نعرف ونفهم بل ونقدر أن بعض الانتصارات التي حققها الرئيس جمال عبد الناصر أو التي تحققت له بفضل سياساته ومناوراته كانت في حقيقتها بمثابة سجون معنوية محكمة، أو قيود عقائدية موثقة. وهذا أمر طبيعي في حركة التاريخ والصراع السياسي والاستراتيجي على حد سواء، ولعل أبرز هذه السجون هو القرارات التي صدرت عن مؤتمر الخرطوم الذي انعقد بعد هزيمة 1967 وكان الرئيس جمال عبد الناصر هو نجم ذلك المؤتمر الذي أعاد التأكيد على الزعامة الناصرية بطريقة هستيرية حتى إن الصحافة الإنجليزية علقت بقولها إنه استقبل استقبال الفاتحين وهو مهزوم فكيف به لوكان قد انتصر؟
وفي الحقيقة فإنني لا أكف عن القول بأن هذا المؤتمر كان بمثابة أكبر قيد استجلب على الرئيس جمال عبد الناصر طرزا جديدة لم يكن قد عرفها من الهزيمة السياسية القاسية بالإضافة إلى الهزيمة العسكرية القاسية والساحقة في حرب يونيو 1967، فقد كانت نتيجة هذا المؤتمر هي كما نعرف: لا صلح، ولا تفاوض، ولا اعتراف بإسرائيل، وفي المقابل كان هناك التزام مكتوب ومحدد ( لكنه غير مطلق ) بأن تدعمه الدول العربية في حربه على إسرائيل، وهكذا قيد الرئيس جمال عبد الناصر نفسه أو قيده حلفاؤه الجدد على طريقة القائد الذي كتّف الجندي وألقاه في اليم وطلب منه ألا يغرق بينما هو سيغرق لا محالة .
هذا التعهد الذي تعهد به الرئيس جمال عبد الناصر كان سلبا لإرادة هذا الزعيم المصري الذي فرض حضوره بالإرادة والشموخ فإذا هو مقيد تماما بشعارات حاسمة جازمة، وكان هذا السلب للإرادة والالتزام بمقررات القيمة كفيلا بأن يكرس ويثبت الانتصار الإسرائيلي تحت دعوى “لا تفاوض” ومن تم فقد نفى المؤتمر أي فرصة لبذل جهود تفاوضية أو مساومة من قبيل تلك الجهود التي بذلها الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود في أعقاب حرب 1956 وهي الجهود التي أسفرت عن انسحاب إسرائيل من سيناء، وإن كانت مصر قد وافقت في المقابل على وجود قوات دولية في شرم الشيخ .
بعد فترة قصيرة راحت السكرة وجاءت الفكرة كما يقول المثل العربي البليغ، ووجد الرئيس جمال عبد الناصر أن قرارات هذا المؤتمر كفيلة بأن تضيع أي فرصة لاستعادة الضفة الغربية وغزة من يد الإسرائيليين فاضطر أن يقول للملك حسين بكل وضوح: إنه لا يمانع أن يجري الملك أي مباحثات أو ترتيبات ليستعيد بها الأراضي التي فقدت من مملكته في 1967، ولم يكن الملك حسين بالطبع على استعداد لأن يقوم بالدور الذي سيوصف بأنه دور الخائن بينما الرئيس جمال عبد الناصر يملأ الدنيا صياحا وصراخا بما عرف على أنه لاءات الخرطوم الثلاثة ولم يكن الملك حسين قادرا على أن يقول هذا المعنى الصريح للرئيس جمال عبد الناصر لكن من المفترض والواقع أن يكون الرئيس جمال عبد الناصر قد أدركه.
على أن الشهور سرعان ما جرت وجرت معها عجلة الزمن على أرض المعركة، وظن الرئيس جمال عبد الناصر أن بوسعه أن يحصل من السعودية على تمويل لصفقة أو أكثر من صفقات السلاح فإذا بالقيادة السعودية تنبهه صراحة وبأدب وتهذيب تقليدي متوقع أنها سوف تقف عند حدود التزامها المعلن بالرقم الذي اتفقت عليه القمة وهو الرقم الذي يعوض مصر عن دخل قناة السويس التي أغلقت بسبب حروب 1967 كي يصبح الوضع وكأن القناة لم تغلق، وكان معنى هذا بوضوح أن السعودية لن تعوض مصر إلا بما يعادل دخل القناة وذلك مقابل أن تسكت مصر الناصرية عن مطالبتها بإيقاف ضخ البترول، أما ما عدا ذلك من تعامل مع نتائج الحرب وتحقيق لمتطلبات التحرير فقد كان على الرئيس جمال عبد الناصر طبقا للفكر السعودي أن يتحملها كاملة.
وهكذا أصبح التضامن العربي بمثابة شعار جذاب والتزام صارم لكنه كان في حقيقته التزام ملزم للرئيس جمال عبد الناصر بالهزيمة الكاملة أو المستدامة، ولم يكن في وسع الرئيس جمال عبد الناصر أن يرفض التضامن العربي على هذه الصورة المتفضلة بالقطارة كان في وسعه أن يشكو، فقد كان يحس في قرارة نفسه أن الالتزام السعودي كان تفضلا من الملك فيصل رغم محاربته الطويلة له.
نذكر أن دولة الكويت كانت حريصة على الالتزام بتقديم الدعم العربي لمصر والأردن بالمعونة المتفق عليها، شأنها شأن السعودية، بينما كانت سوريا قد رفضت فكرة قبول مثل هذه المعونة وذلك لتزيد القيود على نفسها كحافز نظري يستحثها للمقاومة والتحرير! .
لكن الأمر الغريب الذي لا يطنطن به أحد حتى الآن بل لا يذكره أحد بما يستحق من التكريم والتمجيد هو أن قيادة الدولة الداعمة الثالثة وهي دولة غير خليجية بذلت ما لم يبذله أحد في دعم الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت هذه الدولة هي مملكة ليبيا العظيمة وقائدها في ذلك الوقت هو الملك إدريس السنوسي الذي قدم كل عون ممكن وغير ممكن لمصر لدرجة أنه رهن البترول الليبي من أجل تزويد مصر بالسيولة المطلوبة لشراء صفقات السلاح، وبدلا من أن يمتن الرئيس جمال عبد الناصر للملك إدريس السنوسي بالقدر الكافي، وبدلا من أن يحافظ على كيان ووجود وشرعية هذه “الملكية” الودودة لمصر ولشعب مصر ولقيادته فإنه بحكم البحث عن أي نجاح حماسي سرعان ما ظهر للعالم كله وكأنه أسعد الناس جميعا بما حدث من انقلاب عسكري ليبي في بداية سبتمبر 1969 بينما الملك إدريس السنوسي بعيد عن وطنه.
و بالطبع فإن أحدا لم يكن ليتصور أن ينهج الرئيس جمال عبد الناصر أي نهج عقلي أو متعقل أو مفيد في تلك اللحظة فقد كان الخطاب الناصري لا يزال يقدم مصر على أنها الراعية الأولى للحركات الانقلابية المسماة زورا بالثورات ولحكم العسكر الموصوف زورا بالتقدمية كما أن مصر الناصرية كانت لاتزال راعية لأي حركة معادية للديموقراطية على نحو ما حدث في انقلاب النميري في الخرطوم في مايو 1969 أو لإزالة الملكيات العربية ( مهما كانت ودودة ومخلصة وعاقلة كالملكية الليبية ) وذلك باعتبار النظم الملكية رجعية في المقام الأول والأخير.
وهكذا أدخل الرئيس عبد الناصر نفسه إلى سجنين رابع وخامس بالإضافة إلى سجون اللاءات الثلاث، وكان السجن الرابع يرفع شعاره القديم لا للديموقراطية والحزبية والحكم المدني (وهو ما تأكد بموقفه من انقلاب السودان)، وكان السجن الخامس يرفع شعاره القديم لا للنظم الملكية والرجعية (وهو ما تأكد بموقفه من انقلاب ليبيا). وهكذا جاءت وفاة الرئيس عبد الناصر المبكرة رحمة من الله به.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا