كان الرئيس ناظم القدسي (1906 ـ 1998) هو الزعيم السوري الوحيد الذي تولى الرئاسات الثلاث فبالإضافة إلى رئاسته للجمهورية (1961 ـ 1963) ورئاسته للوزارة مرتين في 1949 و1950-1951 فقد تولى رئاسة مجلس النواب 1954. وباستثناء الدكتور معروف الدواليبي فإنه هو أصغر رؤساء وزراء سوريا فيما قبل الوحدة مع مصر سنا. كان الرئيس ناظم القدسي هو من وقع عليه الاختيار ليكون رئيس الجمهورية المدني الذي يرأس سوريا بعد رحيل نظام الرئيس جمال عبد الناصر بالانفصال الذي قاده العقيد عبد الكريم النحلاوي وقد تولٌى رئاسة الجمهورية ما بين 14 ديسمبر 1961 أي بعد الانفصال بشهر ونصف وحتى استيلاء البعث على السلطة في 8 مارس 1963. ومع كل هذا فقد كان الرئيس ناظم القدسي من زعماء سوريا الذي أصابتهم لعنة الناصرية ومُعقٌباتها.
ولد الرئيس ناظم القدسي في مدينة حلب 1906 وتلقٌى تعليما متميٌزا في مدينته ثم درس الثانوية في دمشق وفي الجامعة الأمريكية في بيروت وفي جنيف. وبدأ حياته السياسية منتميا إلى حزب الكتلة الوطنية بقيادة هاشم الأتاسي لكنه فيما صور به مسيرته بدأ يختلف مع قيادة الكتلة الوطنية حين أعلنت الاتفاقات عن ضم لواء إسكندرون إلى تركيا في 1939، ومن ثم فإنه قرٌر أن ينضم إلى تحالف سياسي في حلب يقوده الزعيم رشدي الكخيا (1899 ـ 1987) زعيم حزب الشعب السوري فيما بعد. وقد فاز الرجلان في الانتخابات البرلمانية في 1943. وفي عهد رئاسة الرئيس شكري القوتلي لسوريا في 1943 عٌيٌن الرئيس ناظم القدسي كأول سفير لسوريا في الولايات المتحدة الأمريكية، وقدم أوراق اعتماده للرئيس روزفلت في مارس 1945.
وفي 1947 اشترك مع الزعيم رشدي الكخيا والدكتور معروف الدواليبي في بلورة إعلان تأسيس حزب الشعب الذي أصبح أبرز حزب مُعارض للكتلة الوطنية (وهي الحزب الأم) التي تحوٌل اسمها إلى الحزب الوطني، وفي الأوساط السياسية عرف حزب الشعب على أنه حزب الحلبيين، وصوره اليسار على أنه حزب الهاشميين أي المتعاونين مع النظام الحاكم في العراق، وكان العرش العراقي كما هو معروف هاشميا يرتبط بأواصر العائلة مع الهاشميين في الأردن كما يرتبط بالمعسكر الغربي ارتباط تحالف يقوده رئيس الوزراء نوري السعيد.
فاز الرئيس ناظم القدسي في الانتخابات البرلمانية في 1947 وكان قد أعلن عن مُعارضته لطريقة انتخاب الرئيس شكري القوتلي رئيسا للجمهورية. ولما وقع انقلاب الزعيم حسني الزعيم في مارس 1949 طلب قائد الانقلاب من الرئيس ناظم القدسي تشكيل الحكومة لكن الرئيس القدسي رفض، منتقدا وصول الزعيم للسلطة بانقلاب، فاعتقله الزعيم حسني الزعيم وأغلق مكاتب حزب الشعب، ثم أطلق سراحه ووضعه تحت الإقامة الجبرية في حلب. وواصل الرئيس ناظم القدسي انتقاد سياسات الزعيم حسني الزعيم وبخاصة مع موقفه الذي اندفع إليه بإغلاق الحدود مع العراق والأردن والإيحاء بأنه سيُحارب الدولتين لأنهما عميلتان لبريطانيا!
كان من الطبيعي أن يُساند الرئيس ناظم القدسي انقلاب العميد سامي الحناوي شأنه في هذا شأن كثير من السياسيين السوريين الذين كانوا قد اقتنعوا من الواقع المتسارع ان الخلاص من حسني الزعيم يُعدٌ هدفا جوهريا حتى لو أسقطه عسكريون مثله، ويبدو أنهم كانوا على حق، ذلك أن العسكريين التالين للزعيم حسني الزعيم لم يصلوا إلى مُستواه في الحماس والاندفاع والتهور، وفضلا عن هذا فإن العميد سامي الحناوي نفسه كان صديقا لحزب الشعب كما كان على النقيض من الزعيم حسني الزعيم صديقا للهاشميين. وهكذا رأس الرئيس ناظم القدسي لجنة سياسية لإدارة البلاد حتى شكٌل الرئيس هاشم الأتاسي ما سُمٌي بحكومة إدارة الأزمة (17 أغسطس 1949) وهي الحكومة التي بقيت حتى 24 ديسمبر 1949 حيث تم إعلان نتيجة الانتخابات وفوز الرئيس هاشم الأتاسي برياسة الجمهورية (ونحن لا نزال في عهد انقلاب سامي الحناوي).
كلٌف الرئيس الأتاسي الرئيس ناظم القدسي بأن يتولى رئاسة الوزارة فشكٌلها، وقد شغل في هذه الوزارة منصب وزير الخارجية بنفسه، فيما شغل رشدي الزعيم رشدي الكخيا منصب وزير الداخلية، وشغل أعضاء في حزب الشعب بقية المناصب الوزارية. لكن العسكريين صوٌتوا ضد حكومته فأسقطوها بعد ثلاثة أيام (أو أربعة) من تشكيلها وأعلن هؤلاء بوضوح سبب اعتراضهم بأن الحكومة لم تضُم أحدا من الضباط فضلا عن أنها تُعارض تدخل العسكريين في السياسة وهكذا ظهر بوضوح أن الباب الذي فتحه حسني الزعيم لم يُغلقه سامي الحناوي ولن يُغلقه أحد وبهذا بدأ عهد الانقلاب الثالث الذي قاده العقيد أديب الشيشكلي في ديسمبر 1949.
وفي عهد هذا الانقلاب كان العقيد الشيشكلي قد فضٌل مبدأ الازدواجية وأن يحكم بطريقة غير مباشرة ومن وراء ستار، وهكذا تم تكليف الرئيس خالد العظم رئيسا للوزراء من 27 ديسمبر 1949 وحتى 4 يونيو 1950 حيث عادت الأمور لتُلقي برئاسة الوزراء في يد الرئيس ناظم القدسي الذي شكٌل وزارته الثانية في يونيو 1950 وهي وزارة طويلة العمر نسبيا لأنها بقيت 10 شهور حتى نهاية مارس 1951 (27 مارس 1951) حيث عاد الرئيس خالد العظم لرئاسة الوزارة حتى أغسطس 1951.
ثم جاء العهد الذي تولى فيه العقيد أديب الشيشكلي السلطة بنفسه فيما يُعرف بانقلاب العقيد الشيشكلي الثاني في نوفمبر 1951، حيث عُيٌن الرئيس محمد فوزي السلو رئيسا مؤقتا للجمهورية. وفي هذا العهد الجديد أودع الرئيس ناظم القدسي في سجن المزة وتمادى العقيد الشيشكلي فزعم أن الرئيس ناظم القدسي يُريد إعادة الملكية العميلة لبريطانيا وبعد فترة قصيرة أطلق العقيد الشيشكلي سراح الرئيس ناظم القدسي في يناير 1952 على أن يبقى تحت الإقامة الجبرية. وبالرغم من هذه الإقامة الجبرية فإن الرئيس ناظم القدسي كان من الذين تمكنوا من أن يساعدوا في الانقلاب على العقيد الشيشكلي والتخلُص منه في فبراير 1954.
وعندما بدأ ربيع الديموقراطية في سوريا 1954 أصبح الرئيس ناظم القدسي عضوا في البرلمان بل انتُخب كناطق باسم البرلمان، لكن الدعاية العسكرية المُشوٌهة لوجه العراق والوحدة مع العراق ظلت تُواجهه وكأن العلاقة مع العراق جريمة. والواقع أن الرئيس ناظم القدسي قد سارع بإخلاص وجدية إلى محادثات مع الأمير عبد الإله في بغداد لإقامة وحدة بين سوريا والعراق، وتكرٌرت زياراته لبغداد لهذا الغرض لكنه صرح بأنه لم يكن على استعداد للقبول بأيٌة وحدة طبيعية ولا القبول بوحدة فيديرالية تتوحد فيها شئون الدفاع والحرب، وهكذا كانت جهود الرئيس ناظم القدسي وأمثاله تتحطم من حيث لا يعلمون سر تحطٌمها.
حاول الرئيس ناظم القدسي أن يُنقد سوريا من الوقوع في فلك الناصرية لكن الوقت كان قد تأخر، فقد كان الانتماء للمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي يوفر معالم الحلم في نهضة سريعة، وكان الانضمام للرئيس جمال عبد الناصر يبدو وكأنه سوف يذهب بسوريا إلى هذا الحلم بطريقة مُباشرة وقصيرة، وكان الإعلام العربي يُهاجم حلف بغداد والغرب بضراوة لا نظير لها، وشملت الاتهامات الرئيس ناظم القدسي الذي صورته الصحافة الناصرية عميلا للغرب، وهكذا آثر الرئيس ناظم القدسي الانسحاب من الحياة السياسية، في الوقت الذي بدأت فيه أسهم صبري العسلي وأكرم الحوراني في الارتفاع، وإن كانا سرعان ما تحوٌلا إلى خصوم للرئيس جمال عبد الناصر بعد أن كانا أشد مؤيٌديه حين قامت الوحدة مع مصر في فبراير 1958.
عاد الرئيس ناظم القدسي فاستقرٌ في مدينة حلب إلى أن حدث الانفصال عن مصر فاختير كما ذكرنا ليكون رئيسا لسوريا (1961 ـ 1963) خلفا للرئيس جمال عبد الناصر وفي 1962فاز الرئيس ناظم القدسي أيضا بعضوية البرلمان. لكنه بالطبع فقد كل مكاناته المنتخبة مع استيلاء حزب البعث نهائيا على الحكم في مارس 1963 وعاش الرئيس ناظم القدسي بقية حياته يُعاني من الإحباط من الساسة، وقد توفي في عمان 1998 فكان من آخر من رحلوا من ساسة سوريا الذين شهدوا عصرها الديموقراطي.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا