كان الرئيس أنور السادات محظوظاً في كثير جداً من مُقوّمات حياته الإنسانية والسياسية على الرغم من أن الحظوظ كانت قد خاصمت عصره وجيله بسبب البطر على النعمة والكُفر بها، لكن السادات فيما يبدو لم يكن مُتبطّراً على النعمة ولا كافراً بها، ولعل في قصته مع مدير مكتبه فوزي عبد الحافظ دليلاً على هذا كلّه. فقد ظل هذا الرجل العظيم مديراً لمكتب الرئيس السادات ولصيقاً به طيلة فترة الرئاسة وحتى لحظة الاغتيال حين ألقى بنفسه على الرئيس السادات في جسارة بالغة يُحاول إنقاذه من دفعات الرصاص التي وُجّهَتْ إليه فإذا به يُصاب إصابات بالغة اقتضت بقاءه للعلاج في الولايات المتحدة الأمريكية لفترة طويلة عاد بعدها إلى مصر هادئاً صامتاً مُلتزماً حريصاً على أن تبقى صورة السادات والعصر الذي عاشه بلا أي رتوش يضيفها، ولا ألوان يضفيها، ولا روايات يُزكّيها فكان في حياته التي امتدت حتى الثامنة والثمانين صورة فاضلة لا تقلُّ في مزاياها عن الفترات التي عاشها مع الرئيس السادات منذ عرفه لأول مرة حين عُيّن لحراسته في 1954.
حين بدأت ثورة يوليو 1952 تفرض الحراسة على قادتها لتُثبت صورة أنهم مُستهدفون في حياتهم، ولتُبرّرَ بدايات عصر الدولة البوليسية التي ازدهرت ملامحها بعد ذلك. وعلى حين كان زملاء السادات يَختارون للمسئولية عن مكاتبهم ضباط جيش لا حقين بهم ممن خدموا معهم أو تحت قيادتهم فإن السادات آنس من ضابط الشرطة الرائد فوزي عبد الحافظ روحاً قادرة على أن تتجاوب مع أخلاقه وأدائه، فآثر أن يجعله أمين سرّه والمسئول عن عمله وبيته أيضاً. كان فوزي عبد الحافظ قد تخرّج في كلية الشرطة في دفعة 1945 وهي الدُفعة التي تخرّج فيها الوزيران حسن أبو باشا وسعد الشربيني، وكان حين عمل مع السادات للمرة الأولى كان يقد وصل إلى رتبة الصاغ (الرائد) ومنذ ذلك اليوم عاش فوزي عبد الحافظ في وجدان السادات وعائلته على أنه “الصاغ فوزي” وكأن الصاغ جزء من اسمه حتى بعد أن وصل إلى درجة الوزير مع وصول زملائه إليها بحكم الأقدمية، ومع وصوله هو نفسه إلى سن الستين في 1980، حين كان الخيار الوحيد في نظام السادات الملتزم بسن التقاعد هو أن ينال فوزي عبد الحافظ درجة الوزير التي كان يستحقها عن جدارة وأقدمية، وإلا ترك منصبه ليشغله ممن لا يزالون في الخدمة مّن هم دون الستّين، وهكذا استمر فوزي عبد الحافظ فيما تبقى من عهد السادات (1980 ـ 1981) مديراً لمكتب الرئيس بدرجة وزير. قبل هذا كان فوزي عبد الحافظ مديراً لمكتب الرئيس السادات وهو رئيس لمجلس الأمة، كما كان مديراً لمكتب الرئيس وهو مسئول عن المؤتمر الإسلامي، ومع أن كثيرين من مديري مكتب أعضاء مجلس قيادة الثورة ظلوا في مكانتهم من العمل مع هؤلاء الثوار لفترات طويلة فإن فوزي عبد الحافظ كان هو الوحيد الذي استمرّ هذه الفترة كلها وحتى 1981. حقق فوزي عبد الحافظ على هذا النجاح الهادئ الواثق بفضل مجموعة من الصفات الشخصية التي لا يُمكنُ لأحد أن يُنكرها حتى مع مُضي الزمن فقد عاش هذا الرجل مُترفّعاً عن الصغائر حتى إنك مع مُضي الزمن وكثرة الروايات والتشويهات لا تجد ذرة واحدة علقت بحياته العظيمة فلا هو طغى ولا هو بغى، ولا أفسد ولا أوصد، ولا هو ترفّع ولا تصنع، ولا هو تجبّر ولا تكبر، ولا هو صنع لأحد صورة من الصور التي كانت كفيلة بتغيير مسار الأمور إيجابا أو سلبا. حافظ على أسرته الصغيرة فبارك الله له في زوجه وأولاده الثلاثة، وكانت زوجه السيدة كوثر مخلوف أخت المُفتي الأشهر الشيخ حسنين مخلوف الذي عاش مائة عام (1590 ـ 1990) وتخرّج من قبل أن يولد الرئيس السادات ومات بعد أن اغتيل.
حرص فوزي عبد الحافظ على الدوام على أن ينأى بنفسه عن مواطن الشُبهات وعن مزالق النفوذ. وكان في تعامله مع الوزراء وكبار رجال الدولة حريصاً على أن يُؤدي دوره في حدوده التقليدية المُلتزمة إلى أبعد الحدود، فلم يدفعه الهوى إلى أن ينضوي في حزب أو جماعة أو أن ينصُرَ مجموعة على أخرى أو أن يُقدم خدمات مدفوعة الثمن لأي مصري أو عربي، وقد تماهت شخصيته في شخصية الرئيس السادات فأصبح حضوره يُحس في كل خطوة من خطوات السادات الواثقة والناجحة دون أن يقود نفسه إلى أن يروي أنه هو الذي أشار أو الذي اقترح أو الذي أقنع أو الذي بلّغ أو الذي استنتج أو الذي كشف أو اكتشف مع أنه بالطبع ومن دون استنتاج أو تحقيق فعل هذا كله آناء الليل وأطراف النهار. لم يسمح فوزي عبد الحافظ لنفسه أن يتدخل في أمور جهاز الشرطة الذي بدأ حياته فيه والذي كان زملاؤه فيه قد وصلوا إلى المواقع العظيمة المتقدمة بحُكم أقدميتاهم، وربما أنه عاش ومات من دون أن يعرف كثيرون ممّنْ عاشروه أو تعاملوا معه على أنه كان في الأصل ضابط شرطة.
تعامل فوزي عبد الحافظ بثقة وأمانة واحترام وتحفُّظ دافئ مع كل من تعاقبوا عليه في رئاسة الجمهورية ومن تولوا مناصب نائب رئيس الجمهورية (وهم أربعة) ومناصب رياسة الديوان وأمانته، ووزير شئون رياسة الجمهورية، كبير الأمناء، وكبير الياوران، وسكرتير الرئيس للمعلومات وكبار موظفي الرئاسة، فضلاً عن الوزراء السابقين الذين كانوا ينقلون بدرجة وزير ليكونوا وزراء في رئاسة الجمهورية. ولهذا فإنك لا تجد أحداً منهم جميعاً يُلقي عليه بتبعة فشله في موقف أو استبعاده من مكانته بما في ذلك محمد حافظ إسماعيل وعبد الفتاح عبد الله ومحمد حسنين هيكل وأسامة الباز ومنصور حسن وسامي شرف وأشرف مروان.. الخ، وغيرهم ممّن فرضت الأحداث وجودهم في ساحات المناقشات عن الروايات. كان الوحيد من أقربائه الذي وصل إلى منصب الوزارة في عهد الرئيس السادات هو الدكتور أحمد كمال أبو المجد الذي بدأ وزير للشباب ثم وزيراً للإعلام (على نفس النمط الذي كرّره أنس الفقي في عهد الرئيس مبارك)، وقد كان وصول أبو المجد مُتوقّعاً وإن جاء مُبكّراً بعض الشيء، على نحو ما كان خروجه متأخراً بعض الشيء.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا