هذه حقيقة نادرة من الحقائق التي يتجنب الأوربيون ذكرها على هذا النحو الصريح. وصلت صراعات الإنجليز مع الكاثوليكية الذروة في عصر الملك هنري الثامن (1491 ـ 1547) الذي تولى ملك بريطانيا ما بين 1509 و1547 ثم خلفه أولاده الثلاثة من بعده : الابن إدوار السادس والابنتان ماري الأولى وإليزابيث الأولى التي حكمت حتى 1603، تبدت هذ الصراعات بوضوح فيما حدث على سبيل التعاقب والتدريج من تعدد زيجات هذا الملك، وقد كان السبب في تعدد زيجاته تأثره العميق بروح المجتمع في الشرق الإسلامي في التقاليد والتشريع، فمن ناحية التقاليد فإنه كان يُجاهر بأن البنات لا يصلُحن للحكم ولا للحفاظ على الملكية وذلك على الرغم من أن نظم وراثة العرش الإنجليزي كانت (ولا تزال) تسمح بتولّي المرأة العرش الإنجليزي.
لكن هنري الثامن كان مُعتقداً أو مُقتنعاً أشدّ الاقتناع بالنظرية الشائعة في الشرق، وقد أدى به هذا الاعتقاد إلى أنه استحلّ لنفسه تدريجيا أن يتزوج ست مرات، ومن عجائب القدر أنه كان بمثابة الملك الإنجليزي الذي أنجب ملكتين وملكا، وبالطبع فقد كانت هناك “عوائق” ضد هذا السلوك ومنها العوائق السلفية التي كانت تراه يُحلّلُ ما حرّم الله!! وفي خضم هذا الصراع مع السلفية المسيحية اصطدم بالباباوية، وكان هذا الاصطدام هو السبب الحقيقي في انفصاله بكنيسة إنجلترا عن الكاثوليكية منذ ذلك الحين.
ومن الطريف في الأمر أن المؤرخين الدينيين يُصمّمون على القول بأن هنري الثامن ظل في سلوكه كاثوليكياً سلفياً على الرغم من انفصاله بالكنيسة الإنجليزية عن الكنيسة الكاثوليكية وقطع صلة بريطانيا بها، وقد ساعده على هذا الإنجاز العقائدي والسيادي أنه كان خطيباً مُؤثراً ومُثقّفاً مُتمكّناً، ولا ننسى أنه هو الذي تمكّن من تحقيق وحدة ويلز مع إنجلترا بالقوانين الاتحادية التي أصبحت فاعلة بدءاً من 1535، كما أنه وليس غيرُه هو الذي مهد لأمريكا التي كانت في بطن الغيب أن تكون بروتستانتية فكانت أكبر ضربة عانتها الكاثوليكية.
مع كل هذه الإنجازات التي أنجزها فإن المصادفات لعبت أثرها في حياته، ذلك أنه لم يكن مُرشحاً لخلافة والده هنري السابع لكن أخاه الأكبر ولي العهد آرثر توفي فجأة في 1502 بعد ثلاثة شهور من زواجه من كاثرين أراجون 1485- 1536 صُغرى بنات الملكين المسيحيين إيزابيلا وزوجها زعيمي التعصّب الإسباني ضد الإسلام التي خططت (!) بهذا الزواج لأن يؤول عرش بريطانيا ليكون من العُروش الأوروبية المُحاربة للإسلام من خلال هذا الزواج الذي يجعلُ ابنتها كاثرين قرينة لملك إنجلترا وأماً لأي ولي للعهد، فلما ترملت كاثرين في هذا السن المبكر لجأ العرشان الإنجليزي والإسباني إلى ما سمعاه عن التشريعات الإسلامية التي تُبيح زواج الأخ من أرملة أخيه، لكن الأمر في الكاثوليكية لم يكن وقتها بهذه السهولة التشريعية الإسلامية، وإنما كان يقتضي موافقة باباوية.
بعيداً عن التفصيلات التاريخية والضغوط والمساومات والإلحاحات فقد تُوّج الملك هنري الثامن وزوجته بالملك بعد زواجهما بأسبوعين في كنيسة وستمنستر، وبعد أربع سنوات قادت هذه الزوجة الإسبانية جيوش زوجها فألحقت هزيمة بجيش الأسكتلنديين الذين كان يقوده جيمس الرابع ملك إسكتلندا زوج شقيقة زوجها. ثم تدور الأيام ويرغب هنري الثامن في تطليق زوجته (بدعوى عدم قُدرتها على إنجاب وريث ذكر فقد كان أبناؤها الذكور يموتون) وذلك تمهيداً لزواجه من عشيقته آن بولين التي اشترطت عليه أن تكون ملكة لا عشيقة، وهكذا فسخ هنري الثامن زواجه من زوجته مدينا نفسه بنفسه في زواجه منها الذي لم يتم إلا بموافقة البابا عبر وساطات وضغوط طال وقتها.
وقد قادت حلحلة هذه النزاعات تلقائياً إلى جعل سلطة الملك تعلو سلطة الكنيسة على النحو الذي يُصادف الحكام الطُغاة الذين يستندون إلى الدين ثم ينقلبون على الدين نفسه.. ولجأ هنري الثامن من جديد إلى تنسم رائحة ما تحله شرائع المسلمين في الأحوال الشخصية، وتصادف هذا مع اجتماع ملك الإنجليز في كاليه بحليف المسلمين أي فرنسوا الأول ملك فرنسا المُتحالف مع سليمان القانوني، وبدأ الملك هنري الثامن إجراءات الزواج بإعلان بطلان الزواج القديم وصحة الزواج الجديد. وصدّق البرلمان على كل هذه “المُخالفات” الكاثوليكية، بل وصل الأمر إلى اعتبار (الملكة) ماري ابنته من زوجته الأولى كاثرين ابنة غير شرعية مع ما كان لها من نسب خطير.
وهكذا فإن التطوير في سلوكيات رجال الكهنوت المسيحي لم يصل إلى استيعاب جوهر التوافقات الإنسانية في تعاليم الإسلام التي تجعل الزوجة السابقة سابقة فقط أو مُطلقة، وإنما بقي الفكر السلفي المسيحي حتى ذلك الوقت قادرا ومصمما على أن يجعلها غير شرعية من الأساس! على نحو ما فعل الملك هنري الثامن بهذه الزوجة الملكة ذات النسب الخطير، وإن كانت الأجواء ذات الرائحة العثمانية قد مكنت الإنجليز وملكهم بعد فترة قصيرة من الزمن من الوصول إلى وضع قريب من التشريع الإسلامي في احترامه للإنسانية. على أن حظ زوجته الأولى هذه كان أفضل من حظ زوجته الثانية (أم ابنته الثانية الملكة إليزابيث الأولى) التي حُكم عليها بالإعدام فجرى إعدامها وهي جاثية على ركبتيها في 1536 على النحو الذي صوره شكسبير ولم تكن ابنتها الملكة قد وصلت الثالثة من عمرها.
ومن الجدير بالذكر أن زوجته الثالثة أنجبت ذكراً في ولادة متعسرة لكنها ماتت بسببها (1537) وأن زوجته الرابعة فضلت أن تستسلم وتُعطيه المُبرر لطلاقها على أن تتمسّك بحقوقها الزوجية وأن زوجته الخامسة أعدمت(كالثانية ) في 1542 وأن زوجته السادسة قادته لإعادة الاعتراف بابنتيه من زوجتيه الأوليتين، وهكذا فقد ورثه في عرشه ابنه (الوحيد) من زوجته الثالثة والمُسمّى إدوارد السادس (1537 ـ 1553) وقد توفي قبل أن يبلغ السادسة عشر من عمره بمرض السل بعد ما نودي به وتُوّج (1547) وخلفته أخته الملكة ماري الأولى (1516 ـ 1558) التي هي أولى بنات الملك هنري الثامن، وقد حكمت لخمس سنوات توفيت بعدها وهي في الثانية والأربعين من عمرها بعد أن تزوجت من فيليب الثاني 1527-1598 ملك أسبانيا وحفيد خالتها والذي ورث والده الإمبراطور كارلوس الرابع لكنهما لم ينجبا.
ولأن الملكة ماري الأولى كانت كاثوليكية متعصبة مثل جدتها إيزابيلا فقد كان من الطبيعي أن تسعى لأن تعيد بلادها إلى معسكر الكاثوليكية، وهو ما قامت به بالفعل وبقسوة شديدة استحقت معها لقب ماري السفاحة اقتداء بما فعله المسلمون في تسمية الخليفة العباسي الشهير، ويكفي أن نذكر أن أكثر من ثلاثمائة شخص أعدموا حرقا بسبب انتمائهم الديني، بيد أن عهدها سرعان ما انتهى بوفاتها وهي في الثانية والربعين من عمرها وخلفتها أختها الملكة إليزابيث الأولى 1533 -1603التي لقبت بالملكة العذراء والملكة المباركة والتي عاشت سبعين عاما كاملة، وحكمت 45 عاما ما بين 1558 وحتى وفاتها فتمكنت من ترسيخ البروتستانتية في إنجلترا من ذلك الحين وحتى الآن بدءا من إقامة الكنيسة الإنجليزية البروتستانتية وتوليها منصب الحاكم الأعلى لها وذلك على الرغم من تأليب البابا الكاثوليكي لرعاياها ضد حكمها، لكن ذكاءها وبعدها عن الحروب ساعدها على النجاح والاستمرار رغم محاربة معسكر الممالك الكاثوليكية.
ولم يكن بد من معركة فاصلة بين إنجلترا والكاثوليكية فكانت المعركة التي أسميها معركة الأربع ثمانيات 8/8/ 1588 التي انهزم فيها الأسطول الإسباني الشهير “الأرمادا” وتحقق فيها للإنجليز أعظم انتصاراتهم العسكرية على مدى التاريخ، وقد كان من أهم أسباب هذا الانتصار مالقيه الإسبان وحلفاؤهم في السنوات السابقة من الإنهاك في المعارك المتواصلة مع العثمانيين ومنها معركة الملوك الثلاثة في 4 أغسطس 1578 التي انتهت بها دولة البرتغال وملكهم سبستيان ليرثه خاله الملك الإسباني فيليب الثاني الذي انهزم أمام الإنجليز بقيادة ملكتهم إليزابيث مع أنه كان زوجا لأختها الملكة السابقة ماري الأولى.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا