كان الملك حسين أبرز الزعماء الذين كانوا يعانون من حملات الرئيس عبد الناصر المتكررة لكن مجمل علاقته بالرئيس يدخل في باب الاستيعاب. وعلى سبيل المثال فإنه من المعروف أن الملك حسين لم يكن يقصر في التعاون والتشاور والتنسيق مع الرئيس جمال عبد الناصر فيما بعد هزيمة 1967، وذلك على الرغم من الأمارات الظاهرة بوضوح في الجو السياسي العام والتي كانت توحي بأن القاهرة تتمنى للأردن تحولا إلى حكم عسكري أو ثوري يتناسق مع وجود ما يسمى أو يوصف زورا أو حقا بأنه القوى التقدمية في مصر وسوريا وذلك مهما كان حجم الخلاف الشديد بين القيادتين المصرية والسورية في ذلك الوقت، والسبب ليس صعبا على الإدراك فقد كان الأمل الناصري معقودا بشدة على أن ينتصر البعثيون الناصريون على البعثيين ألأصليين وهو ما لم يتحقق منذ ذلك الحين أو حتى الآن.
ولأن الطبيعة تقدم من الحلول السياسية ما لا يخطر على بال بشر فقد جاءت مذبحة أيلول الأسود التي انتهت معها حياة الرئيس جمال عبد الناصر أو التي أنهت معقباتها حياة الرئيس جمال عبد الناصر لتبدأ حياة رئاسية لرئيس عسكري “ناصري النزعة والمجد” آخر عاش رئيسا لمدة ثلاثين عاما متخطيا فترة الرئيس جمال عبد الناصر ومتفوقا عليه في النفوذ والنكسة والسيطرة والتعبئة.. وكان هذا الرئيس هو الرئيس حافظ الأسد الذي كان وزيرا لدفاع سوريا في ظل قيادة ثلاثية من أطباء ثلاثة هم الدكاترة نور الدين الأتاسي ويوسف زعين وإبراهيم ماخوس (وقد عذبهم الرئيس حافظ الأسد وأذلهم وسجنهم ونفاهم طيلة حكمه)..
وجاء صعود الرئيس حافظ الأسد إلى قمة الحكم في سوريا بطريقة عرفت بعد ذلك بطريقة الخطوتين وهي طريقة تبدأ بالتستر وراء رئيس صوري متعاقد معه على الصورية ثم إزاحة هذا الرئيس الصوري بهدوء، وهكذا كان تحرك الرئيس الأسد للانقلاب العسكري الذي أعطاه اسم الحركة التصحيحية لأن اسم الثورة أو مصطلحها كان قد استهلك بما فيه الكفاية وجاء صعود الرئيس الأسد نتيجة مباشرة لحرب أيلول، وكأن الملك حسين أصبح هو الفاعل وليس الرئيس عبد الناصر الذي كان يستمتع بسماع وصفه على أنه صانع الانقلابات، لكن الأمر هنا اختلف استنادا على ما حققه الملك حسين من استيعاب للرئيس عبد الناصر بكل ما تعنيه كلمة الاستيعاب من المعاني، فقد طلبت القيادة السورية من وزير الدفاع أي الرئيس الأسد التحرك لنصرة الفدائيين فلسطين، لكنه لم يكن ميالا إلى نصرة الفدائيين الفلسطينيين وإنما كان يريد نصرة فكرة الدولة الأردنية متمثلة في الملك حسين !!
وكان من الضروري أن يعاقب هذا الوزير الذي هو وزير الدفاع (أي الرئيس حافظ الأسد) الذي لم يلتزم بأمر القيادة، وهكذا قام حافظ الأسد بانقلابه ليستبق عقابه، وجاء بصديق بعثي له كان يعمل مدرسا في الكويت هو أحمد الخطيب ليكون رئيسا لسوريا ريثما يتم تجهيز نفسه كرئيس بما في ذلك أن يعلن تسننه أي تحوله إلى المذهب السني ليستكمل الشروط الدستورية فيمن تولى الرئاسة السورية!، هكذا كانت حرب أيلول الأسود (سبتمبر 1970) نهاية لرئاسة الرئيس جمال عبد الناصر الذي زعم أنه يناصر الفدائيين الفلسطينيين بينما هو لا يمانع في استئصالهم، وبداية لحافظ الأسد الذي أمرته قيادته بأن يناصر الفدائيين الفلسطينيين فتقاعس عن تنفيذ الأمر كي يتيح الفرصة لما عرف بعد ذلك على أنه كان خطوة في سبيل استئصال الفلسطينيين!
وهكذا توفي الرئيس جمال عبد الناصر على حين فجأة بينما أصبحت القضية الفلسطينية التي هي جوهر الصراع العربي الإسرائيلي قضية صراع عربي ـ عربي في أكثر من تقدير من تقديراتها الدولية، ولم يحدث هذا التحول المؤسف إلا بثلاثة اضطرابات أصابت رؤية الرئيس عبد الناصر والنظام المصري معه:
– فقد كان هناك اضطراب في رؤية الرئيس جمال عبد الناصر ما بين الالتزام بالزعامة ومتطلباتها من ناحية، والالتزام بالرئاسة ومقتضياتها من ناحية مناقضة.
– وكان هناك اضطراب رؤية الرئيس جمال عبد الناصر أيضا ما بين تأييد الالتزام بالقومية العربية الواسعة من ناحية، والالتزام باحترام سيادة فكرة الدولة القطرية من ناحية أخرى.
– كما كان هناك اضطراب في رؤية الرئيس جمال عبد الناصر أيضا ما بين تأييد القوى التقدمية ونصرها على أية قوى رجعية من ناحية، والالتزام الآخر بالمصلحة المباشرة في تأييد المتوافق معه ومعاقبة المتمرد عليه من ناحية أخرى.
هكذا كانت الزعامة والقومية والتقدمية تتطلب من الرئيس جمال عبد الناصر أو تفرض عليه الوقوف مع الفلسطينيين ضد الملك، استمرارا لتحريضه السابق لهم عليه، بينما كان الالتزام بسيادة الدولة على أراضيها والالتزام باتفاقات القمة يجعلان الرئيس جمال عبد الناصر ملزما بحماية قرارات الملك حسين ونظام الملك حسين، وهكذا واجه الرئيس جمال عبد الناصر لأول مرة في حياته كلها صراعا ناصريا – ناصريا انتهت معه حياته.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا