كان اللجوء البرتغالي الكاثوليكي إلى فكرة شبيهة بفكرة المهدي المنتظر أو فكرة الإمام الغائب حلاً عبقرياً وإجبارياً في الوقت نفسه للهزيمة المروعة التي تلقّاها ملك البرتغال سيباستيان حين انهزم أمام جيوش العثمانيين في معركة الملوك الثلاثة 1578 وكانت من أقسى الهزائم وأفدحها في التاريخ الأوروبي الوسيط، وقد ذكرنا في تدوينة سابقة أن الملوك الأوروبيين لم يبخلوا عليه بالجنود ولا العتاد ولا السفن مع أن بعضهم لم يكن موافقاً له على هذه المُخاطرة بحرب الجيوش والأساطيل العثمانية، فلما جاءت الهزيمة الفادحة في ساعات كان لا بد من مُعالجة ولو وهمية للروح المعنوية للشعب الذي فقد ملكه وجيشه وأسطوله، وهنا لجأ بعض قساوسة الكاثوليك إلى فكرة أن سيباستيان لم يمُت، وأنه سيعود لينتقم، وليحكم العالم ذات يوم. وهكذا عاشت الفكرة من جيل على جيل وظهرت تجلّياتها في بلاد البرتغال على صعيدين كما هو الحال في مثل هذه الفكرة.
التجلي الأول: هو التريث والانتظار وما يستتبّعه من أدبيات وتعاويذ وأدعية، ومُبشرات ودلائل.. إلخ.
التجلي الثاني: هو أن يظهر من حين لآخر من يَزعُم أنه هو الإمام الغائب أو المهدي المنتظر أو سيباستيان البرتغالي، ويُطالب بحقوقه أو يؤدي المهمة على نحو ما يتصورها ويرسم معالمها من الأسطورة والخيال والثقافة والواقع. وبالطبع فإن هذا التجلي الثاني للفكرة يستتبع أن يكون للمدعي أتباع، ومقتنعون، ومؤسسة ولو مؤقتة تؤدي حقوق التطلعات والأماني حتى لو كانت ستُجهض بعد حين.
ومن الإنصاف لعقلنا أن نقول أن هذه الفكرة كان لها ما يُبرّرُها في ذلك العصر الذي نشأت فيه، ذلك أن سيباستيان كان ينتظره مستقبل واعد لو عاش، فقد آلت إليه مملكة البرتغال بطريقة قدرية وهو لا يزال في الثالثة من عمره، وكان حفيداً لملكين مُهمّين جداً أحدهما هو كارلوس الخامس والد أمه الذي كان إمبراطورا رومانياً مُقدساً من أقوى من مروا على هذا المنصب، وقد خلفه شقيقه ثم ابنه، وابن شقيقه مع قرابة هؤلاء جميعاً للمهدي المنتظر البرتغالي من ناحية أمه التي كانت ابنة لذلك الإمبراطور القوي، أما جده البرتغالي الذي ورثه مباشرة نتيجة وفاة أبيه قبل جده فكان هو نفسه زوجاً لشقيقة كارلوس وشقيقاً لزوجة كارلوس. وعلى طريقتي في كتابة الأنساب بطريقة علم الجبر فإن سيباستيان كان سبطا لسبط (أو ابنا لبنت ابن بنت) الملكة الإسبانية إيزابيلا عميدة التعصب ضد المسلمين والإسلام كما أنه كان حفيد سبط (أو ابنا لابن ابن بنتها الأخرى).
لكن رعونة هذا الملك في التعدي على المسلمين ومواجهة الدولة العثمانية في أوج صعودها أفقدته كل شيء: حياته وعرشه وجيشه وأسطوله. ومع هذا فإن قساوسته أخذوا من التراث الفكري المتاح عند بعض فلاسفة ومؤرخي المسلمين فكرتي المهدي المنتظر، أو الإمام الغائب وصنعوا منها ما أصفه بأنه كان بمثابة أسطورة علاجية للشعب البرتغالي تُغطي ضياع هيبة البرتغال بل ودولتها التي كانت أول دولة أوربية مارست الاستعمار في مقابل الفتوحات الإسلامية. والواقع أن سيباستيان الذي هو سبط لكارلوس من ابنته كان شبيها لجده في نيل العرش لكنه لم يهنأ بهذا العرش بسبب وفاته المبكرة عن 24 عاماً (1554 ـ 1578)، مع أنه كان الأبن الوحيد لوالده الأمير جواو مانويل الذي توفي قبل ولادته بأسبوعين، فلما توفي جده الملك جوان الثالث (زوج شقيقة كارلوس وشقيق زوجة كارلوس) بعد ثلاثة أعوام أصبح هذا الطفل هو وريث مملكة البرتغال، بينما كان عمه قد انصرف مُبكراً إلى الدير نظراً لأنه كان أصغر من أبيه، وفيما بعد وفاة سيباستيان الفُجائية فإن هذا العم سيترك الدير والرهبنة ليخلُفَ ابن أخيه لفترة قصيرة جداً يموت بعدها.
ومن عجائب التاريخ القاسي وعلم النفس معاً أن أم المهدي المنتظر وهي جوانا ابنة كارلوس (والمسماة على اسم جدتها جوانا المجنونة ابنة إيزابيلا زعيمة التعصّب) لم تر ابنها هذا منذ كان رضيعاً ذلك أنها فضّلت الاهتمام بعرش إسبانيا على الاهتمام بعرش البرتغال، فعرش إسبانيا هو عرش ابيها، وهو عرش أخيها فيليب الثاني وهكذا فإنها في 1556 تركت البرتغال إلى إسبانيا وتركت ابنها (الذي صوروه على أنه المهدي المنتظر) فلم تره منذ كان رضيعاً في الثانية من عمره، وها هي تعيش حتى 1576 أي حتى بلوغه التاسعة عشر من عمره من دون أن تُرتب أمر زواجه على الرغم من وجودها في إسبانيا وأنه كان بوسعها أن ترتب أمر زواجه من ابنة أخيها فيليب او من غيرها من المرشحات للزواج منه.
كانت للمهدي المُنتظر البرتغالي خالة هي ماريا (1528 ـ 1602) قدر لها أن تعيش طويلاً بمتوسط اعمار ذلك الزمان (75 عاما) وقد تزوجت ماريا هذه من ابن عمها، ماكسمليان الذي اجتمعت فيه خيوط الإمبراطورية، فقد ورث أباه وكان أبوه إمبراطوراً ورث عمه الإمبراطور وهكذا فإن ماكسمليان الثاني (1527 ـ 1576) الذي هو ابن شقيق كارلوس، وزوج ابنة كارلوس خلف أباه الذي كان قد خلف عمه (والذي هو حموه أيضا) وأصبح هو الإمبراطور الروماني المقدس ما بين 1564 و1576، وبالإضافة إلى هذا فقد كان ملكا لبوهيميا منذ ما قبل تنصيبه إمبراطوراً مقدساً بعامين (سبتمبر 1562 وحتى وفاته) وملكا لألمانيا (منذ نوفمبر 1562 وحتى وفاته) وملكا للمجر وكرواتيا (منذ سبتمبر 1563 مع النزاع عليها).
قدر لماكسمليان الثاني الذي هو زوج خالة الملك البرتغالي (الذي صوروه على أنه المهدي المنتظر) أن يعيش حتى يرى صعود المهدي المنتظر البرتغالي لكنه توفي (1576) قبله بعامين وورثه ابنه رودولف الثاني (1552 ـ 1612) الذي كان يكبُر المهدي المنتظر البرتغالي بعامين لكنه عاش بعده 34 عاماً وتولى مهمة الإمبراطور الروماني المقدس خلفاً لأبيه الذي اجتمعت فيه جينات إمبراطورين رومانيين مقدسين كان أولهما عمه، وثانيهما والده وقد توليا الإمبراطورية الرومانية المقدسة على التوالي قبل ماكسمليان الذي خلفهما، ثم خلفه ابنه رودلف الثاني، وقد كان للإمبراطور ماكسمليان زوج خالة سيباستيان شقيق أصغر منه خلفه في الإمبراطورية وهو ماتياس (1557 ـ 1619)، وشقيقة هي إليزابيث الإسبانية ـ الفرنسية (1554 ـ 1592) التي تزوجت شارل التاسع ملك فرنسا (1570 ـ 1574) وعاصرت عهد سميتها الملكة العذراء المُباركة اليزابيث الأولى ملكة بريطانيا (1532 ـ 1602).
وهكذا كان عرش إسبانيا ينتقل من كارلوس إلى شقيقه ثم إلى ابنه ثم إلى ابن شقيقه (الذي هو زوج ابنته) ثم إلى حفيد الشقيق (الذي هو حفيده أيضا) بينما كان حظ العرش البرتغالي سيئا فها هو المهدي المنتظر البرتغالي الذي خلف جدّه المُعاصر لكارلوس وسليمان القانوني الذي هو أيضا حفيد لكارلوس يفقد حياته وجيشه وأسطوله في 1878 ويضيع العرش البرتغالي الذي يؤول بعد عامين إلى خاله الملك فيليب الثاني الإسباني ابن الإمبراطور كارلوس.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا