الطرف الثالث وهو في حالتنا هذه (كما هو في حالات أخرى ) هو الأستاذ هيكل كان حريصا بدافعي الحقد والغيرة على أن يشوه علاقة الرجلين
نبدأ حديثنا عن الدكتور محمود فوزي بذكر حقيقة باتت الكتابات التاريخية تقفز عليها بسبب ما فرضه العصر الراهن من السرعة في تناول التاريخ وتداول التأريخ ، تقول هذه الحقيقة إن الدكتور محمود فوزي كان واحدا من الأوائل الذين شاركوا الرئيس أنور السادات صنع نصر أكتوبر السياسي والعسكري فيما قبل العبور وفيما بعد فض الاشتباك وبدء ما سمي بعملية السلام ، و ليس سرا أن الرئيس السادات كان فيما قبل هذه الحرب يقود سيارته بنفسه ليلتقي بالدكتور محمود فوزي في بيت ريفي في ضواحي الجيزة حيث يفرغان من الحاضر ليتناولا صنع المستقبل على نحو يستشرف الثغرات التي يمكن لهما أن يخترقا من خلالها واقع الهزيمة الثقيلة ، وقد كان الرئيس أنور السادات نفسه مقدرا بشدة لدور الدكتور محمود فوزي حتى إنه منحه القلادة التي لا تمنح إلا لرؤساء الجمهورية والملوك وجاء منحه القلادة له في مجلس الشعب في حفل تكريم لم يحظ به سواه ، كما جاء منحه القلادة بعد تنفيذه لاستقالته التي كان قد طلب بأن يكون قبولها في يوم عيد ميلاده الرابع والسبعين ، وقد حقق له الرئيس السادات هذا التكريم الشكلي أيضا . بيد أن الطرف الثالث وهو في حالتنا هذه (كما هو في حالات أخرى ) هو الأستاذ هيكل كان حريصا بدافعي الحقد والغيرة على أن يشوه علاقة الرجلين على نحو ما كان حريصا أيضا على أن يشوه علاقة الرئيس السادات بالمهندس سيد مرعي وعلاقة الرئيس السادات بمصطفى خليل، وهكذا كان الأستاذ هيكل في أحاديثه مع زواره ومع المراسلين العرب و الأجانب ينسب كثيرا من التعليقات التي ينتقد بها سياسات الرئيس السادات إلى الدكتور محمود فوزي ، وهو أمر لم يكن مستحبا حتى من باب اللياقة في حق رجل آثر الاعتزال فلا داعي لاستدعائه بهذه الطريقة المتجاوزة ، لكن الأستاذ هيكل كان يرى أن له حقوقا على الدكتور محمود فوزي تجعله يوظفه في مثل هذه الاستثمارات من دون أن يستأذنه ، ومن العجيب أن الأستاذ هيكل لم يحترم موت الدكتور فوزي ولا موت الرئيس السادات بعده في العام نفسه وظل ينسب إلى الرجلين ما شاء له الجوى وماشاء له الهوى من افتراءاته ، ومن الحق أنني لم أجد عذرا يمنعني من إثبات هذه الحقيقة حتى لا يقع باحث أو مؤرخ على نصوص الافتراء فيتصورها واقعا ، ولله الأمر ومن بعد .
على صعيد السيرة الذاتية نبدأ حديثنا عن سيرة الدكتور محمود فوزي (1900 ـ 1981) ببعض الطرائف الموحية، فقد كان اسمه يبدو مركباً من الاسمين اللذين كان كل من الأبوين يفضل أحدهما فتوافقا على تركيبهما معا ، ولم يكن هناك اسم ثان ولا اسم ثالث له على مدى تاريخه، وحتى الآن، فلن تجد مرجعا ولا كتابا ولا مذكرات ولا جريدة ولا قرار يُشير إلى الاسم الثاني ولا إلى الاسم الثالث له ولا اللقب، هو محمود فوزي وحسب، ولم يكن هذا استثناء في عهده وإنما كانت هذه هي القاعدة باستثناءات نادرة و انظر مثلا إلى أسماء : محمد عبده ، أحمد عرابي ، سعد زغلول ، ومصطفى كامل ومصطفى النحاس و محمد محمود وإسماعيل صدقي وأحمد ماهر وعلى ماهر وحسين رشدي وعبد الخالق ثروت وحسن صبري وحسين سري ، وهكذا كان الآباء وأولياء الأمر يختارون للأبناء أسماء موحية في مستقبلها ، وفي هذا الجيل نشأ محمود فوزي وأنت تجد بعض التالين له في المولد وقد أخذ أهلهم بهذه القاعدة من قبيل الرئيس محمد نجيب وشقيقه على نجيب ومن قبيل فتحي رضوان وأحمد حسين وإبراهيم شكري . و هكذا نفهم بوضوح أنه لم تكن هناك للدكتور محمود فوزي حاجة إلى أن يستكمل اسمه الثنائي ولا الثلاثي ولا الرباعي ولا الخماسي [على نحو ما حدث في حالة فريدة وشاذة ] ، أما الطريف فإن أستاذا من أساتذة الجامعين البارزين أصبح رئيسا للجامعة بعد ذلك لاحظ غرامي بالأنساب و ترتيبي لها فاخبرني في لحظة صفاء أن من عائلته واحدا من أكبر كبار رجال الدولة لكنه لم يذكر ذلك لأحد، كما أنه لم يستفد من هذه الصلة ، وأخبرني أيضا أن من المستحيل أن يصدق أحد وجود هذه العلاقة ، و توقف عند هذا الحد ، وقد أثار فضولي ، وبدأت أقلب الاحتمالات المختلفة بدءا من أكبر المناصب ، فكان أول ترجيح هو أن يكون من عائلة الدكتور محمود فوزي ، و مضت الأيام حتى قرأت مذكرات السيدة الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ ) فإذا بها في هذه المذكرات التي تناولناها بالمدارسة في كتابنا مذكرات المرأة المصرية الذي صدرت طبعته الموسعة بعنوان “الثورة والحرية” تشير بكل وضوح إلى أن والده الشيخ الأزهري دسوقي جوهري ، والذي تنتمي هي أيضا إلى عائلته ، كان صاحب فضل عليها في إقناع والدها بالسماح لها بإتمام حلقة من حلقات جهادها من أجل العلم ، كما كان صاحب فضل في تشجيعها على ارتباطها بأستاذها وزوجها الشيخ أمين الخولي الذي تزامل معه ابنه الدكتور محمود فوزي حين عملا في المفوضية (السفارة ) المصرية في روما عاصمة إيطاليا .
منذ ذلك الحين نشرت هذه الحقيقة وأذعتها فيما يتعلق بوالد الدكتور محمود فوزي وعائلته، ونقلت عني، وكالعادة بدون ذكر المصدر وذلك من قبيل أن ما أذكره هو في العادة من المسلمات، وهي ثقة أعتز بها بالطبع أيما اعتزاز، وتعوضني عن السطو على جهدي، لكني لابد أن أعترف أن مصدري فيما رويته وأثبته كان مصدرا واحدا فقط على الرغم من مصداقيته.
لكني لابد أن أشير إلى طُرفة ثالثة [منهجية الطابع] تتعلق بهذا الموضوع البسيط وهي أن الدكتور مصطفى الفقي في حكاياته الأخيرة اكتشف أن الدكتور محمود فوزي ينتمي إلى عائلة تحمل في نهاية نسبها نفس اللقب الذي يحمله هو، أي الفقي، وأردف فقال إن الدكتور محمود فوزي لم يستعمل هذا اللقب على الإطلاق، وهكذا يمكن للقارئ ان يقول إن الدكتور مصطفى الفقي قد نجا من أن يُحسب عليه، كما أنه فقد بالطبع ما كان يُمكن له أن يكسبه لو أنه كان يحمل لقب عميد الديبلوماسية المصرية.
نُضيف إلى الطرافة، طرافة أخرى تتعلق بمسار حياة هذا الرجل فقد عمل سفيراً لمصر في لندن لكن هذه “السفارة” لم تدم إلا لأسابيع اختير بعدها وزيراً للخارجية، وهكذا كان من حظه أن يحظى بكل التقاليد البريطانية العريقة في ركوب عربة الجياد والذهاب بها إلى الملكة إليزابيث الثانية لتقديم أوراق اعتماده في ذلك الاحتفال البروتوكولي (والسياحي)! وكانت الملكة إليزابيث الثانية لا تزال في عامها الأول من عهدها الطويل الذي لا يزال مستمرا حتى الآن، وأن يكون هذا مقابل أقصر مدة عملها دبلوماسي سفيراً لبلده في لندن، والأكثر طرافة من هذا ما حدث من أن الدكتور محمود فوزي اكتشف وهو في الطريق (حسب رواية متواترة) أنه نسي أوراق الاعتماد فتوقف الموكب حتى يأتي من ذهب ليحضر الأوراق ثم بدأت حركة موكب تقديم الأوراق الذي تحرك على مرتين في نفس الصباح.
يرتبط بمسار الدكتور محمود فوزي أنه عمل قُنصلاً كما عمل سفيراً وكان هذا من باب الثقة والمكافأة، كما أنه بعد أن وصل إلى رئاسة وفد مصر في الأمم المتحدة أصبح سفيرا لمصر في لندن لكن الأهم من هذا أنه شغل منصب قنصل مصر في القدس بكل ما كان يعنيه هذا المنصب ويتطلّبه من الذكاء والحكمة والفهم.
وفيما بعد هذا كان الدكتور محمود فوزي عليه رحمة الله مثالا للرجل الذي يعمل مع العسكريين في العالم الثالث فيستريحون إليه ويستريح إليهم ومنهم، ولهذا فإنه ضرب الرقم القياسي في البقاء مع العسكريين منذ ما بعد قيام الثورة بخمسة شهور وحتى بلغ هو الرابعة والسبعين فآثر الراحة.
وإذا فقد كان الدكتور محمود فوزي على نحو ماسميته ذات مرة بمثابة “أبو الصابرين”، فهو أولى السياسيين بهذا اللقب الجميل الذي اشتققناه له مستوحين إياه من الأغنية الشعبية المشهورة التي تغنيها الفنانة السيدة شادية والتي تقول فيها يا أم الصابرين. ذلك أن أقرب وصف لممارسة الدكتور محمود فوزي للسياسة في عهد ثورة 1952 انه كان جالساً في مقصورة الرئاسة ملتزما الصمت إلى أبعد حدود الصمت: ومُلتزما بالتهذيب إلى أبعد حدود التهذيب، فكأنه متفرج مهذب ومتهذب غير فاعل وغير منفعل، ومن العجيب أن هذا الرجل ظلّ في الصورة منذ دخل الوزارة في ديسمبر 1952 أي بعد أربعة شهور ونصف من قيام الثورة في 23 يوليو وحتى استقال بإرادته في ١٩٧٤ بعد ما يقرب من عام من نصر أكتوبر 1973.
مع هذا، ومع هذا، ومع هذا وقد كرررتها ثلاثا عن قصد فإن الدكتور محمود فوزي لم يكن هو من يتولى وزارة الخارجية بمُفرده! وإنما كان الرئيس عبد الناصر قد أشرك معه غيره في هذه المسئولية من الباطن الظاهر إن صح هذا التعبير ، صحيح أنه احتفظ بمنصب وزير الخارجية منذ سبتمبر 1952 وحتى مارس 1964 حين أصبح نائبا لرئيس الوزراء للشئون الخارجية وصحبه وزير جديد للخارجية هو محمود رياض الذي ظلّ وزيراً للخارجية، ولم يترك الوزارة إلا في وزارة الدكتور محمود فوزي الرابعة في سبتمبر 1972 بينما بقي الدكتور محمود فوزي رئيسا للوزارة حتى يناير 1972 ثم نائباً لرئيس الجمهورية، وكان قد تولى هذا المنصب أي رئاسة الوزارة في اكتوبر 1970 عقب وفاة الرئيس عبد الناصر لكنه فيما قبل هذا المنصب مباشرة كان منذ هزيمة ١٩٦٧ مساعداً لرئيس الجمهورية للشئون الخارجية على أن يحضر اجتماع مجلس الوزراء الذي لم يكن قد أصبح عضواً فيه بعد أن تركت الدولة نظام النواب المُتعددين لرئيس الوزراء والذي ظلت تأخذ به حتى هزيمة 1967.
فيما قبل محمود رياض كان اثنان من الضباط العسكريين قد سيطرا على وزارة الخارجية في وجود وزيرها محمود فوزي نفسه، أما أولهما فهو الطيار الشهير حسين ذو الفقار صبري الذي أصبح وكيلا للوزارة مُتصرفاً فيها ثم أصبح نائبا للوزير وجاء معه أيضا اللواء محمد حافظ إسماعيل ليصبح وكيل الوزراء المُتصرف فيها بعد أن كان مديراً لمكتب المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية.
إذا أردت وصفا مُختصراً لسيطرة هذين القائدين العسكريين أي حسين ذو الفقار صبري و محمد حافظ إسماعيل على أمور الخارجية في عهد الدكتور محمود فوزي نفسه فإنه يكفيني أن أذكر ما هو متواتر من أن حسين ذو الفقار صبري كان المتصرّف في أمور السلك الديبلوماسي حتى من دون أن يُخْطِرَ الوزير( الدكتور محمود فوزي) بما يقرّره كما أنه يكفيني أن أذكر لك أن الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد عميد الديبلوماسية المصرية (1984 ـ 1991) وعميد الديبلوماسية العربية (1991 ـ 2001) كان مديراً لمكتب محمد حافظ إسماعيل ، ويكفيني أن أذكر أيضاً أن خلفه عمرو موسى عميد الديبلوماسية المصرية (1991 ـ 2001) وعميد الديبلوماسية العربية (2001 ـ 2011) كان سكرتيراً لمحمد حافظ إسماعيل.
فإذا أضفت إلى هؤلاء ما تعلمه بالطبع عن ثالث العسكريين الذين تولوا الخارجية في العهد الذي عاش فيه الدكتور محمود فوزي في السلطة وهو محمود رياض الذي كان وزيراً للخارجية منذ ١٩٦٤ بكل صلاحيات الوزير فإنك تستطيع أن تدرك مدى تحكم هذا الرجل الحكيم الذي هو أبو الصابرين الدكتور محمود فوزي في وقته وفي أعصابه وفي لسانه.
ولد الدكتور محمود فوزي في شبرابخوم (مركز قويسنا، محافظة المنوفية) في ١٩ سبتمبر عام ١٩٠٠، وكان والده عالماً أزهرياً.
تلقي الدكتور محمود فوزي تعليما مدنيا متميزا، شأنه شأن أبناء هذا العصر، وتخرج في كلية الحقوق سنة ثلاث وعشرين ١٩٢٣، و سرعان ما التحق بالسلك الدبلوماسي في مرحلة مبكرة ضمن أوائل من التحقوا بهذا السلك ، وتدرج في وظائفه، كما تنقل بين مواقع مرموقة، وفي أثناء خدمته الدبلوماسية درس الدكتور محمود فوزي العلوم السياسية والتاريخ في جامعات روما وليفربول وكولومبيا الأمريكية ، و قد كان ولا يزال يلقب بالدكتور التي كانت تلازم اسمه ، ويبدو لي من خبرتي بألقاب الجامعات الأوربية الإيطالية أنه نال الدرجة الجامعية الأولى من إيطاليا ، وفي ذلك الوقت كانت الدرجة الجامعية الإيطالية الأولى (الليسانس ) تسمى بالدكتوراه ، ولهذا يقال إنه نال الدكتوراه في القانون من جامعة روما (١٩٢٤) بينما لم يكن قد قضي فيها إلا سنة أو أقل كانت كافية بالكاد لأن يتقدم فيمتحن ما يسمى بالدكتوراه الإيطالية التي هي الليسانس ، وفي كل الأحوال فإن تفوق الدكتور محمود فوزي ظاهر جدا من اجتيازه لهذا الامتحان بنجاح مع إتقان الإيطالية .
بدأ الدكتور محمود فوزي عمله الدبلومسى (في وظيفة كانوا يسمونها : )تلميذا قنصليا ( كاتباً ) في قنصلية مصر بروما عام ١٩٢٣، ثم ترقى إلى نائب قنصل في القنصلية المصرية بنيويورك، ثم بنيو أورليانز (١٩٢٧- ١٩٢٩)، وعين مأمور القنصلية المصرية بكوبي باليابان (١٩٢٩- ١٩٣٠)، ورقي إلى درجة قنصل عام ١٩٣٦، ونقل إلى أثينا بدرجة سكرتيراً ثان ١٩٣٦، ثم رقي قنصلاً عاماً في ليفربول بإنجلترا (١٩٣٦- ١٩٣٧)، و انتقل قنصلاً عاماً لمصر بالقدس في مارس عام ١٩٤١ وفي ١٩٤٥ أصبح مندوب مصر في الأمم المتحدة، وفي ١٩٤٩ مثل مصر في مجلس الأمن.
وفي سبتمبر١٩٥٢ اختير الدكتور محمود فوزي سفيرا لمصر في لندن ، وفي ديسمبر ١٩٥٢ اختير الدكتور محمود فوزي وزيراً للخارجية في أثناء وزارة الرئيس نجيب الأولي خلفا لزميله محمد أحمد فراج طايع الذي كان تولي وزارة الخارجية قبله (منذ سبتمبر ١٩٥٢) بتزكية من فتحي رضوان (بينما جاء الدكتور محمود فوزي بتزكية من أسرة أخبار اليوم، وكان الأستاذ مصطفي أمين نفسه قد رشحه وزيرا من قبل قيام الثورة) وقد تولي الوزارة في اليوم الذي دخلها الدكاترة عبد الرزاق صدقي ،وحلمي بهجت بدوي ، ووليم سليم حنا، وعباس عمار ، ولكن محمود فوزي كان ، كما نعرف ، أطولهم جميعا نفساً مع السلطة.
وقد ظل الدكتور محمود فوزي وزيراً للخارجية في وزارات الرئيسين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وحتى قامت الوحدة مع سوريا فكان وزيراً لخارجية الجمهورية العربية المتحدة كلها. وبقي أيضاً وزيراً للخارجية بعد الانفصال في اتصال مستمر مع منصبه. وفي مارس 1964 أصبح الدكتور محمود فوزي نائباً لرئيس الوزراء علي صبري في وزارته الثانية فكان النائب الرابع من أحد عشر نائباً يسبقه نور الدين طراف، والمهندس أحمد عبده الشرباصي ، وكمال رفعت، وكان اسم منصبه في تلك الوزارة ذات النصوص الطنانة أنه نائب لرئيس الوزراء للشئون الخارجية، ويشرف علي الخارجية (التي أصبح وزيرها لأول مرة محمود رياض) والعلاقات الثقافية الخارجية (التي أصبح وزيزها لأول وآخر مرة هو الدكتور حسين خلاف).
وفي وزارة زكريا محيي الدين (أكتوبر 65- سبتمبر 1966) أصبح الدكتور محمود فوزي بمثابة النائب الثاني لرئيس الوزراء لا يسبقه إلا المهندس أحمد عبده الشرباصي، ومعه ايضا محمود رياض وزيراً للخارجية.
وفي وزارة المهندس محمد صدقي سليمان (سبتمبر 1966- يونيو 1967) أصبح الدكتور محمود فوزي أيضا نائباً لرئيس الوزراء للشئون الخارجية، ولكنه أصبح أول نواب رئيس الوزراء (وبقي معه محمود رياض وزيراً للخارجية).
وفي وزارة الرئيس عبد الناصر التي أعقبت النكسة، ترك الدكتور محمود فوزي قائمة التشكيل الوزاري ليعمل مساعداً لرئيس الجمهورية للشئون الخارجية (بعيداً عن مجلس الوزراء)، لكنه كان يحضر اجتماعات مجلس الوزراء بقرار خاص.
وفي أكتوبر 1968 انتخب الدكتور محمود فوزي عضواً في اللجنة التنفيذية العليا بعدد كبير من الأصوات تلا أصوات حسين الشافعي وعلي صبري وفاق أصوات الرئيس السادات.
من الذي رشّح الدكتور محمود فوزي للوزارة وللمكانة التي وصل إليها في عصر الثورة؟
ذكرنا أنه الأستاذ مصطفى أمين، وقد كتب هذا الترشيح في مقالاته ، ولم يكتف بأن يُعلنه شفاهيا، ومع هذا أو بسبب هذا فإن الأستاذ هيكل يحرص كثيراً على الإيحاء من بعيد بأنه كان صاحب الفضل في هذا الاكتشاف، ومن الإنصاف أن نقول إن هذا الحرص الهيكلي لا ينبُع إلا من إيمانه العميق (والحريص على إخفائه ) بالأستاذ مصطفى أمين وباختيارات الأستاذ مصطفى أمين ، وحرصه على أن يكون وريث مصطفى أمين في كلّ شيء، أما إذ أردت أن تبحث عن مرشح الأستاذ هيكل لمنصب وزير الخارجية لو قدّر له أن يُدلي بالرأي في ديسمبر 1952 فإن مرشحه كان سيكون هو الدكتور أحمد حسين الذي كان سفير مصر في الولايات المتحدة الامريكية والذي ظلّ في هذا المنصب حتى خرج منه في 1958 مصحوبا بإهانة الرئيس عبد الناصر له، على يد الأستاذ هيكل ومن دون أن يستطيع الأستاذ هيكل دفع الإهانة ولا منعها ولا حتى نسبتها إلى نفسه هو كسبب لها.
لا نزال مع قيمة و جدوى فلسفة الصمت التي ميّزت الدكتور محمود فوزي وساعدته على أن يحقق ما حقق من وجود في السلطة ، ونقول بوضوح إن هذا الرجل كان الوحيد من أقرانه الذين تعاونوا مع العسكريين 1952 حتى وصل إلى عهد الرئيس السادات وهو في السلطة بل وأصبح رئيساً للوزراء ونائباً لرئيس الجمهورية حتى ١٩٧٤ ثم بقيّ على قيد الحياة مُعزّزاً مكرّماً حتى توفي قبل الرئيس السادات بشهور في 1981 بعد أن توفي رئيس الوزراء الوحيد الذي كان باقيا على قيد الحياة من عهد الملكية وهو إبراهيم عبد الهادي باشا (فنحن نعرف أن رؤساء الوزراء في عهد الملكية قد توفوا جميعا قبل النحاس باشا الذي توفي في أغسطس 1965، فتوفي أحمد نجيب الهلالي في 1958 وعلي ماهر 1960 وحسين سري 1960).
ومن الجدير بالذكر أن صبر الدكتور محمود فوزي وتصبره و تصبيره لنفسه لم يتوقف عند حد فقد قفز على أقدميته عدد لا بأس به من زملائه اللاحقين به في الوزارة ثم دارت الأيام فأصبح خروج بعض هؤلاء من المناصب الوزارية في عهد الرئيس السادات مرتبطاً بفكرة أنهم سبقوا الدكتور محمود فوزي من قبل في السلم الوزاري الموسيقي، أبرز هؤلاء بالطبع هو المهندس محمد صدقي سليمان الذي أصبح في ١٩٦٦ رئيسا للوزراء وأصبح الدكتور محمود فوزي نائبا له مع أنه كان نائبا لرئيس الوزراء حين كان صدقي سليمان وزيراً فحسب، وهكذا لم يشترك المهندس محمد صدقي سليمان في وزارة الدكتور محمود فوزي وخرج من الوزارة ليشغل منصب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ، كذلك فإن كمال رفعت الذي دخل الوزارة بعد الدكتور محمود فوزي بأكثر من 6 سنوات كان قد سبقه إلى عضوية ما يسمى مجلس الرئاسة فلما عُين الرجلان كمال رفعت والدكتور محمود فوزي نائبين لرئيس الوزراء علي صبري في مارس ١٩٦٤ أصبح ترتيب كمال رفعت سابقا على ترتيب الدكتور محمود فوزي ، وهكذا كان كمال رفعت من هؤلاء الضباط الذين خرجوا من وزارة الدكتور محمود فوزي بل كان كمال رفعت أفضل هؤلاء الضباط الوزراء حظاً حيث انتقل إلى العمل سفيراً لمصر في لندن طيلة ما يقرب من ٤ سنوات.
ومن الطريف أن الأسبقية البروتوكولية لكمال رفعت على الدكتور محمود فوزي حدثت أيضا مع المهندس أحمد عبده الشرباصي الذي كان تاليا للدكتور محمود فوزي في دخول الوزارة لكنه سبقه بدخوله مجلس الرياسة وهكذا أصبح ترتيبه البروتوكولي سابقا على الدكتور محمود فوزي
وقد كانت هذه الترتيبات القائمة على الأقدمية فرصة أيضا لخروج كل من الدكتور ثروت عكاشة نائب رئيس الوزراء وأمين هويدي الذي كانت أقدميته (في تصوره) تتيح له أن يكون نائبا لرئيس الوزراء وليس وزيراً فحسب.
هل كان هناك منافسون حقيقيون للدكتور محمود فوزي حين اختير وزيراً للخارجية، بالطبع كان هناك كثيرون ممّن أُعجِبَ بهم الرئيس عبد الناصر وزملاؤه إلى حدود الافتنان، وكان على رأس هؤلاء الدكتور محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية الوفدي الشهير، ومما لا يتصوره القارئ أن الدكتور محمود فوزي كان سابقا في التخرج على الدكتور محمد صلاح الدين باشا الذي كان ألمع وأنشط وأذكى من الدكتور محمود فوزي بمراحل كبيرة ، لكن كراهية حركة الضباط للوفد والغيرة من النحاس باشا ورجال النحاس باشا لم تكن تسمح للرئيس عبد الناصر أن يطلب من الدكتور صلاح الدين باشا أن يكون وزيراً للخارجية في عهد 1952، مع أن قائد الثورة لم يكًف في البداية عن الاستماع إليه والاستفادة من فكره فلما أدرك مدى أصالته وعظمته أودعه السجن في قضية ملفقة بحكم بالسجن ١٥ عاما حتى لا يستفيد منه أحد .
لم يكن محمد صلاح الدين باشا وحده هو المتاح أمام رجال 1952 وإنما كان اسم محمد عبد الخالق حسونة باشا مطروحاً فقد كان وزيراً للخارجية في وزارات مستقلة محايدة، لكن فرصته المبكرة في الحلول محل عبد الرحمن عزام في الجامعة العربية أراحته من أن يدخل مجال التنافس على وزارة الخارجية المصرية، وقد كان سابقا على الدكتور محمود فوزي في كل شيء : في الميلاد وفي السلك الدبلوماسي وفي الوظائف الكبرى بل في تولي وكالة الوزارة ومحافظ الإسكندرية ووزارتي الشئون الاجتماعية والخارجية ، وكان والده كمثل والد محمود فوزي شيخا أزهريا .
أما الدبلوماسيون التالون لمحمود فوزي في السن والذين كانوا قد وصلوا إلى مواقع لا تقل أهمية من موقعه فيشملون:
• حسن يوسف باشا رئيس الديوان الملكي بالنيابة والذي كان مرشحا قبل الدكتور محمود فوزي لدرجة الوزير (في الديوان الملكي أو غيره).
• عبد الفتاح عمرو باشا سفيرنا في لندن (المولود في 1909) والذي قدر لمحمود فوزي نفسه أن يخلفه في منصب سفيرنا في لندن لمدة قصيرة جداً بعد المدة الطويلة جداً التي قضاها عبد الفتاح عمرو (1944 ـ 1952)
• محمد عوض القوني المولود في 1906 والذي كان قد وصل إلى مناصب دبلوماسية رفيعة لا تقل عن مناصب الدكتور محمود فوزي وتولى في عهد فوزي رئاسة وفد مصر في الأمم المتحدة، كما تولى منصب السفير في موسكو ولندن، وأخيراً تولى منصب وزير السياحة في 1969 كنوع من التكريم.
ولم يكن وصول الدكتور محمود فوزي إلى منصب الوزير على وجه العموم وصولاً مُبكراً فقد سبقه إلى هذا المنصب من خريجي الحقوق التالين له في الدفعة عدد لا يُستهان به، ففي وزارة الوفد الأخيرة على سبيل المثال كان هناك أربعة وزراء جدد تالين له في التخرج، وهم:
- وزير الخارجية محمد صلاح الدين باشا المتخرج في الدفعة التالية للدكتور فوزي (1924)
- وزير البلديات إبراهيم فرج باشا الذي كان يتولى الخارجية بالنيابة (وهو متخرج في دفعة 1925)
- الوزيران حامد زكي باشا ومحمد زكي عبد المتعال باشا (المتخرجان في دفعة 1926)
هذا فضلاً بالطبع عمّن كانوا يصغرونه من قدامى وزراء الوفد وعلى رأسهم:
- فؤاد سراج الدين (الوزير من 1942 وهو من دفعة 1931)
- ومحمود سليمان غنام (الوزير منذ 1942 وهو من دفعة 1924).
بل إن أحزاب الأقلية دفعت بثلاثة كانوا زملاء دفعة للدكتور محمود فوزي (واثنين من الدفعات التالية) إلى الوزارة قبله وهم:
- مصطفى مرعي الوزير منذ ديسمبر 1948
- ومحمد علي رشدي منذ فبراير 1952
- وعبد المعطي الخيال منذ يوليو 1952
- وحسين فهمي (دفعة 1927) منذ فبراير 1949
- ومحمد زهير جرانة (من دفعة 1930) منذ فبراير 1952.
ونأتي إلى طرفة الطرائف وهي أن رئيس الوزراء الذي دخل محمود فوزي وزارته في أثناء عهدها وهو الرئيس محمد نجيب كان أصغر من الدكتور محمود فوزي، وتاليا له في دفعة الحقوق التي تخرج فيها وهو ضابط (1927).
عقب وفاة الرئيس عبد الناصر، وما أن أعلن عن توزيع الاختصاصات حتى أصبح الدكتور محمود فوزي رئيساً للوزارة وشكل الوزارة أربع مرات كانت كلها قصيرة العمر لكنها عدت أربعا، واستغرقت من الزمان أكثر من ١٥ شهرا:
- الوزارة الأولي (٢٠ أكتوبر – ١٨ نوفمبر ١٩٧٠)، كانت هي نفس وزارة الرئيس عبد الناصر الأخيرة على الحال الذي تركها عليه مع فارق واحد هو استقالة محمد حسنين هيكل من منصب وزير الإرشاد القومي.
- الوزارة الثانية (١٨ نوفمبر ١٩٧٠- ١٤ مايو ١٩٧١) وهي تمثل أول تشكيل وزاري أتمه الدكتور محمود فوزي ، فقد كان في المرة الاولي رئيسا لوزارة موروثة بدلا من رئيسها الرئيس الذي توفي أي الرئيس جمال عبد الناصر مع انه لم يكن عضوا في تلك الوزارة
- الوزارة الثالثة (١٤ مايو – ١٩ سبتمبر ١٩٧١)، بدأت في أعقاب استقالات الوزراء وما عرف على أنه ثورة أو أحداث مايو ١٩٧١
- الوزارة الرابعة (١٩ سبتمبر ١٩٧١- ١٦ يناير ١٩٧٢) وذلك بمناسبة إعلان الدستور الدائم في ذلك اليوم.
لم تشمل وزارة الدكتور محمود فوزي الأولي أي تعديل في مقاعد الوزراء فيما عدا استقالة محمد حسنين هيكل، وإسناد مهام وزارة الارشاد القومي إلي محمد محمد فائق الذي كان في ذلك الوقت وزير دولة للشئون الخارجية.
أما وزارة الدكتور محمود فوزي الثانية التي تشكلت في ١٨ نوفمبر 1970 فقد أتاحت الفرصة لثمانية وزراء جدد ونائب وزير.
وفي أثناء وزارة الدكتور محمود فوزي الثانية عين وزيران جديدان آخران هما أحمد نوح الذي عين وزيراً للطيران المدني، ومحمد عبد السلام الزيات الذي عين وزيرا لمجلس الأمة.
وأما وزارة الدكتور محمود فوزي الثالثة في 14 مايو 1971 فقد دخلها لأول مرة 10 وزراء جدد كما دخلها الدكتور محمد عبد القادر حاتم نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للإعلام (خلفاً لمحمد فائق).. كما دخلها بعد تشكيلها بأيام قليلة وزيران جديدان هما عبد الملك سعد (خلفاً لكمال هنري أبادير) ومحمد فتح الله الخطيب (خلفاً لحافظ بدوي الذي انتخب رئيساً لمجلس الشعب).
وبذلك يمكن القول بأنه في وزرات الدكتور محمود فوزي الأربعة دخل مجلس الوزراء ثلاثون عضواً لم يكن لأحدهم عهد بمجلس الوزراء قبل ذلك (فيما عدا الدكتور حاتم و المهندس إبراهيم نجيب).
10 مع التشكيل الثاني (نوفمبر1970 )
14 في التشكيل الثالث (15 مايو1971)
6 في التشكيل الرابع ( سبتمبر 1971)
ويبدو لي بوضوح لا تذكره أدبيات الثورة أن الدكتور محمود فوزي نجح في كثير من الإنجازات الدستورية الهادئة في أثناء توليه رياسة الوزارة حيث وضع الدستور الدائم في عهد وزارته الثالثة وبمشاركته .و قد نقلت في كتابي محاكمة ثورة يوليو عن الأستاذ محمد عبد السلام الزيات ما أورده في كتابه «مصر إلي أين» من أن الفضل في النص في الدستور علي تثبيت ازدواج السلطة التنفيذية المشاركة بين رئيس الجمهورية والحكومة في السياسة العامة للدولة يرجع إلي موقف حاسم للدكتور محمود فوزي وقد كان رئيساً للوزراء عند مناقشة مشروع الدستور في اللجنة المركزية . وقد عقب الزيات بقوله : إنه لا يجد نفسة في حل من ذكر التفضيلات حول هذا الموضوع!!
اختياره نائبا لرئيس الجمهورية ثم اعتزاله
ترك الدكتور محمود فوزي منصب رئيس الوزراء في يناير 1972، ليتولى منصب نائب رئيس الجمهورية، وهو المنصب الذي كان قد بقي فيه حسين الشافعي بمفرده، بعد إقالة علي صبري في مايو (1971)، وهكذا ظل الدكتور محمود فوزي بمثابة النائب [الثاني] لرئيس الجمهورية حتى 30 أغسطس 1974 حين استقال معتزلا للحياة العامة بسبب تقدم سنه، بينما بقي حسين الشافعي وحده نائبا للرئيس إلي أن خلفه الرئيس محمد حسني مبارك وحده في أبريل 1975.
هذا وقد قبل الرئيس السادات استقالة الدكتور محمود فوزي على نحو ما طلب أن تكون في يوم مولده في الثامن عشر من سبتمبر 1974.
قدم الدكتور محمود فوزي استقالته الي الرئيس السادات في 27 أغسطس 1974 و قال فيها:
” أرجو …… أكثر ما رجوت منذ الثالث من أكتوبر عام 1970- أن تأذن لي بإنهاء كل عملي الرسمي والاتجاة إلي سواه قبل الثامن عشر من سبتمبر القادم حتي أكون قد بلغت ـ بحمد الله ـ الرابعة والسبعين وأمضيت في العمل أكثر من خمسين عاماً، وأنا إذ أفسح المجال لمن هو أوفر مني عافية ، وأقدر علي حمل رسالة العمل الرسمي المقبل في ظروف النصر الجديدة بقيادتك، وأني لأرجو أن تثق في أنني سأكون دائما رهن أشارتك وهذا الوطن إذا ما تصادف أن بدا في أية مناسبة عابرة خارج النطاق الرسمي أن في جهدي المحدود بقية قد تنفذ . وكم يسعدني ذكر ما لقيته منك والوطن من إكرام ومن فضل أقابلها بالعرفان “.
وفي أكتوبر 1974، منحه الرئيس السادات في مجلس الشعب (قلادة النيل) وهي أرفع الأوسمة المصرية وتسلم الدكتور محمود فوزي هذه القلادة أمام مجلس الشعب.
مع أن الدكتور محمود فوزي لم يصبح رئيساً للوزارة إلا في أول عهد الرئيس السادات فإنه كان جديراً وقادراً علي هذا المنصب منذ ما قبل ذلك، فقد كان من رجال الحضارات ، كما كان مهتما بتثقيف نفسه إلي أبعد الحدود وكان حين يخطب في الأمم المتحدة يضمن خطاباته أبياتا لشكسبير وغيره من الشعراء الانجليز ، وكان يحرص في كل بلد يذهب إليه علي تعلم لغته وهكذا كان بالإضافة إلي العربية و الفرنسية والإنجليزية ، ملما بالإيطالية واليونانية والأسباينة ، كما كان يعرف اليابانية ويفهم حضاراتها خير فهم.،، وكان الدكتور محمود فوزي بالإضافة إلي هذا يتقن المصارعة اليابانية ويتقن فنا يابانيا آخر هو الرسم بالرمل الملون داخل الزجاج وئيدو أن الفترة التي قضاها في اليابان كانت من أخصب فترات حياته، ويذكر أنه قدم وهو وزير للخارجية بحثاً لمجلس الوزراء عن التعليم في اليابان، وكأنه كان يريد أن ينبه الي أن التعليم هو أساس ما سوف يكون لليابان من نهضة .. وقد حدث!!. كذلك يذكر له أنه كان هو صاحب الاهتمام بعمال التراحيل، وأنه سن لهم في أثناء رئاسته للوزراء قانوناً منصفا .
ومن الإنصاف للدكتور محمود فوزي أن ننفي ملامح الصورة الذهنية الشائعة عنه والتي تعود إلي ما صاغه عنه و صوره به الأستاذ محمد حسنين هيكل (ثم تداوله الرواة مع التكبير و الإضافة ) من أن الرئيس عبد الناصر سأله الرأي ذات مرة في إحدي الأزمات التي واجهتها مصر فأخذ فرصته في التفكير ثم عاد بعد وقت طويل ليقول للرئيس عبد الناصر ما معناه : إن هذه المشكلة لا يحلها إلا الإلهام الذي لايأتي الا للرئيس عبد الناصر!!
وقد انسحب هذا التصوير الذي راج عن موقف ما للدكتور محمود فوزي إلى الحكم على مواقفه في كل الأزمات، و هكذا بولغ في تحميل الدكتور محمود فوزي المسئولية عن الصمت، أو عن السكوت عن النصح الواجب للرئيس عبد الناصر ونظامه.
وقد درج كثير من كتابنا و مؤرخينا و صحافينا أن يصفوا الدكتور محمود فوزي بأنه كان بلا رأي تقريبا !! ولكن التاريخ الوئيد يظهر أن الدكتور محمود فوزي لم يكن بلا رأي، ولكنه كان صاحب رأي واضح يجتهد حتى تمكنه الظروف من أن يجد الفرصة عند مستمعيه من الضباط لاستيعابه.
كما أن البحث الهادئ في مناقشات الرجل ومواقفه يقودنا إلي الاعتراف بحكمة الدكتور محمود فوزي، وأن هذه الحكمة هي التي جنبته القرار السهل بالابتعاد الآمن ، وترك المركب التي كان يعرف أنها تواجه الأنواء الشديدة بسبب رعونة العسكريين .
وليس من شك أن الدكتور محمود فوزي لم يكن في تقديره لمصلحة بلاده حين بقي مع الثورة ومع رجالها إلا مؤثرا لهذه المصلحة على مصلحة نفسه حتى وإن كان لها نصيب بلا شك.
وقد روي المهندس سيد مرعي في مذكراته بكل وضوح أن الدكتور محمود فوزي كان مع الرئيس السادات في التنبه والتنبيه إلي ضرورة التدخل العسكري السريع علي نحو ما حدث في حرب أكتوبر لأن الوقت لم يكن في صالح قضيتنانا .
وطوال حياته كان الدكتور محمود فوزي الصديق المقرب لكثير من الشخصيات ، و كان دائما عف اللسان ، لا يثور ولا ينفعل ، ينتقي ألفاظه في حرص، كما كان، حسب ما رووا، يستدعي الفلسفة والشعر والتاريخ و حكمة الشرق.
نبدأ بمحمد حافظ اسماعيل وهو يحكى لنا قصة لقائه بالدكتور محمود فوزى حين اختير هو ليكون بمثابة الضلع الثالث وكيلاً لوزارة الخارجية مع الدكتور فوزى وزيرها، ونائبه حسين ذو الفقار صبرى:
” واستقبلنى الدكتور محمود فوزى برقته المعهودة وبريق عينيه الضيقتين، وبابتسامته الودودة. وأصبح هذا اللقاء بداية صحبة بيينا استمرت عشرين عاماً.. اتصفت بالاحترام والثقة “.
” كان الدكتور فوزى قادراً على أن يتلقى “الخشن” فى صورته الأولى، فيعيد صياغته دون أن يفقده جوهره ، مضيفاً إليه أحيانا ما يكمل أركانه أو يقومه ويلين من حدته “.
“وكان ما بهرنى فيه هو أسلوبه المتميز فى ممارسة العمل الدبلوماسى فى أدق الأدوار والمواقف.. فى حزم وصرامة تغلفها رقة اختياره لكلماته وحسن صياغته لتعبيراته . كان فكره يقظاً، وعمقه لا يسبر له غور.. ومنطقة شاملاً يستخلص من الأسباب نتائجها . كما كان استعداده أن يستمع بقدر ما يتحدث أمراً مثيراً”.
” ولم يكن فوزى يرى الدنيا بيضاء ناصعة ولا سوداء حالكة. ومنه تعلمت الحلول الوسط التى افتقدتها فى عالمى العسكرى”.
و كتب السفير عبدالرؤوف الريدي، يثني على الدكتور محمود فوزي ، فقال:
” كان فوزى رئيسًا للدبلوماسية المصرية إلا أن ذلك لا يعنى أنه كان يضع سياسة مصر الخارجية فالسياسة الخارجية فى النظام الرئاسى هى سياسة الرئيس وإن كان وزير الخارجية هو مستشاره الأول فالمسئولية فى النهاية تقع على الرئيس، وكان فوزي واسع الاطلاع.. قارئاً فى كل المجـالات، وكان أديباً فى كتاباته سواء بالعربية أو بالإنجليزية، وكان أنيقاً فى ملبسه وفى حديثه وكان يختار كلماته بعناية فائقة ، وكان وجهه بشـوشاً دائماً تعـلوه هـذه الابتسامة “اليابانية” التى اشتهر بها وكان معروفاً أنه مفاوض من الطراز الأول”
ونصل إلى أن ننقل عن مذكرات السفير سعد الفطاطرى المعنونة “سعادة السفير” ومذكرات السفير جمال بركات ما تردد من رواية مهمة عن إحدى محطاته الدبلوماسية وهي قصة الموقف الطريف الذى أشرنا إليه والذي يتعلق بتسليم الدكتور محمود فوزى أوراق اعتماده كسفير لمصر فى لندن حين نسى هذه الأوراق، و توقف في وسط الطريق ثم اكتشف الدبلوماسيون المصريون الحلول الأخرى التى كان يمكن لها أن تنقذ الموقف على نحو ما ذكر السفير جمال بركات فى كتابه :
” كان يرافق السفير بالعربة الأولى رئيس التشريفات .. وكنا جميعاً بالزى الرسمى (الفراك) والأوسمة.
” أتذكر بهذه المناسبة، طرفة أسوقها للتفكه . فانه ما كاد موكبنا بعرباته المطهمة التى تجرها الجياد المصحوبة بالحرس.. ما كاد الموكب يخترق شوارع لندن إلا وتوقف بعد عشر دقائق فى منتصف الطريق .. فقد تذكر الدكتور محمود فوزى أنه نسى أوراق اعتماده على المكتب بغرفته .. الأمر الذى اضطر أحد الحراس أن يجرى بحصانه حتى السفارة ليحضرها.. مضى علينا الوقت ونحن في العربات يحملق فينا الناس ونحملق فيهم وكأننا نمثل فيلما عن العصور الوسطى”
” كان يمكن، أن يتفق على أن يسلم السفير للملكة مظروفاً خالياً إنقاذاً للموقف وأن يوافى القصر بعد ذلك بالأوراق ”
قصيدة مديح أنشدها الأستاذ عبد الحميد عبد الغني في د. محمود فوزي
وهذه فقرات رائعة في مديح الدكتور محمود فوزي كتبها الأستاذ عبد الحميد عبد الغني رئيس تحرير أخبار اليوم و المشهور باسم عبد الحميد الكاتب و الذي هو صاحب الفضل على قراء العربية بتعريفهم بجورج أوريل والذي كان رئيسا لتحرير أخبار اليوم كما أنه كان تلميذا وفيا للدكتور محمود فوزي . ولا أزال أعتبر هذا المقال القيم الذي كتبه الأستاذ عبد الحميد الكاتب في رثاء الدكتور محمود فوزي من أفضل مرثيات الساسة المصريين ، والمقال نموذج نادر للحديث عن أخلاق نادرة لمن طبعوا علي النزاهة والطهارة و لم يكن للفساد مهما انفتحت الأبواب سبيل إليهم ، و هذه الفقرات لا تعطي الأمل فحسب ولكنها تصور مدي تفاوت نتائج اختيار القيادات الحاكمة.
قال الأستاذ عبد الحميد الكاتب في مدخل حديثه عن الدكتور محمود فوزي :
” ….. كان مثلاً أعلي في النزاهة.. بل لعله بلغ في هذا درجة لا نعرفها إلا فيما نقرؤه عن السلف الصالح.. ولا شك أن له شعوره الديني العميق فقد كان رجلاً متديناً.. بل كان فيه شيء كثير من التصوف.. كان هو منبع نزاهته الكاملة.. كان وزيراً للخارجية اثنتي عشرة سنة. وطوال هذه السنين الطويلة لم يرض محمود فوزي أن يدخل وزارة الداخلية في منصب كبير أو في وظيفة صغيرة أحدا من أقاربه أو أصهاره أو البعيدين. وظل هذا مبدأه ومسلكه عندما صار رئيساً للوزارة، ثم نائباً لرئيس الجمهورية، كان في تحرجه من أن يستفيد ماديا من مناصبه الكبيرة هذه يبلغ حد التزمت الغريب…! قال لي أحد العاملين معه عندما كان رئيسا للوزارة، أنه حدث أن رأي سيارة الوزارة واقفة أمام منزله عند المساء، فسأل عن السبب.. فقيل له أن الطائرة التي سيسافر عليها ابنه إلى لندن موعدها الساعة الثانية صباحاً.. كيف سيسافر الشاب إلي المطار من البيت الريفي الذي يقيم فيه مع والده بعيداً عن شارع الهرم بعدة كيلو مترات.. لا تكسيات هناك في تلك الساعة !!. قال: لا ، لا.. عندنا سيارتنا الخاصة.. وهي سيارة قديمة كان قد اشتراها من نيويورك من خمسة عشر عاماً.. فليأت أحد أصدقاء ابني ، وليذهب إلي المطار!.. وصرف سيارة الحكومة وسائقها!
” وسألت في تلك الأيام مدير مكتبه عن رقم تليفونه في الأسكندرية.. وكان قد ذهب إليها أيام الصيف حين تنتقل الوزارة إلي هناك..وقلت له : سأتصل به تليفونيا فقد يكون عنده متسع من الوقت للقاءه والحديث معه بعيداً عن زحمة العمل والمقابلات في القاهرة ! فقال لي : صدق أو لا تصدق!… إنه ينزل في شقة ابنته وزوجها..وليس في الشقة تليفون.. ونحن نتصل به طوال اليوم بواسطة الموتوسيكل.. يذهب ويجيء من البيت إلي رئاسة الوزارة “.
ونصل إلى التعبير الدقيق الموحي الذي يتحدث به الأستاذ عبد الحميد الكاتب عن حرب ١٩٥٦ ودور الدكتور فوزي ، وهو بأدب شديد يستخدم حرف الشرط : لو فيقول :
“…..وقد أتيح للدكتور فوزي أن يدخل مفاوضات معقدة مع سياسين دوليين من أمثال جروميكو ودلاس وأيدن وأثبت الرجل نجاحا منقطع النظير، ولو قيل إن مصر انتصرت في حرب 1956 فلا بد لنا أن نردف أن للدكتور محمود فوزي نصيب كبير في تحقيق هذا النصر” .
” وبالاضافة إلي هذا فإن محمود فوزي صاحب مدرسة من الدبلوماسيين المصريين الذين وصلوا إلي أن يكونوا وزارء خارجية وسفراء مرموقين حتي يومنا هذا ، و ربما كان المصري الوحيد صاحب هذه المدرسة، ومع أن في جيله من كانت الفرصة في أن يربي من زملائه الصغار تلاميذ في مدرسة ولكن الدكتور محمود فوزي كان يتميز علي الجميع بأنه صاحب شخصية فيها من التكامل ما يمكنها من القيام بدور الأستاذية غير المفروضة ولا المتكلفة.”
ننقل عن الأستاذ عبد الحميد عبد الغني أيضا بعضا من الفقرات التي تصور اهتمامات الدكتور محمود فوزي بقضية فلسطين وحواره مع كسينجر :
“ولا شك في أن محمود فوزي كان يؤمن إيمانا عميقاً بأن قضية فلسطين وقضية القدس، هي قضية قومية تهم مصر مثلما تهم العالم العربي والعالم الاسلامي. ولعل من أسباب ارتباطه العقلي والروحي بقضية فلسطين أنه عمل في شبابه قنصلاً عاماً لمصر في مدينة القدس وهتاك بدأت دراسته العميقة للحركة الصهيونية، ثم استكمل هذه الدراسة وتشبع بها خلال السنين التي عمل فيها في الأمم المتحدة، وعاشها في مدينة نيويورك التي هي أكبر مراكز تلك الحركة. وكانت المسألة في ذهنه واضحة كل الوضوح”
” .بعد أن أعتزل وزارة الخارجية بعدة سنوات ذهب إلي واشنطن ليمثل مصر في تشييع جنازة ايزنهاور..وكان كيسنجر حينذاك قد تولي وزارة الخارجية الأمريكية فطلب مقابلة فوزي .
“وتقابلا.”
” سمعت منه أنه قبل أن يجلس علي مقعده سألة كيسنجر.. متي ستعترفون باسرائيل ؟ فأجابه فوزي بهدوء. عندما تحدد إسرائيل حدودها.. أنت يامستر كيسنجر، أستاذ للعلوم السياسية في جامعة هارفارد.. وتعرف أن أول شرط في الاعتراف بأية دولة أن تكون لها حدود معروفة ومعلنة، ومعترف بها.. وإسرائيل منذ قامت وحتى هذا اليوم ترفض أن تعلن عما تعتبره حدودا لها.. وهي لهذا تقول مثلا إن الضفة الغربية هي جزء من أراضي إسرائيل.. وأحياناً تمتد حدودها فتشمل قطاع غزة ، وتشمل الجولان”
” هذا هو السؤال الذي تجيب عليه إسرائيل.. قبل أن تطلب اعترافنا بها.
” ووجد كبسنجر نفسه أمام رجل قوي واضح في حجته..
“وكان هذا هو اللقاء الأول والأخير بين فوزي وكيسنجر”.
فتحى رضوان يوازن بين أسلوبه في موقفين مختلفين
لم يكن فتحي رضوان من المعجبين بالدكتور محمود فوزي ولا المعترفين له بقدرة فائقة، ومع هذا فإنه كان حريصا في مذكراته (التي تدارسناها في كتابنا في رحاب العدالة) على أن يثني عليه في موقف واحد هو موقفه الرافض لفكرة سفر الرئيس عبد الناصر إلي لندن في أثناء العدوان الثلاثي، وقد أشرنا في كتابنا إلي هذه القصة التي يقول فتحي رضوان فيها بوضوح:
… ” …. وتكلم الدكتور محمود فوزي، وعلى النقيض مما يقوله عنه خصومه، ويروجونه بكل وسيلة، بأنه رجل يؤثر السلامة، ويفر من مواقف المسئولية، ويخفي رأيه إرضاء لصاحب السلطة، مستعملا أسلوبا (لولبيا) في التعبير عن الرأي على النقيض من هذه الصورة الثابتة.. كان محمود فوزي يومذاك، حاسما.. فقد أعلن، وبلا تحفظ، أنه ضد سفر رئيس جمهورية مصر إلى لندن…».
ولكن هذا التقدير العابر لم يمنع فتحي رضوان بالطبع من أن يتحدث عن الدكتور محمود فوزي بانتقاد شديد حين صور اجتماعات اللجنة الثلاثية المكلفة بكتابة بيان الوحدة مع سوريا ١٩٥٨، فذكر أنه حدث أن دفع باب حجرة الاجتماع برفق، وظهر الدكتور محمود فوزي، فلما رآنا أغلق الباب بسرعة وكأنه أتي أمرا مستنكرا.. وينتهز فتحي رضوان هذه الفرصة ليروي كثيرا من الآراء المتحاملة على شخصية الدكتور محمود فوزي حيث يقول:
«كانت هذه الحركة من جانب الدكتور محمود فوزي كافية لأن تثير عفيف البزري، وكان على ما أذكره قائد الجيش ووزير حربية سوريا، فقد صرخ: «كيف.. كيف سيدي! وزير الخارجية المصرية يتحرج من أن يدخل علينا وأن يسألنا إلى ما ذا وصلنا، ويمنحنا بعض توجيهاته، أليس ذوبان بلده في كيان أكبر عملا من أخص خصائص الخارجية، ما يصير هذا».
«فرد عليه صلاح البيطار: «ولكن الدكتور فوزي يعلم أن المجتمعين شكلوا لجنة رباعية لوضع البيان، فلا يجوز له أن يقحم نفسه على هذه اللجنة، فأثار هذا الرد البزري أكثر مما أثاره تصرف الدكتور فوزي، وعلا صوته وقال: «لجنة.. لجنة.. لجنة سيدي ما في اللجنة سر علي عضو في الاجتماع الأكبر، ولا عليه، وهو وزير الخارجية، تأليف اللجنة هو إجراء عملي فقط.. ولكن هذه الخطة، خطة البعد عن مواطن المسئولية، وإيثار العافية والصمت، هي عيوب في كبار رجالنا الفنيين، وهذا ما أغضبني».
وعند هذا الحد يبدأ الأستاذ فتحي رضوان الاستطراد ليقدم بعض آراء الناقدين للدكتور محمود فوزي:
«كان ذلك داعيا لأن نترك البيان لفترة غير قصيرة لمناقشة شخصية الدكتور فوزي، وقد انضم إلينا في الحديث الموظفون الفنيون الذين كانوا معنا في الحجرة، وقد بدأوا الحديث أول الأمر على استحياء، ثم لما اطمأنوا إلى أن أحدا لم يمنعهم، أفاضوا في الحديث عن أسلوب الدكتور فوزي وخطته، وذكروا أنه ترك وزارة الخارجية للسيد حسين ذو الفقار ـ وكيلها ـ وأنه تقريبا لا يأتي إلى مكتبه، وأن سكرتيره الخاص نقل في إحدى حركات التنقلات دون أن يعرف الدكتور فوزي!! فضلا عن أن يستأذن في ذلك، وأن السفير حسين غالب رشدي ـ وكان سفيرا لمصر في إسبانيا ـ خرج ذات يوم من لدي وزير الخارجية الدكتور فوزي، بعد أن سمع منه ثناء جما على عمله، ووعدا بأنه سينقل في الحركة القادمة إلى مكان أفضل من إسبانيا، فإذا به يفاجأ بأنه فصل من السلك السياسي كله!!».
ثم يستطرد فتحي رضوان بذكاء مردداً بعض الآراء المتداولة على نطاق واسع في شخصية الدكتور محمود فوزي، وربما أن هذه الآراء لم تتوال في تلك الجلسة على هذا النحو لكن فتحي رضوان قد جمعها على هذا النحو من الدهاء المبرر بحكم ما كان يكنه من عدم تقدير للدكتور فوزي:
«وقال آخر: «إن هذا شأن كبار الدبلوماسيين.. فإن تاليران عمل مع الثورة الفرنسية ومع نابليون ومع ملكية البوربون بعد سقوط نابليون»، وهنا صاح صائح من السوريين قائلا: « تاليران كان قادرا علي الاحتفاظ بمركزه لدهائه، ومرونته، وتكيفه، لكنه كان شخصية فعالة تبدي رأيها ولا تصمت وتكافح وتداور وتناور»، وبالغ أحدهم في الحملة علي الدكتور فوزي فقال: «إنه يأبي أن يحمل ساعة في يده أو جيبه لكي لا يسأل أحدهم كم الساعة، فيضطر إلي الإجابة!!».
«وذكر ثان أنه سمع من أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة أنه لا يذكر أنه سمع صوت الدكتور فوزي، ولذلك فهو لا يعرفه».
«وقال ثالث: «من الغرائب أن الكثيرين يحملون على سياسة عبد الناصر الخارجية، ويسمونها بالحماقة والاندفاع وعدم التخطيط والسطحية، ومع ذلك يتحدثون في نفس الوقت عن كفاءة وعبقرية الدكتور فوزي وزير الخارجية، وهو إما أن يكون واضع هذه السياسة الخارجية، فيتحمل وزرها، وإما أن يكون لا رأي له في سياسة بلاده الخارجية فينتفي أساسا القول بكفاءته وبراعته وألمعيته».
لعل أسوأ نقد وجه إلي الدكتور محمود فوزي هو ما جاهر به الدكتور عبد الرحمن بدوي في مذكراته الشهيرة، ونقلنا عنه بعضه في كتابنا ” تكوين العقل العربي “من انتقاد ضعف الأداء والجهل في موقفه وهو وزير للخارجية من التعامل مع المجتمع الدولي في أثناء نشوب النزاع بين مصر والدول الأخرى بعد تأميم قناة السويس.
وقد قدم الدكتور عبد الرحمن بدوي صورة في منتهي السخرية الكاريكاتيرية لأداء الدكتور فوزي في هذه الأزمة، ومع أن أداء الدكتور محمود فوزي يحظى بانتقادات شديدة في كثير من الكتابات، إلا أن صورته في أي كتابة ناقدة لم تصل إلى هذا المستوي الذي يصفها به الدكتور بدوي من السذاجة والبلاهة:
«وتدخلت هيئة الأمم فوكلت إلى سكرتيرها العام داج همرشولد مهمة التوسط في النزاع، واتفق هذا على اللقاء بوزير الخارجية المصرية محمود فوزي في جنيف لبحث الموضوع».
« وجاء محمود فوزي خلال شهر أكتوبر، وكنت في جنيف، فاشتركت في استقباله في مطار جنيف، ولما نزل من الطائرة، سأله بعض الصحفيين عن رأيه في الموقف، فأجاب: «الجو جميل في جنيف، والسماء صاحية»، فدهش الصحفيون من هذا الجواب، فكرروا السؤال، فكرر هو نفس الجواب، وازدادت الدهشة من هذا الوزير، ورد عليه أحد الصحفيين قائلا: ما هذا الذي يقوله وزيركم?! ماذا أصابه? فابتسمت وقلت: ربما كان هذا هو ما يسمي بالدهاء الدبلوماسي!».
ويستطرد الدكتور عبد الرحمن بدوي إلي تعجبه من أن يكون مستوي أداء الدكتور فوزي متدنيا إلى هذا الحد:
«وأصابتني حيرة وخجل من هذا الوزير الذي لا يستطيع أن يرد بجملتين تتعلقان بالموضوع ولا تلزمانه بشيء، كأن يقول مثلا: «أنا قادم إلى جنيف للالتقاء بسكرتير عام الأمم المتحدة لبحث موضوع تأميم القناة، وأرجو أن نصل إلى حل في هذه المسألة!» أو ما يشبه ذلك من عبارات مفيدة لا تقيده بشيء، أما أن يقول ما يقوله فهذه هي البلاهة بعينها».
ثم يصل الدكتور عبد الرحمن بدوي إلي تقرير حقيقة الدكتور فوزي من وجهة نظره هو في الحكم علي سلوكه:
«وازددت يقينا من بلاهة هذا الرجل، الذي زمر له بعض الصحفيين (يقصد أنهم هللوا له ولقدرته) منذ أن كان ممثلا دائما لمصر في هيئة الأمم المتحدة من سنة 1947 حتى سنة 1952، لما أن جاء إلي برن، وأقام له السفير عشاء حضره أعضاء السفارة، وكان الهدف من الاجتماع به استيضاح الأمور الجارية والإفادة من توجهاته، لكنه أمضي السهرة كلها، طوال ثلاث ساعات، دون أن ينطق بكلمة واحدة في موضوع الساعة. وأنبري مستشار السفارة ـ وهو شخص ناقص العقل ـ وتحدث عن صيد الأسود في الصومال وكينيا، يوم أن كان عضوا في هيئة الوصاية على الصومال قبيل استقلاله، وكلما حاولت أن أسأل محمود فوزي عن رأيه في الموقف الحالي كان يشيح بوجهه ويطلب من ذلك المستشار المأفون أن يتابع حديثه عن صيد الأسود في الصومال وكينيا! وهمست في أذن الملحق العسكري ليدخل ويوقف هذا الهراء، فاعتصم بالصمت!».
وأخيرا يبلور الدكتور عبد الرحمن بدوي الرأي الذي وصل إليه في شأن وزير الخارجية المصري بقوله:
«وهكذا أيقنت أن وزير الخارجية المصري محمود فوزي، ما هو إلا رجل معتوه جهول لا يدري في السياسة شيئا».
«ثم سمعته بعد ذلك، بعد العدوان الثلاثي، يخطب في مجلس الأمن عند عرض هذا العدوان علي مجلس الأمن، فسمعت شخصا عييا غبيا لا يستطيع أن ينطق بحجة، فضلا عن صوته الذي كان يموء به مواء القط المخنوق، خصوصا وقد تلاه في الخطابة آبا إيبان بفصاحته وبلاغته وصوته الجهوري الأخاذ، فامتلأت نفسي حسرة وغما، وأنا أسمع المناقشات في مجلس الأمن من الراديو السويسري وهو ينقلها علي الهواء مباشرة من نيويورك ابتداء من منتصف الليل».
ثم يتساءل الدكتور عبد الرحمن بدوي عن طبيعة العلاقة بين الرئيس عبد الناصر وهذا الوزير:
«ألم يخطر ببال عبد الناصر أن يستمع إلي كلام ممثله في مجلس الأمن في أثناء عرض قضية العدوان الثلاثي علي مصر في أوائل نوفمبر سنة 1956، ويدرك منه مدي عي وعجز هذا المندوب، محمود فوزي?».
«لكن يبدو أن هذا العي والعجز هما الصفتان المطلوبتان في وزرائه وأعوانه».
ترك الدكتور محمود فوزي مذكرات مكتوبة نشرت حلقات متفرقة منها في مجلة «الدبلوماسي» التي تصدر عن نادي الدبلوماسيين في وزارة الخارجية المصرية، ونشرت بعض فقرات منها في دوريات متنوعة، ولسنا نعرف على وجه التحديد متى تنشر مذكراته الكاملة .
في يونيو 1980 أصيب الدكتور محمود فوزي بما كان يعرف في ذلك الوقت بأنه مضاعفات تصلب شرايين القلب.. ونقل على أثرها إلى غرفة الرعاية المركزة بالمستشفى الجامعي بالإسكندرية.
وفي 24 مارس 1981 أصيب بأزمة في شريان المخ أدت إلى نوبة شلل وحالة فقدان النطق ونقل إلى غرفة الرعاية المركزة بمستشفيي المدراش. وقرر الرئيس أنور السادات سفره للعلاج في لندن على نفقة الدولة. وسافر بالفعل وعاد قبل وفاته بشهر ونصف بلا تحسن كبير فبقي في مستشفيي دار الشفاء.. وفيها تحسنت صحته للدرجة التي سمحت له بالتحرك على كرسي متحرك كان يتجول به في ردهات المستشفى.
توفي محمود فوزي يوم الجمعة ١٢ يونية ١٩٨١.
%MCEPASTEBIN%
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا