الرئيسية / المكتبة الصحفية / الصراع بين التاء المفتوحة والتاء المربوطة

الصراع بين التاء المفتوحة والتاء المربوطة

نعرف أن الحروف العربية ثمانية وعشرون حرفا لكنها عند اللجوء إلى طباعتها وكتابتها تتطلب أضعاف هذا العدد من أشكال الحروف لأسباب كثيرة منها على سبيل المثال السريع موضع الحرف من الكلمة، فالنون في أول الكلمة تختلف في شكلها المكتوب عن النون التي في وسط الكلمة عن النون التي في آخرها وعن النون المفردة ونحن نعرف هذا المعنى ببداهة ومن دون أن ننبه أنفسنا إليه، لكننا لا نتصور أن هذه النون التي في لوحة مفاتيح الحواسيب الآن تقابل أربعة صور مختلفة في صندوق الطباعة القديم الذي عاصرته أنا نفسي حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وهذه على سبيل المثال جملة بسيطة تشمل هذه الصور الأربعة المختلفة للنون، وقد ميزها جهاز الحاسوب بذكائه الصناعي:

نبدأ سفرنا من برلين إلى بون، ونحن نفهم أن الذكاء الصناعي الذي تتمتع به أجهزة الكمبيوتر يميز موضع الحرف من الكلمة بناء على العلاقة بين الحرف (النون مثلا) ومفتاح المسافات، وعلى هذا فإنه يختار الصورة المناسبة للحرف من بين هذه الصور الأربعة. وبالطبع فلم يكن الأمر كذلك حين اخترعت الطباعة فقد كان صندوق الطباعة يشتمل على ما يقترب من الألف حرف بلا مبالغة، وهذا أمر مفهوم وربما أن فهمنا له سيزداد مع قراءة ما نسجله من تأملات ورغبات في التعديلات التي نقترحها على لوحات المفاتيح الحالية.

في بعض الأحيان في كتابتنا للشعر العربي أن نكتب التاء المربوطة بدون النقطتين للإيحاء لقارئ الشعر ومتعلمه بأن هذه التاء المربوطة لن تنطق تاء، وإنما تنطق هاء على نحو ما نفعل في التاء المربوطة


وربما كان من الحكمة أن نبدأ بالتأمل في الحالة الخاصة بالتاء المربوطة وهي الحالة التي لا يمكن للكمبيوتر أن يميزها من التاء المفتوحة من تلقاء نفسه، ومن ثم فقد بقيت الحاجة الإجبارية إلى وجود مفتاح خاص بها، ويمكن لنا إثبات وتفهم مدى الحاجة إلى هذين النمطين للدلالة على وضعين مختلفتين للتاء من خلال تأمل الفرق الكبير بين كلمات تستعمل كأسماء للإعلام مثل: جودت وحكمت وعزت وحشمت وصفوت وخيرت وهمت ورفعت وشوكت وقسمت ودولت ونجدت (وأمثالها مما نسميه في عرفنا بالأسماء تركية الأصل تكتب بالتاء المفتوحة) وبين كلمات المعاني المشتركة معها في الحروف نفسها والتي تكتب بالتاء المربوطة. وهي على سبيل الترتيب المقابل للأسماء التي ذكرناها الكلمات الدالة على معاني الجودة والحكمة، والعزة، والحشمة، والصفوة، والخيرة، والهمة، والرفعة، والشوكة، والقسمة، والدولة، والنجدة.

وهنا أستأذن القارئ من دون أن أسبب له اضطرابا فأذكر له أن هناك من يكتب بعض أسماء الأعلام هذه التي ذكرناها بالتاء المربوطة كما هو الحال في اسم سياسي عراقي شهير، لكننا مع هذا نظل في مواجهة الحاجة إلى صورتين للتاء في نهاية الكلمة وهو ما يبينه على سبيل المثال قولنا: ولكم في الحياة غاية وغايات وخبرة وخبرات. ربما يقفز التفكير الحاسوبي البراغماتي هنا ليتساءل: وما هو المانع أصلا من أن نستغني تماما ونهائيا عن التاء المربوطة ما دام الأمر سهلا ويسيرا في فهم المقصود والمدلول والمعنى؟ ومن الحق أن نقول إنها وجهة نظر صائبة ومفيدة وجديرة بالنظر لكننا لا نستطيع أن نزعم أن أسلافنا من العرب الأذكياء لجأوا إلى التاء المربوطة من باب الرفاهية المطلقة فنحن نستطيع بمعرفتنا البسيطة بالشعر العربي أن ندرك أن التاء المربوطة ربما تنطق هاء إذا احتاجتها قافية الهاء، ويصل الأمر في بعض الأحيان في كتابتنا للشعر العربي أن نكتب التاء المربوطة بدون النقطتين للإيحاء لقارئ الشعر ومتعلمه بأن هذه التاء المربوطة لن تنطق تاء، وإنما تنطق هاء على نحو ما نفعل في التاء المربوطة إذا وقفنا عليها حتى في حديثنا العادي.

يقودنا هذا التفكير في التاء إلى قضية أخرى تتعلق بتأثير اللغات القريبة من العربية فيها، وأمر القرابة هنا لا يتوقف عند القرابة في الأصل (كالعبرية والسريانية والتركية.. إلخ) ولكنه يمتد إلى القرب الناشئ عن التكثف في الاستعمال المعاصر وهو ما ينطبق على التفاعل واسع النطاق بين اللغة العربية وبين اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ولعل أبلغ مثال دال على هذا الصراع هو الاختلاف الذي نجده في كتابتنا لاسم سوريا الحبيبة التي أكتبها دوما على نحو ما يرى القارئ بالألف، مقتديا بأسلافي من المصريين، أو صادرا عن اقتناع بمثل الذي اقتنعوا به، بينما كان بعض العلماء الأجلاء (من طبقة الأب أنستاس الكرملي والعلامة أحمد تيمور) يفضلون كتابتها بالهاء والتاء المربوطة. وهذه فقرة طريفة من رسالة بعث بها الأب أنستاس الكرملي أثبتها مع أني لا أوافق على ما فيها جملة ولا تفصيلا، ومع هذا فإني حريص على أن أنقلها للقارئ لأصور له عقيدة أساتذتنا الكبار فيما كانوا يقررونه.

كتب الأب أنستاس الكرملي في رسالته لأحمد باشا تيمور: «أستحسن كتابتكم للأعلام المؤنثة بهاء في الآخر (التعبير بالهاء معهود بين علماء اللغة عن التاء المربوطة في اصطلاح المثقفين المدققين لأن المعنى واضح)، كأوروبة ومرسيلية ولندرة مثلا، وهذا يؤيده ما فعلته العرب عند نقلها الأعلام الإفرنجية مباشرة، لا عن طريق السريان، فإنهم كتبوا صقلية وأنطاكية ورومة وإنكلترة وآرلندة، وأما الأعلام المنقولة عن لغة السريان فإن العرب كتبوها كما يكتبها السريان، أي بالألف، كحيفا ويافا وبكفيا، ومع ذلك أجازوا كتابتها بالهاء، فيقولون: يافة وحيفة، لكنهم لم يجيزوا الوجه المخالف لذلك فلم يقولوا “سوريا”، وإن أولع بها كتاب مصر والشام، ولم يقولوا صقليا وأنطاكيا، لا أعلم معنى هذا التمسك من جانب العرب العصريين بأوضاع السريان ومخالفتهم لأوضاع السلف الصالح». هذه إذا صورة من صور السلفية التي كان الأب أنستاس ماري الكرملي وهو أحد الأعضاء المؤسسين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة يتحيز لها على الدوام، والتي أخالفه فيها في الأغلب الأعم مع كل توقيري البالغ له.

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com