه السلسبيل العذب، وإن استقام الحديث بين يديه نسي همومه وآلامه، وأمتع مستمعيه، وأذكر أنى زرته عقب موت أكبر أبنائه، فوجدته كأبي يوسف في هم لا سرور معه، وإن كان معه الصبر الجميل، فلم أجد سبيلا للتسرية عن نفسه إلا أن أفتح له حديثا ليدخل من بابه، فشاقه الحديث إلى القول فقال، وأشهد أنى أردت بالحديث أن ينسى، فأنسيت ما أردت، وأخذت أجاذبه أطرافه، لا مسليا معزيا، ولكن محبا للاستماع مستطرفا، ومكثنا أكثر من ساعة نتحدث أو يتحدث، وأستمع وأناقش، وكلما أحسست منه فتورا أثرته لأستمع وأستمع، لا لأسلي وأعزي، فقد نسيت ذلك عند أخذه في شجون الحديث، ومسالك البيان».
مؤلفاته:
أحكام الأحوال الشرعية في الشريعة الإسلامية وفق مذهب أبي حنيفة وما عليه العمل الآن بالمحاكم الشرعية المصرية، مطبعة النصر، القاهرة، 1936
أحكام الوقف وأحكام المواريث.
أحكام الوقف، مطبعة النصر، القاهرة، 1953.
أصول الفقه.
الاجتهاد بالرأي، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1950
الاجتهاد والتقليد.
الإسلام والمعاملات، صدر كملحق لمجلة (الإذاعة المصرية)، القاهرة، 1956
الاصطلاحات الفقهية ( منشور في مجمع اللغة العربية) :
الأهلية وعوارضها في الشريعة الإسلامية وفي القانون المدني رقم (31) لسنة 1948م وفي قانون الولاية على المال رقم (119) لسنة 1952م، مطبعة دار النصر، القاهرة، 1955
السلطات الثلاث في الإسلام، دار آفاق الغد، القاهرة، 1980
السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، المطبعة السلفية، القاهرة، 1930
خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي، طبع أول مرة مع كتاب علم أصول الفقه، القاهرة، 1942
شرح قانون المواريث رقم (77) لسنة (1943، القاهرة.
علم أصول الفقه، مطبعة النصر، القاهرة، 1942.
فقه السياسة الشرعية، دار الأنصار، القاهرة، 1930
مصادر التشريع فيما لا نص فيه، معهد الدراسات العربية العليا، القاهرة، 1954.
نور على نور، نور من الإسلام [تفسيراته لبعض سور القرآن] القاهرة، 1948. وأعيد طبعه بدار الثقافة بقطر، بدون تاريخ.
نشر الشيخ عبد الوهاب خلاف بحوثا ومقالات كثيرة في مجلات:
القضاء الشرعي،
الأحكام،
لواء الإسلام،
الرسالة.
الثقافة.
●
يروى عن حياته أنه امتحنه الله في شيخوخته بوفاة بعض أنجاله في ظروف محزنة، فواجه محنته في إيمان المؤمن وصبره حتى لقي ربه.
شيعت جنازة الأستاذ عبد الوهاب خلاف في 20 يناير 1956، ودُفن بمقابر الغفير بالقاهرة، وكان قد توفي في اليوم السابق.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا