يعتقد العرب والذين يتكلّمون لغتهم من غيرهم أن اللغة العربية تنفرد بالتشكيل الذي يوضع على الحروف فيجعل الحرف مضموماً أو مفتوحاً أو مكسوراً أو ساكناً، وهو اعتقاد له نصيب كبير من الصحة، وقد ساعد اللغة العربية على أن تكون أبجديّتها مركزة الفاعلية أي أن تُكتب اللغة بعدد أقل من الحروف الكفيلة بالنُطق الصائب مع بقاء الفرصة لكتابتها بالتشكيل للمبتدئين أو للحالات التي يُخشى معها اللُبس في المعنى أم عدم القُدرة على تحديد المُراد.
لهذا السبب فإن كتابة الإعلام العربية بالحروف الأجنبية إذا خضعت للقواعد الصوتية أنتجت ضعف العدد من الحروف، وعلى سبيل المثال فإن أكثر الأسماء شيوعاً هو محمد إذا كتبته بالطريقة الصوتية فإنه يصل إلى ثمانية حروف لاتينية فالضمّة على الميم الأولى تتحوّلُ إلى حرف سواء كان هذا الحرف هو O أو U والفتحة على الحاء تتحول إلى حرف هو في الغالب A والحاء نفسها ربّما يُعبّرُ عنها بأكثر من حرف لأن حرف الإتش H غير كاف للتعبير الدقيق عن الحاء k كما أن الشدة على الميم تجعلها حرفي ميم وليس حرفاً واحداً، وكذلك الفتحة على الميم تتحوّلُ إلى حرف هو في المظنون A وإن كان الإنجليز قد تواضعوا منذ معرفتهم للمشرق العربي على أن يُعبروا عن هذه الفتحة على الميم الثانية من محمد بحرف E على الرغم مما يبدو ظاهريا من عدم مناسبته، وإن كان التأمل المقارن بالمتشابهات يجعله مُناسباً بلا تعسّف، وهكذا يكون متوسط عدد الحروف الإنجليزية المُعبرة عن محمد بدقة مع التوقيف والإنفاق ما بين سبعة إلى ثمانية حروف.. ولا يختلف الأمر كثيراً في اللغة الفرنسية واللغة الإيطالية واللغة الألمانية وإن كانت الألمانية دوناً عن الّلغات الثلاث لأخرى تُصمّمُ على تكرار حرف M للتعبير عن الشدة التي فوق الميم الثانية في محمّد.
نعود إلى قراءة اللغة العربية للمتمرّسين بها من أبنائها فنجد الذين أرّخوا لكتابة القرآن الكريم يذكرون بكل وضوح أن عناية المسلمين الأوائل بتشكيل الكلمات سبقت عنايتهم بنقط الحروف المنقوطة ونحن نعلم أن الباء والتاء والثاء والياء والنون (الوسطى والأولى) كانت تُكتبُ جميعاً بصورة واحدة في ظل غياب التنقيط عن حروف اللغة العربية. ومن الجدير بالذكر أن المسلمين الأوائل لمّا قرّروا وضع حركات التشكيل وضعوها على هيئة نقط عادية قبل أن يتحولوا مع الزمن إلى الأشكال التي نعرفها الآن لحركات التشكيل. والقول الراجح في الروايات التاريخية يُرجع الفضل في تشكيل حروف اللغة العربية إلى زياد بن أبيه الذي كلّف أبا الأسود الدؤلي بهذه المهمة ليخترع لها ما يُحقّقها ولينفذ اختراعه!
وتروى الروايات أن أبا الأسود الدولي ظل مُتردّداً في القيام بهذه المهمة ولم يحسم أمره إلا عندما سمع رجلا يقرأ قول الحق جلّ جلاله “ان الله بريء من المشركين ورسوله، بجرّ اللام فقال: معاذ الله أن يتبرّأ الله من رسوله وبدأ بوضع الحركات فوضع نقطة فوق الحرف للفتحة، ونقطة إلى جوار الحرف للضمّة، ونقطة أسفل الحرف للكسرة، وعبر عن أي تنوين لأي من هذه الحركات بنقطتين متجاورتين، واعتمد في هذا كله على أن تكون نقاط التنوين بلون مخالف للون الذي كُتب به النص، وهكذا كانت كتابة المصحف الشريف تقتضي لونين على الأقل.. ومن العجيب أن عصر الطباعة الذي جاء ناشراً للمطبوعات على نطاق واسع، وقف بسبب تكلفة التكنولوجيا عاجزا أمام قصته اللونين عصوراً طويلة ولم يستطع أن يحلّها حلولاً تكنولوجية رشيقة وغير مكلّفة إلا منذ سنوات قليلة مضت.
أما نقط الحروف المشتركة في الهيئة والتي لا يُميّز بينها إلا بالنقاط مثل مجموعة ب ت ث، ومجموعة ج ح خ، ومجموعة ط ظ، ومجموعة ف ق، ومجموعة س ش، ومجموعة ر ز ومجموعة د ذ 00 فقد كان أول من نفّذاه على أرجح الأقوال هما نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وذلك بتكليف من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لوالي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد كلّف الحجاج هذين العالمين الجليلين فوضعا ما سُمّي بنُقط الإعجام الذي يُميز الحروف من بعضها، ومن الجدير بالذكر أن هذا النقط لم يكن مثل نقط الحركات بحاجة إلى لون آخر فقد كانت فرصة وضعها في المكان الذي وُضع فيه مُتاحة من الأصل حتى ليبدو لمن يقرأ حديثنا هذا وكأننا نخترع شيئاً كان مُخترعاً من الأصل بينما الأمر غير ذلك، والدليل موجود في المخطوطات التي لا يزال بعضها موجوداً وناطقاً بالتطور التاريخي للنقط والتشكيل.
على أن الذين يعرفون اللغات اللاتينية يُدركون مدى المعاناة التي عانتها اللغة الفرنسية في التشكيلات الثلاثة التي تعتري الحرف الخامس من حروفها الذي ننطقُه نحن العرب الذين يعرفون الإنجليزية بالنُطق الذي يُمثله الحرف الخامس في الأبجدية الإنجليزية وهو الإي بينما هو في الفرنسية ليس كذلك. وليس عجيباً أن نسمع من بعض الذين يُملون لبعضهم عنواناً أو اسماً جديداً عليهم أن يقولوا وهم ينطقون ذلك الحرف الخامس من الأبجدية الفرنسية [إي الإنجليزية] بينما يقولون عن الحرف التاسع من تلك الأبجدية [إي الفرنسية]. ومع أن اللغتين الإنجليزية والفرنسية تتفقان في قصر النقط على حرفي الآي والجيه المُتتالين في أبجديتها، وتضيف الفرنسية أربع علامات أخرى، فإن اللغة الألمانية ومعها (اللغات الإسكندنافية) تعرف النقط في حروف العلة جميعاً وتقدم من هذه الحروف المنقوطة مساحة صوتية مُختلفة عن المساحة التي تُعبّر عنها المساحات الخاصة بالحروف غير المنقوطة.
على أن اللغة العربية تتميّز بقُدرة لم يُعن علماؤها بالحديث عنها في معرض حديثهم عن النقط والتشكيل وهي قُدرتها على التعبير عما يُسمى بحروف الإمالة، وهي نقطة يعرفها دارسو التجويد ويُعطونها أهمية بالغة وقد عبّر عنها من كتبوا المصحف الشريف في مُستهل عهد الطباعة الحديثة بوضع مُعيّن مفرغ تحت الحرف المُمال وهو ذلك المربع الذي تجده في المصحف الشريف في قوله سبحانه وتعالى بسم الله مجريها ففي هذه الكلمة تُحدث خاصة صوتية متميزة في العربية، ويعُدّها الفرنسيون مهارة بالغة حين يُعلّمون لغتهم حيث تُمال الفتحة إلى الكسرة، وتُمال الألف إلى الياء.. وفيما قبل عصر الطباعة الكثيفة حين كانت المخطوطات تستخدم لونين كان الكُتاب يضعونها دائرة حمراء، لكن طباعة اللون الواحد تجعل الدائرة تختلط مع دائرة السكون ومن تم اختار العلماء للإمالة المعين المفرغ (نتوقف هنا لنشير إلى أن هذه تسمية الجوادي، وكان العلماء ولايزالون يسمونه بالنقطة الخالية الوسط المعينة الشكل).
وشبيه بقدرة اللغة العربية على التعبير عن الإمالة تأتي قُدرتها على ما يُسمّيه علماء التجويد بالإشمام وهي حركة تُضمّ فيها الشفتان كمن يُريد أن ينطق بالضمة لكنه لا ينطق بها أي كأن الإشمام هو “الضمّة المُجهضة” حسب التعبير الجوادي، والمثل الواضح للإشمام في القرآن الكريم هو إشمام حرف الميم في قول الحق جلّ جلاله “مالك لا تأمنّا على يوسف” وهذا الإشمام يدُلّ على أن الحركة المحذوفة ضمة، وذلك من غير أن يظهر أثر المحذوف في النطق. وقد كان واضعو قواعد الكتابة من الذكاء بحيث جعلوا المعين المفرغ (ما يسمونه بالنقطة الخالية الوسط المعينة الشكل) تحت الحرف دليلا على الإمالة، والمعين المفرغ (ما يسمونه بالنقطة الخالية الوسط المعينة الشكل) فوق الحرف دليلا على الإشمام.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا