كان أبرز نجاح حققه الرئيس جمال عبد الناصر هو النجاح الإعلامي المستند إلى الفن وتوظيفه، وكان هذا النجاح كفيلا بتتويج الرئيس جمال عبد الناصر زعيما للعرب وللمسلمين وللعالم الثالث كله لكنه فيما يبدو كان يريد أن يكتفي بزعامة العرب، بحكم أن نجاحه استند إلى فن مكتوب ومؤدى باللغة العربية فحسب، مع أن زعامة العالم الثالث وزعامة العالم الإسلامي وزعامة المسلمين كانت أقرب إليه منالا من زعامة العرب المجبولين على الاختلاف والتغابن والضغائن والتضاغن، وقد حقق في زعامات العالم الثالث مستويات ومنسوبات عالية، لكنه عاش ومات من دون أن يشعر بها بدرجة موازية لشعوره بالرغبة في زعامة العروبة فحسب، وربما يرجع هذا أساسا إلى اللغة، فقد كانت نافذته غير العربية وهي الإنجليزية وهي نافذة لا تطل إلا على بيئات معادية له، وهكذا كان من الصعب عليه أن يتصور أثر نجاحه الإعلامي في المجتمعات اللاتينية والجنوبية وفي المجتمعات الإسلامية غير العربية.
سأضرب أمثلة سريعة لمدى النجاح الذي كان من الممكن لزعيم مثل الرئيس جمال عبد الناصر أن يحققه وأن يستثمره، فنحن نعرف أننا على المستوى المادي لم نكسب شيئا ذا بال من تأميم قناة السويس فإذا أردنا المبالغة وقلنا إننا استفدنا شركة وقناة كانت قيمتها الإسمية تساوي 25 مليون في ذلك الوقت فإننا نفجأ بما دفعناه في التعويضات وما تكبدنه بسبب الحرب لكن القارئ ربما يندهش إذا عرف حقيقة موازية وهي أنه بفضل الشحن المعنوي والنفسي بقرار تأميم قناة السويس وتأميمها وهو الشحن الحاد العاجل الذي انتهجناه ونشرناه عن طريق الإعلام المستند إلى الفن فقد تشجعت حكومة إندونيسيا في الأسبوع نفسه بقيادة أحمد سوكارنو فقلدت مصر تلقائيا وأممت الأصول الهولندية الموجودة على أرض إندونيسيا والتي تم تقديرها بمليار دولار أي أربعين ضعفا للحد الأقصى الذي يمكن أن نقول إننا أتممنا تأميمه في قرار تأميم قناة السويس، وكان العامل المحفز لإندونيسيا في هذا القرار الشجاع هو القوة الناعمة لمصر الأزهر التي كانت مرتبطة تماما بمصر التي كانت المسئولة الفعلية عن التعليم الإندونيسي الديني والمدني على حد سواء، والتي كانت مضرب المثل للإندونيسيين بفضل النجاح الديموقراطي منذ ثورة 1919 وهكذا تم اتخاذ القرار الإندونيسي بمنتهى السهولة والشجاعة والحسم وكانت النتيجة أن إندونيسيا كسبت 40 ضعف ما كان يمكن أن تكسبه مصر. فهل يستطيع أي متحمس لسياسات الرئيس جمال عبد الناصر أن يزعم أن الرئيس جمال عبد الناصر نفسه استفاد من قراره مثلما استفادت حكومة إندونيسيا المسلمة؟ وهل كان الرئيس جمال عبد الناصر من المرونة الفكرية والذكاء والاستعداد الإداري بحيث يلحق تأميم قناة السويس بتأميم مؤسسات أخرى كان يمكن أن يؤممها مبكرا في ذلك الوقت من قبيل المؤسسات الأمريكية العاملة في مصر في أحرج المواقع منذ مشروع النقطة الخامسة وما قبلها؟
وشبيه بمثل هذا الذي حدث في إندونيسيا ما كان من تنامي الأثر الإعلامي للرئيس جمال عبد الناصر في أمريكا اللاتينية والجنوبية وهو أثر لم يعن به الرئيس جمال عبد الناصر بأية ذرة من العناية، وقد تحقق هذا التأثير الضخم عبر قوة ناعمة كانت في وقتها في ذروتها ولكنها ضعفت الآن وهي القوة الناعمة المتمثلة في أدباء المهجر الذين كانوا يعرفون العربية ولغة المهجر وكانت بينهم أسماء كبيرة لا يزال لها وجود ثقافي وصحفي في القاهرة من قبيل الشاعر ميخائيل نعيمة وأمثاله، كان هؤلاء الذين كانوا في وقتها مرتبطين بأوثق الصلات بعالمهم العربي سعداء بأن يلعبوا بشعرهم وأدبهم وغنائهم أدوار الفخر بالرئيس جمال عبد الناصر وأن يتولوا تمجيد توجهاته في كل المجتمعات الناطقة باللغات اللاتينية في العالم، وقد كانت النخب الفكرية والسياسية في المجتمعات الأمريكية اللاتينية والجنوبية تبلغ درجة عالية من بوجود بمجرد وجود أو صعود نموذج من أصحاب الخطاب السياسي المقاوم للهيمنة الأمريكية، وذلك نكاية في غطرسة الولايات المتحدة الأمريكية لكن نظام الرئيس جمال عبد الناصر للأسف الشديد لم يُعن لا العناية الكافية ولا أية عناية بهذا العالم الكامل الذي كان يحبه حبا جما ويرفع صوره، وينظم الشعر العربي واللاتيني فيه، ولو أن الرئيس جمال عبد الناصر بذل جزءا قليلا من الوقت الذي بذله في متابعة قضية حرب اليمن كي يقوم بالمصافحة (مجرد المصافحة) تحية لضيوف من أمريكا اللاتينية والجنوبية يأتون من خلال إدارة نشطة تتولى هذا الأمر وجمعيات صداقة وتبادل تجاري.. الخ لكان قد حقق نجاحات اقتصادية ساحقة إضافة إلى تعزيز وضعه السياسي في الكرة الأرضية.
لكن يبدو لي أن قصصا من قصص النفوذ الصهيوني المتعقب للألمان في أمريكا اللاتينية أو الداعم لقصص من أمثال قصة الجاسوس إيلي كوهين وأسلافه كانت تجعل الرئيس جمال عبد الناصر لا يطمئن تماما لأمريكا اللاتينية وبخاصة أنه لم يكن على خبرة كافية باللقاءات الاجتماعية التي يكون للنجوم الفنية والاجتماعية والنسائية فيها دور كبير، فما بالك بهذه الحياة المنفتحة والمتفتحة في أمريكا الجنوبية كلها.
ربما يتفاجأ القارئ إذا علم أنه في أوروبا الغربية نفسها كانت هناك فرص ممتازة للرئيس جمال عبد الناصر لكنه أهملها أيضا، وعلى سبيل المثال فقد كانت إسبانيا تحت حكم الجنرال فرانكو قريبة في معتقدها السياسي من الرئيس جمال عبد الناصر بل كانت إسبانيا (وهذا دور تاريخي يكاد يتلاشى ذكره الآن) هي صاحبة أكبر العون التسليحي للثورة الجزائرية، وذلك بسبب حرصها على مناوئة فرنسا والانتقام منها لكن الرئيس جمال عبد الناصر ترك علاقاته بإسبانيا بل ترك إسبانيا كلها وديعة في يد صديقه السفير أحمد أنور قائد البوليس الحربى في أول الثورة وقد اكتفى هذا السفير المقرب بأن يمارس غطرسته التي وصلت على حد أنه عاقب واحد من كبير الدبلوماسيين العاملين في السفارة بالضرب على قدميه. ولم يكن هذا غريبا على البكباشي أحمد أنور زميل دفعة الرئيس نفسه الذي لم يتورع عن قيادة الهجوم على الدكتور السنهوري باشا، ولم يتورع بعدها بشهور أن يصفع صاوي أحمد صاوي زعيم عمال النقل على وجهه بالقلم في أثناء مناقشة جرت بينهما في مطار القاهرة.. مع أن صاوي أحمد صاوي هو الذي مهد لأحمد أنور سبيل الاعتداء على السنهوري وعلى مجلس الدولة.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا