توفي الدكتور حسين مؤنس عميد المؤرخين الأدباء وغيره من أساتذتنا الكبار قبل أن يكشف لهم الزمن عن حقائق كثيرة تتعلق بتاريخ مصر المعاصر ودور القنوات المخابراتية الخفية في صناعة رجاله وتقديم نجومه وضبط أفعالهم وتوجيهها إلى ما يخدم مصلحة إسرائيل في المقام الأول. ومن هؤلاء الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي كانت نظرة الدكتور مؤنس له تحاول (دون جدوى) أن تنتظر منه ما يقترب من مستوى الصحفيين أو الأدباء الأوروبيين الذين احتلوا مكانة شبيهة بمكانته من نظام دكتاتور مؤثر مثل الرئيس عبد الناصر.
ولهذا فقد كان الدكتور حسين مؤنس في فصول كتابه «باشوات وسوبر باشوات» يري أن الأستاذ هيكل لم يكن في الحقيقة وفي أعظم أيام عزه وسلطانه أكثر من نديم: “والصحفي الكبير الذي كانوا يقولون إنه مخزن الفكر للريس لم يكن في الحقيقة وفي أعظم أيام عزه وسلطانه أكثر من نديم أو مشير، “والرئيس عبد الناصر كان يضرب بكرامته عرض الحائط إذا أراد”.
ومن العجيب أن حكم الدكتور مؤنس بأن الأستاذ هيكل لم يكن إلا نديما فحسب جاء في أعقاب ما نشره الأستاذ هيكل نفسه عن محنة مصطفى أمين مع السجن في عهد الرئيس عبد الناصر: “وقد تبينت ذلك من قراءتي للمذكرات التي كان يكتبها في جريدة الشعب خاصة بما جري على الصحفيين الكبيرين على أمين ومصطفي أمين وما أصابهما من سجن وضرب، فأنت تجد صاحبنا يشير على الرئيس عبد الناصر بالرأي أو يطلب منه الطلب والرئيس عبد الناصر لا يكاد يصغي إليه. ولا يتم إلا ما في ذهن الرئيس عبد الناصر نفسه، لأنه لم يكن يثق في هذا الصحفي أو غيره”.
“أما أنه يدخل عليه ويتصل به وقتما يريد فمسألة لا معني لها لأن الرئيس عبد الناصر كان في حاجة إلى أن يتصل بأحد، وكان لا بد أن يكون له سمير أو نديم أو إنسان يتحدث معه، وصاحبنا كان نديما سميراً واسع الذكاء كثير المعارف واسع الاطلاع”، “والرئيس عبد الناصر كان يجد في الجلوس إليه والاستماع منه تسرية عن نفسه وتسلية وتخفيفاً من وطأة العمل”.
ويستطرد الدكتور حسين مؤنس فيدين الأستاذ محمد حسنين هيكل منتقدا تقاعسه عن إبداء الرأي في الوقت الذي شهد عز مجده، وبالطبع فان الدكتور مؤنس لم يكن يعرف أن الأستاذ هيكل كان بمثابة عنصر من العناصر التي تخدم شبكة مخابرات عالمية أذاقت وطننا المر كله، وهكذا فقد كان دوره الفاعل يتلخص في ألا يقول ما يعرفه عن الحقيقة: “أما أن هذا الرجل كان صاحب رأي الرئيس عبد الناصر فغير صحيح إلا فيما يتعلق بالتوافه والشكليات”.
“وقد كان هذا الصحفي يعرف عن أحوال الجيش قبيل إعلان حرب 1967 الشيء الكثير، ولكنه لم يجرؤ مرة واحدة على أن يقول الحقيقة لعبد الناصر، بل لم يصارحه بما كان يدور في ذهنه، وكان هذا الصحفي يسمع من الأمريكيين كثيراً جداً عن احتمالات الهزيمة أو أنها مؤكدة. ولكنه لم يقل لا للرئيس عبد الناصر حرفا لأن وظيفته لم تكن البحث عن الحقائق وإطلاع الرئيس عليها بل التحري عن الحقائق التي يريد الرئيس عبد الناصر أن يؤكدها لنفسه فيبلغه بما يشتهي، وإذا أراد أن يرتفع بإنسان أتته صفحة الرجل بيضاء من غير سوء”. وحين ينتقل الدكتور حسين مؤنس إلى تأمل تاريخ الأستاذ هيكل في الستينيات، فإنه بسعة أفقه يلجأ إلى فكرة ذكية (لا محل لها في الواقع) يقارن فيها بين موقف هيكل مع الرئيس عبد الناصر وموقف مكسيم جورجي مع لينين: “…. في تلك السنوات كان كاتب العصر ينشر في الأهرام مقالات فيما سماه أهل الثقة وأهل الخبرة، الأولون أولي بكل شيء، والآخرون لهم اللعنات وإلى جهنم، هكذا ضيعوا العلم أيضاً..
“والذين يعرفون تاريخ مصر يعرفون أن هذا البلد نجا من أسوأ ما مر به من محن وأزمات بفضل شيئين أثنين: احترام الناس للقانون وثقتهم في القضاء، ثم احترامهم للعلم وأهله”. “وجدير بالذكر هنا أن ما أشار إليه السادات من أن أهم الساعين إلى القضاء على العائلات والمياسير وأهل النعمة -كبيرة كانت أم صغيرة- كان مستشار الرئيس عبد الناصر الصحفي.. وكان هو أيضا مستشاره الفكري”.
“فقارن بهذا موقف مكسيم جورجي كبير رجال الفكر في الثورة الشيوعية وصديق لينين إلى آخر حياته.. فإن جورجي وقف حامياً للفكر والعلم والفن وأهلهم جميعاً.. وكان لا يتردد في مجادلة لينيين وكف يد أتباعه عن امتهان كرامات الناس وإذلالهم. “وإليه يرجع الفضل في حماية جانب كبير من تراث روسيا العلمي والفني والفكري.. “ومكسيم جوركي كان صاحب مبادئ، وقد ظل يعيش عي الكفاف إلى آخر أيام حياته..”.
ثم يبلور الدكتور مؤنس رأيه في الأستاذ هيكل فيقول: “أما المستشار الصحفي للرئيس الرئيس عبد الناصر فكان قد تحول إلى رأسمالي موسر عظيم.. وإلى هذا يرجع فيما أحسب بغضه لأبناء العائلات والمياسير والمثقفين عامة.. “وهو هنا لا يختلف عن بقية مماليك السلطان”.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا