الرئيسية / المكتبة الصحفية / أفريقيا التي كانت تنتظر من عبد الناصر أكثر من فخره بها

أفريقيا التي كانت تنتظر من عبد الناصر أكثر من فخره بها


كثيرا ما أجدني مضطرا إلى تكرار القول بأن الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن متيما بأن يستفيد من فرصة الزعامة الإسلامية الكبرى التي كانت سانحة ومتاحة له في ظل انشغاله بالزعامة العربية المناوئة له، وإذا كنا الآن قد أصبحنا نفهم أنه لم يكن يحب أن يقدم شيئا للعالم الإسلامي فإننا لا نستطيع أن نفهم تفريطه في الزعامة التي كانت متاحة له في أمريكا اللاتينية وفي دول أوروبية غربية مثل إسبانيا والبرتغال واليونان، وفي القارة الإفريقية التي ترك الرئيس جمال عبد الناصر ملفها بالكامل في يد مجموعات محددة ومحدودة من قبيل المخابرات ومحمد فائق وعبد العزيز إسحق وشركة النصر للتصدير والاستيراد ومكاتب مصر للطيران مكتفيا بأداء أدوار اجتماعية محدودة من قبل دور الأبوة لأولاد نكروما الذي كان قد تزوج مصرية على يد الرئيس جمال عبد الناصر ومن قبيل إخراج وتهريب أسرة لوممبا بعد ما تعرض له من انقلاب واعتقال.

وليس معنى هذا أننا نوافق من يقولون إن إفريقيا لم تتأثر تأثرا حقيقيا بعهد الرئيس جمال عبد الناصر وبمجده الإعلامي، بل على العكس فإنها تأثرت بأكثر مما استوعب الرئيس عبد الناصر نفسه وكانت أفريقيا فخورة به أكثر من فخره بنفسه وفخره بها.. لكنه كان مشغولا تماما عنها إلى الحد الذي لم يجهد نفسه في أن يستحوذ للقاهرة مثلا على مقر الوحدة الإفريقية على الرغم من أن أغلب الأفارقة كانوا يتمنون هذا، وقل مثل هذا في المنظمات الدولية التي آثرت أن تتخذ من نيروبي مثلا مقرا لها، وبالطبع فقد كان في إمكان الرئيس جمال عبد الناصر بل كان من واجب الرئيس جمال عبد الناصر في عهد الثورة المعرفية أن يوظف أوقاف الأزهر وموارده البشرية الضخمة في نشر معاهد أزهرية في إفريقيا حين كانت تكلفة هذا الانتشار لا تتعدى خانة المئات من العملات، لكنه اكتفى بالحفاظ على ما كانت العادة جرت عليه من الدول اللصيقة كالسودان والصومال وليبيا والجزائر دون أن يذهب بالقدر المأمول ولا حتى الحد الأدنى الكافي إلى المتعطشين في تشاد والسنغال ونيجيريا وجزر القمر وموريشيوس وموزمبيق وغينيا وغانا وكينيا وتنزانيا وأوغندا وجامبيا وزامبيا.


وفي الغالب فإن كان هذا متوافقا بالطبع مع ما عرف من الانحيازات المعروفة للرئيس جمال عبد الناصر السياسية المعروفة التي كان ينحاز فيها أوتوماتيا إلى الجانب المعادي للمسلمين لكن أحدا لم يكن يصدق أن يكون هناك مصري يفكر بهذه الطريقة المعادية للإسلام على نحو ما حدث بالفعل في السياسات التي انتهجها الرئيس جمال عبد الناصر وجعلته يشترك مع مجرمي تنزانيا في إبادة مسلمي زنجبار التي كانت تابعة لحكم البو سعيديين العُمانيين حتى ذلك الوقت، وكانت من وجهة النظر الاستراتيجية بمثابة امتداد لعرب آسيا على الساحل الإفريقي الشرقي.. لكن سياسة الرئيس جمال عبد الناصر كانت بكل أسف من أفقر السياسات الوطنية خيالا وأقصرها نظرا وأقلها طموحا وإن كانت تزعم العكس.

و ليس هناك شك في أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يخفي بذكاء ما كان يتعرض له كل يوم من تهديدات الأمريكيين الصريحة وغير المعلنة إذا هو بذل أي جهد في هذا الملف الذي لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية تتسامح فيه مع أي جهد يصب في زيادة عدد المسلمين الأفارقة أو رفع مستواهم الاجتماعي أو الإنساني، والقارئ للتاريخ يدرك أن أفريقيا تعرضت لمجاعات كثيرة طيلة عهد عبد الناصر وكان من الممكن للجهود المصرية أن تنقذ الأفارقة من الموت لكن الإمبريالية كانت تفضل البديل الذي يجعل هؤلاء يفقدون الحياة على البديل الآخر وهو أن يفقدوا وثنيتهم لصالح الإسلام القريب منهم.

ومن إحقاق الحق أن نشير إلى ان الرئيس عبد الناصر لم يكن قادراً بالوسائل ولموارد المتاحة له على أن يفهم تفصيلات موقف الأمريكيين الحقيقي من إفريقيا ولا من الإسلام في إفريقيا فقد كانت المؤشرات التي أمامه تُشير بوضوح إلى إلحاح أمريكي على فصل السودان عن مصر، مع حديث خافت عن سوء أوضاع جنوب السودان، ومع أن الأمريكيين كانوا يؤلبون من يُصادفونهم من أبناء جنوب السودان على الإسلام فإنهم لم يكونوا جادين في تقديم أي عون ولو كان تبشيريا صريحا في هذه المنطقة وصحيح أن الأمر الواقع لم يخلُ من جهود أمريكية مُستمرة ودائبة للتبشير في الجنوب لكنها كانت أقل مما تُتيحه الإمكانات الأمريكية.

يبدو، والعلم عند الله، أن أمريكا كانت ولا تزال تضع ملف جنوب السودان ضمن الملفات الآجلة التي ستنظر فيها في المستقبل مع حرص شديد على ألا تسمح لأحد غيرها أن يتناول هذا الملف الآن. ومن الواضح أن زعامات جنوب السودان المحلية لم تنتبه حتى الآن بالقدر الكافي إلى ما يُمكن لها أن تؤديه من سياسة ومن عمل سياسي من أجل مستقبلها فهي ترى الشمال يُعاني من العسكر مرة بعد أخرى، ولا تتصور هذه الزعامات عملا سياسياً لا يُسهم فيه العسكر بالقدر الكافي لتثبيت سلطة ما أية سلطة في أوضاع غير قابلة للاستقرار إلا بمنطق القوة الغاشمة.

كانت هذه هي كل أبعاد الصورة المتاحة بعد جهد جهيد أمام الرئيس عبد الناصر وهو يرنو بنظره إلى أفريقيا فيجد اندفاعات ماركسية لا تتمكن من السلطة إلا من خلال العسكر ومن خلال تطعيمها بتطمينات موثوق بها عند الغرب، ويجد في الوقت ذاته حماسة وإيماناً وجهاداً وفداء عند المسلمين الذين ورثوا عقيدة عظيمة وتاريخاً مجيداً لكنهم ورثوا في الوقت ذاته عداءات مريرة وحقداً من الغربيين عليهم وتحفزا ضد أي تقدم يحرزونه، ومع أن الظروف كانت تُتيح للرئيس عبد الناصر فرصا ذهبية للانتصار الساحق فإنه كان متردّداً إلى أبعد الحدود كما حريصا على إرضاء الاتحاد السوفييتي من ناحية والولايات المتحدة من ناحية أخرى وذلك على النقيض مما كان يوحي به خطابه الحماسي المنطلق بلا حدود.

ولعل موقف عبد الناصر في الكونغو يمثل صورة واضحة المعالم للفشل الممنهج لعبد الناصر في افريقيا والعالم الثالث كله، فقد كانت الكونجو كلها مع عبد الناصر بل إن الأمم المتحدة نفسها مكّنت عبد الناصر من أن يكون موجوداً في الكونغو بنوعين من القوات: قوات مصرية تخضع لمصر بنسبة 100% وقوات مصرية تخضع ظاهريا لإشراف الأمم المتحدة بينما هي مصرية بنسبة 100%، ومن العجيب الذي لا يمكن لأحد أن يتصوره أن الرئيس عبد الناصر نفسه اختار لقيادة هذين النوعين من القوات قائدين عسكريين قريبين منه في أقدمية القوات المسلحة وأن هذين القائدين بالذات دونا عن كل الضباط المصريين كانا هما على وجه التحديد القائد العام ورئيس الأركان في حرب أكتوبر 1973 بعد 12 عاماً من أزمة الكونغو.. ومع هذا فإن إدارة عبد الناصر للموقف المصري في الكونغو لم تحقق ما يتناسب مع الطموح الناصري بل إن أقصى نجاح حققته مصر في الكونغو كان هو نجاحها في تهريب أولاد الزعيم الكونغولي لومومبا مع ترك لومومبا نفسه ليلقى الإعدام على يد القوات الكونغولية المناوئة له والمتعاونة مع البلجيكيين والمخابرات الأمريكية.

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com