من الحقائق التاريخية التي لم تسجل بعد أن القسم العربي في الإذاعة البريطانية كان مستودعا للكفاءات الثقافية طيلة حقبة الحرب الباردة. فقد كانت سطوة هذه الإذاعة قوية على الثقافة والساسة معا وقد قدر لهذه المؤسسة أن تختار مذيعيها على نحو فريد ومتميز كما أن الكفاءات العربية كانت تقبل على نوال هذا الشرف، ولاتزال أسماء نجوم هذه الإذاعة محفورة في أذهان من حضروا عهدها الزاهر وفي مقدمة هؤلاء كبير مذيعيها المثقف العربي العظيم حسين الكرمي صاحب البرنامج الشهير قول على قول وهو البرنامج الذي طبعت نصوصه في مجلدات متعددة.
وعلى سبيل المثال فإنه في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي بدار الإذاعة البريطانية نذكر أن الشاعر أحمد خميس والفنان الكبير محمود مرسى والعالم الكبير د. يوسف عز الدين عيسى شاركوا معا في القسم العربي من هذه الإذاعة العريقة: أحمد خميس مذيعاً، ومحمود مرسى مخرجاً، ويوسف عز الدين عيسى مؤلفاً درامياً.. وبعد سنوات قليلة دفعهم حب الوطن أن يتركوا مناصبهم احتجاجا على العدوان الثلاثي على مصر (في التاسع والعشرين من أكتوبر 1956) الذي اشتركت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وقد اتخذ هؤلاء المبدعون قرارا فوريا بالعودة إلى مصر.
كان السفير حسين أحمد أمين قد عمل هو الآخر في هذه الإذاعة وقد ترك لنا نصا جميلا عن شخصية زميل له هو المذيع السوري صباح محيي الدين وقد قدمه في صورة شخصية بارزة بين المثقفين العرب لم يتح لها العمر، ومن ثم فإن العرب لم يفيدوا منها بالقدر المرجو أو المتوقع، لكن حسين أمين على ما يروي كان قد اكتشف فيه ما عجز عن تصوره مجتمعا في شخص واحد:
«… والواقع أنه (الضمير يعود على المذيع والمثقف العربي العظيم حسين الكرمي) لم يكن يحترم من بيننا ولا يرتاح تماما إلى أحد منا غير شاب سوري في الثلاثين من العمر، هو في زعمي أحد أهم الروائيين، وكتّاب القصة القصيرة في سوريا في العقد التالي للحرب العالمية الثانية، ولا أزال إلى اليوم أجدني مفتونا بروايته “السيمفونية الناقصة”، ومجموعته القصصية “زعتر صفد”، وأعيد قراءتهما بين الفينة والفينة».
«كان هذا الشاب، واسمه صباح محيي الدين، قصير القامة، عريض المنكبين، أسمر الوجه، وسيم الملامح، ذا شارب كث كشارب جوركي أو نيتشة، مليئا بالحيوية الزائدة، والطاقة غير المعهودة في العمل، متزوجا من امرأة فرنسية، وقد كان ـ بصرف النظر عن موهبته الأدبية ـ عظيم الثقافة رغم صغر سنه، رفيع مستوي اللغة العربية، مجيدا إلى جانبها لكل من الفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية، والألمانية، والروسية. كان إنسانا عجيبا حقا، هو دوما على عجل، يدخل مبني الإذاعة مهرولا وكأنما هو في طريقه إلى إطفاء حريق شب فيه، ويقتحم علينا غرفة المذيعين اقتحام الزوبعة، وهو يخلع معطفه أثناء هرولته، ملقيا علينا تحية جماعية مقتضبة، دون مصافحة، ودون أن ينظر إلينا، ثم يجلس إلى مكتبه فيشرع على الفور في أداء عمله، حتى إذا ما فرغ منه أخرج ملحمة “اللوزيادة” لشاعر البرتغال الأعظم كمويش، معها قاموسا في اللغة البرتغالية، فإن سألته عن سبب اهتمامه بالبرتغالية أجابك بأنه ينوي قضاء إجازته الصيفية في لشبونة، ويعد نفسه للرحلة بتعلم اللغة، أما عند قراءته فهي ليست كقراءات أمثالنا من عامة الناس في “الحرب والسلام” أو “الأخوة كرامازوف” أو “تدهور وسقوط الإمبراطورية الرومانية”، فقد فرغ من قراءة كل هذا منذ زمن طويل، وإنما هو يقرأ في فقه اللغة الفرنسية، أو تاريخ الدنمارك، أو طبيعة الصخور في صقلية، أو أثر العرب في صناعة السجاد في الأندلس في القرنين الحادي عشر والثاني عشر».
«كان (أي صباح محيي الدين) عند أعضاء القسم العربي من الإذاعة بمثابة دائرة المعارف البريطانية، إن رأينا أمر أو جهلنا شيئا قصدناه بالسؤال، فيجيبنا من فوره دون أن يرفع رأسه، أو حتى عينيه، عن الكتاب أمامه، أو العمل الذي انشغل به، وهو ما يدفعني إلى الاعتقاد بأنه لو صادف ورآني في الطرق أو المسرح أو الحافلة العامة لما تعرّف علي، فما أذكر أننا تحادثنا طويلا ولو مرة واحدة وجها لوجه، فالحديث مع أمثالي وأمثال زملائنا مضيعة للوقت، والحياة عنده أثمن وأقصر من أن يضيعها على ما لا طائل وراءه».
ـ صباح ! في أي عام ألف مسكويه كتابه “تجارب الأمم”؟
ـ عام 980.
ـ صباح ! كم يبلغ ارتفاع مدينة ساو باولو بالبرازيل عن سطح البحر؟
ـ 710 أمتار.
ـ صباح ! ما الدول التي وقّعت على صلح ويستفاليا عام 1648؟
ـ فرنسا، والسويد، وإسبانيا، وهولندا، والإمبراطورية الرومانية المقدسة.
ـ صباح ! ما متوسط طول عمر النحلة؟
ـ ستة أسابيع.
«ولا أزال أذكر أنه في ربيع 1956 بدأت الصحافة البريطانية تفيض في حديثها عن برتولت بريخت ومسرحه بمناسبة قرب وصول فرقته الألمانية وعلى رأسها زوجته الممثلة هيلينا فايجل لتمثيل مسرحيته “دائرة الطباشير القوقازية”، و”الأم الشجاعة” في لندن، وإذ كانت هذه هي المرة الأولي التي أسمع فيها اسم بريخت، فقد رأيت أن أسأل صباح».
ـ صباح ! أسمعت بكاتب مسرحي ألماني يُدعي برتولت بريخت؟
«وكانت إجابته على سؤالي دون أن يرفع رأسه:
ـ رسالتي للماجستير في جامعة السوربون عام 1948 كانت حول نظرية بريخت عن علاقة الجمهور بما يشهده على المسرح من شخصيات وأحداث».
«وتمر الأيام، وأترك عملي بالإذاعة البريطانية عائدا إلى مصر، وألتحق بالسلك الدبلوماسي المصري فأعين عام 1959 ملحقا بالسفارة في كندا، وقد رأيت أن يكون سفري إليها عن طريق لندن، فتوقفت فيها لبضعة أيام، وقصدت مبني الإذاعة قرب جسر واترلو، أسأل عن زملائي القدامى، وحين سألت عن صباح محيي الدين أجابني حسن الكرمي بصوت يتهدج:
«أما علمت؟ لقي مصرعه في العام الماضي في حادث سيارة بالكويت».
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا