جرت العادة في المؤسسات التعليمية الكبرى أن يصنف الأساتذة القدامى طلابهم المتفوقين من الدفعات المتتابعة تبعا لمواهبهم وقدراتهم واجتهاداتهم ، وعلى نحو ما يحدث هذا في أكسفورد وهارفارد وكمبردج والسوربون فقد كان هذا يحدث في الأزهر الشريف بالطبع ، ولن نتطرق هنا إلى الأرقام القياسية و الصفات البارزة التي حققها الأزهريون ، و لكننا سنكتفي بالقول بما استقر في التاريخ الأزهري من أن الباقوري كان مستحقا لمكانة أنبه الأزهريين بما ظهر في أدائه المتميز اجتهادا و رواية ودراية وفهما وزعامة ودأبا وإبداعا وذلك على الرغم من أنه لم يتح له الوجود في مجتمع القاهرة إلا بعد أن بلغ العشرين من عمره وحصل على الثانوية من معهد أسيوط .
ومع أن المكانة السياسية والاجتماعية التي وصل إليها الشيخ أحمد حسن الباقوري كانت كفيلة بأن تغنيه عن الحرص على الحصول على الاعتراف بتفوقه الدراسي والعلمي القديم وبتفوقه في التأثير على زملائه وتلاميذه فإن طبيعة أدائه خطيبا ومحاضرا ومحاورا ومديرا ووزيرا كانت تستدعى تلقائيا الإعجاب بتفوقه، والانبهار بمستواه، وتستدعي مع هذين حديثا لا ينقطع عن مستوى متميز لطالب علم نابغ، كان حريا بأن يبتعث للخارج لكن الله شاء له أن يظل رمزا مطلوبا للتدليل على إمكانية التفوق الساحق للمدرسة الوطنية.
أما دور الشيخ أحمد حسن الباقوري في التاريخ العقلي لمصر فدور غير مسبوق ، ولا يمكن فهمه إلا بمزيد من التعمق والتجرد معا فقد كانت رسالة الشيخ أحمد حسن الباقوري التي أدٌاها حتى من دون أن يدري حدود الإنجاز والإعجاز فيما أدٌاه أنه وجد على أفضل ما يكون الوجود وعلى افعل ما يكون الوجود في فجر عصر الإعلام الجماهيري الذى واكب انتشار أجهزة الراديو ، فتمكن من تحقيق نجاح سياسي و اجتماعي مذهل ونادر استطاع من خلاله بلوغ أقصى درجات الارتباط والترابط بين جماهير الشعب من ناحية وبين محيط السياسة الواسع من ناحية أخرى ، وقد أدى هذا الدور بعيدا عن روح ما كان مقدما من البدائل التاريخية المتمثلة في برامج التثقيف القسري و هياكلها التي عرفها العالم منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية .
وهكذا نجا الشيخ أحمد حسن الباقوري ونجت معه الجماهير العربية، وكانت نجاته ونجاة العرب معه من هذا النمط من التثقيف القسري رائعة، إن صح أن توصف النجاة بالروعة، وكانت هذه النجاة الرائعة راجعة في الأساس إلى ما احتفظت الحضارة الإسلامية لمجتمعاتها به من التعويل التلقائي على نمط أصيل من تربية الشعور الوطني على نحو يرتبط بالعقيدة وبالتقاليد والأعراف والأخلاق وبالأصول الريفية والوطنية وبالعُرف السائد.
وكان هذا الأسلوب من مقاربة الحياة الاجتماعية قد ترسخ عبر التاريخ المصري من قبل أن ينتشر الراديو ، ومن قبل أن توجد الإذاعة ، ومن قبل أن يولد الشيخ أحمد حسن الباقوري ، ومن قبل أن يبزغ العصر الحديث ، فلما توالى كل هذا ، وذهب الدور إلى صاحبه الذي هو الشيخ أحمد حسن الباقوري فإنه وجده جاهزا مستعدا على أفضل ما يكون الإعجاز والاستعداد والتأهيل ، وقد نجح الشيخ أحمد حسن الباقوري في أداء دوره هذا بسلاسة رهيبة من خلال قُدرة فائقة على الحديث الطويل أو التلقائي أو المُستطرد أو المُفصل الذي كان يتناول به قضايا السياسة في عصره من الحلم في نجاح العهد الجديد ، ومضيه بخطوات واثقة من التطهير إلى الاتحاد إلى النظام إلى العمل إلى الاقتراض إلى التسليح إلى البناء الى التصنيع إلى التفاوض إلى الأحلاف إلى العروبة إلى الوحدة ..
في كل هذه الميادين والآفاق، استطاع الشيخ أحمد حسن الباقوري في هدوء آسر للعقول، وقُدرة على التمكٌن من الأسماع أن يجذب المُواطن العادي من خلال الراديو ثم الترانزستور إلى هذا المُعترك الجديد للسياسة العالمية والوطنية في عصر الحرب الباردة من دون أن يُقحم على المُستمع البسيط (وعلى المستمع القارئ) مصطلحات الإمبريالية والفاشيستية والصراع الطبقي والديالكتيك والبرجوازية والبروليتاريا، ومن دون أن يجعل المًستمع أو القارئ يلجأ إلى تحضير نفسه قبل أن يسمعه.
لا تدرك جماعة الاخوان ما فعله لها
نجح الشيخ أحمد حسن الباقوري في أن يستولي على آذان المواطنين ويجعلها مُلكا للدولة وحكرا للثورة، وسواء استمر هو في موقعه أو حل آخرون عديدون محله فإن العادة كانت قد تكونٌت، والسليقة قد تغذت، والفطرة قد تربٌت، والوعي قد تشكٌل.
و على الرغم من وضوح معنى هذه الحقيقة ومغزاها في تاريخنا السياسي والاجتماعي غير المكتوب فإن كثيرا من الفصائل الوطنية لا تعرفها حق المعرفة ، فإن عرفتها بقيت حريصة على أن تُنكرها لا على أن تتجاهلها فحسب ، ومن المُدهش أن كل محاولات الإنكار والتجاهل لم تعد تُجدي بعدما تشكٌل الوعي الصلب الموروث ، فلم يعُد بالإمكان على سبيل المثال تغيير عقيدة العداء للاعتداء الصهيوني ، كما أنه لم يعد بالإمكان تغيير الاقتناع بجدوى الاعتماد على الاعتقاد بحتمية تقبل الأمر الواقع على نحو ما تعوٌد عليه الآباء والأجداد، وقد أصبح من المستحيل لا من الصعب فحسب أن يُحاول أي جهاز إعلامي أو غير إعلامي أن يعبث بوعي الشعب العربي في الجزئيات التي صاغتها رؤية الشيخ أحمد حسن الباقوري المُتفردة المعبرة في الوقت ذاته عن أعلى درجات الوعي الديني والقومي في ضمير الجماعة ، وهي الرؤية التي استوعبت المساحات العمومية من الفكر طيلة الفترة من 1952 وحتى الآن.
لو لم يكُن الشيخ أحمد حسن الباقوري قد وجد في هذا الموضع الذي قدٌره الله له وهيأه ، لكانت مصر قد ابتليت بدلا منه ببعض أصحاب الشقشقات اللغوية التي تجعل الواقع بعيدا كل البُعد عن عناصر الأصالة في الهوية المصرية والشخصية المصرية، لن نقول ما لا يزال يتصوره البعض من أن الشقشقة اللغوية كانت ستدفع بالمجتمع إلى الإلحاد بمعنى الكفر لكننا نقول إنها كانت كفيلة بدفع المجتمع إلى الإلحاد بالوطن وبالحياة و بالانصراف عن النصوص المُقدمة لأنها لا علاقة لها بالمستقبلات الوراثية في جسم الإنسان ، ولا بالمستقبلات المتعلقة بها.. ولعلى أزيد هذا المعنى وضوحا فأقول إننا نعرف من الطب أن حياتنا تنتظم بفضل منظومات فسيولوجية مُتعدٌدة تعتمد على مُستقبلات للمؤثرات، فهناك مستقبلات للحرارة، ومستقبلات للضغط على سبيل المثال فإذا لم تكن المؤثرات من المدى الذي تستطيع المُستقبلات أن تستقبله فإنها تعرض عنه، ومن ثم لا يُصبح لها ولا ينتج عنها أثر في الكيان الإنساني الموجود وفي صورة الحضارة القائمة.
ومن فضل الله على مصر أن وجد الشيخ أحمد حسن الباقوري في تلك الفترة فاستطاع أن يعبر بمنطقة الوعي المصري إلى آفاقها المُستقبلية مُعتمدا على المنابع الأصيلة في الشخصية والهوية، مُستغلا ذكاء الفهم، وذكاء الاستيعاب، وذكاء الخطاب، وذكاء الاستشهاد على نحو لم يُتح لأحد من قبله ولا من بعده بمثل هذا التفرٌد والانفراد على مدى طويل ومُتٌصل.
لا تدرك جماعة الإخوان المسلمين ولا تعرف حتى الآن مدى النجاح الذي وهبه الله لها بوجود الشيخ أحمد حسن الباقوري على نحو ما وجد في ذلك الوقت في السلطة ، على الرغم من هذا الوجود قد صور على نحو تاريخي ظهر و كأن العسكريين قد نجحوا في أن يتحدوا به الإخوان حين اختاروه للوزارة من بينهم من لم يرشحه الإخوان لهم ، ومع ما هو معروف عن الأزمة التي نشأت عن ذلك الحدث فإن التاريخ ينبئنا إن إفادة الإخوان من وجود الباقوري في السلطة لم تقل عن استفادة الضباط من وجوده ، وإن كانت فائدة الوطن قد فاقت فائدة هؤلاء و أولئك . وكأن مقادير الله جل في علاه شاءت هذا، وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون الإخوان المسلمون وليس غيرهم هم من أودعوا أمانة وعي الأمة في اللحظة التي أصبح الوعي يتشكٌل فيها بطريقة جماعية و جمعوية حية وفاعلة، وعلى نحو ما أتاحته موجات الإذاعة التي كان الشيخ أحمد حسن الباقوري يُخاطب المواطنين و يتصل بهم من خلالها، وعلى نحو ما أتاحته هذه الموجات حين كانت تنتقل وتتنقل وراءه في المناسبات والخطب وما يُعرف باسم الإذاعة الخارجية.
بعد سبع سنوات من العمل مع نظام 1952 وبالتحديد في فبراير 1959 حدثت للباقوري محنة شديدة مع الرئيس عبد الناصر، وقد ظل الناس إلى وفاة الرئيس عبد الناصر يغلبون عناصر الظن، ويقلبونها على وجوهها في حقيقة ما نشب بينهما من خلاف. وبعد سنوات طوال روى الشيخ أحمد حسن الباقوري بنفسه أسباب الخلاف في موضعين نقلناهما للقارئ في كتابنا العيش في العاصفة الذي تدارسنا فيه مذكراته ومذكرات الدكتور محمد البهي كما تدارسنا روايات كثيرين عن هذه الواقعة في مدارسنا لمذكراتهم في عدد من كتبنا الأخرى.
شائعات المخابرات ضده
ومع أن الناس لايزالون يُجهدون أنفسهم في البحث عما يحسن بهم أن ُصدٌقوه من بين ركام الشائعات التي أطلقتها أجهزة المخابرات تبريرا للإقالة المُفاجئة للباقوري في فبراير 1959 فإني كنت و لا أزال أعتقد أن الأمر يتجلى ساطعا وفي غاية الوضوح لقارئ التاريخ المتنبه لوقائعه و تواليها ، فلم يكن من المُمكن للرئيس عبد الناصر أن يعتقل كل الشيوعيين بدءا من اليوم الأخير من 1958 ومطلع 1959 وأن يترك الساحة للدين وحده، وهكذا كان لا بد للشيخ أحمد حسن الباقوري أن يخرج هو الآخر من الصورة تحقيقا للتوازن، ومن المدهش أن الشيخ أحمد حسن الباقوري عاش ومات من دون أن يُدرك هذه الحقيقة.
ومن المدهش أن كل من زعموا لأنفسهم العلم ببواطن الأمور انتقوا لأنفسهم الشائعة التي يُردٌدونها من بين عشرات الشائعات المُخابراتية مع أنهم يعرفون حق المعرفة أن موضوعات كل هذه الشائعات بلا استثناء لم يكن أبدا من مُبررات الرئيس عبد الناصر عندما يُريد أو يقرر أن يعزل وزيرا أو زميلا..
ومن المدهش مرة أخرى أن الرئيس عبد الناصر نفسه وجد لذة في تنامي مساحات هذا التسويق وهذا التشويق المصاحب له الذي رأى الناس يُمارسونه ويتفاخرون به على بعضهم البعض، ووجد أن الأمر يقتضي منه حفاظا لهم ولنفسه على هذه اللذة المتنامية بالتأليف المتنامي، إضافة إلى التعجب من هشاشة ثقة الناس في أنفسهم، ومن هشاشة ثقة المثقفين بخاصة في أنفسهم! وفي مكانتهم في مجتمع الفرد الواحد والديكتاتور الكلاسيكي.
ومن المدهش مرة رابعة أن الشيخ أحمد حسن الباقوري أعيد إلى الحياة العامة مع ظهور النية إلى إعادة الشيوعية إلى ساحة العمل والفكر ، لكن أحدا لم ينتبه إلى هذا أيضا ، ذلك أنه لم يكن من المنطقي أن يعود الشيوعيون ولا يعود الباقوري، ولو أن الشيخ أحمد حسن الباقوري وأنصاره من أصدقاء الرئيس عبد الناصر من طبقة الدكتور محمود فوزي والمهندس أحمد عبده الشرباصي وغيرهما قرروا أن يطلبوا من الرئيس عبد الناصر أن يُعيد الشيخ أحمد حسن الباقوري إلى وزارة الأوقاف وليس إلى منصب آخر لاستجاب الرئيس عبد الناصر لطلبهم من دون أن يلحوا فيه، لكن عصر الفرد الواحد كان كفيلا بتوقف فكر هؤلاء عند حدود مقيدة بأن يبحثوا لصديقهم عن منصب بديل فحسب .
و أخيرا فإنه في مجمل تاريخنا الاجتماعي والسياسي فقد كان الشيخ أحمد حسن الباقوري سادس من وصلوا إلى منصب الوزارة ممن تلقوا تعليمهم الأساسي في الأزهر الشريف والمؤسسات العلمية المرتبطة به ، وذلك بعد أربعة من الباشوات هم سعد زغلول باشا و مصطفى عبد الرازق باشا وعلى عبد الرازق باشا وطه حسين باشا والشيخ محمد أحمد فرج السنهوري لكنه من بينهم كان أول من جمع الأستاذية الأزهرية مع الدراسة والتكون الأزهري ، ولا شك في أن أثره في الوجدان المدني العربي لا يقل عن شأن أسلافه إن لم يكن يتفوق ببعض التميز الذي أتاحه طابع عصره و طول مدته في السلطة .
هذا عن الشيخ أحمد حسن الباقوري صاحب الأثر، أما الشيخ أحمد حسن الباقوري العالم فلا يزال بعيدا عن التقدير الذي يستحقه، ويكفي على سبيل المثال أن اشير إلى انه يصعُب حتى الآن أن تجد قائمة بيبليوغرافية لمؤلفاته المتناثرة كلها، حتى أنك تُصادف رسائل مختلفة له هنا وهناك ومحاضرات ومقالات هنا وهناك لم تضمها الكتب التي صدرت له، مع أن الببليوغرافيا العربية لا تقدم على وجه التحديد قائمة بالكتب التي صدرت له وكتبه التي لا تزال رغم مجده مخطوطة هنا وهناك.
ويكفي على سبيل المثال أن أشير إلى ما رٌزق به الشيخ الباقوري من عبقرية وتوفيق في كتابته لرسالته التي تقدم بها لنيل العالمية من درجة أستاذ ونال بها هذه الدرجة في العام ال جامعي1935 /1936 وقد كان موضوعها أثر القرآن الكريم في اللغة العربية.
كما يكفي أن تقرأ رؤيته الثاقبة للجوانب الإيمانية والاجتماعية في عبادة الصيام وجوانبها الحضارية في كتابه “مع الصائمين”، ويكفي أن تقرأ ما لخٌص به محتويات الكتب التقليدية في السيرة النبوية، ويكفي أن تقرأ الرسائل التي عبٌر بها عن منظور إسلامي في القضايا الدولية المطروحة ومنها قضايا الاستعمار والعلاقات الاجتماعية والثقافية.
دعوته لحسن التعامل مع الشيعة
لم تكن القضايا الخلافية الحادة قد تفجرت في عهد لمعان الشيخ أحمد حسن الباقوري، وهكذا فإنه لم يدخل في معارك مذهبية وسياسية فرضت نفسها على الجيل اللاحق به، لكنه في زمانه كان داعية باعتدال إلى حسن التعامل مع الشيعة، وإلى تشجيع لقاءات اجتماعية لم يكن يحملها أكثر مما تحتمل مكتفيا بما يلقيه عنوانها من ظلال، وكان هذا العنوان هو الإخاء الديني.
وفي مجمل الأحوال فقد ظهرت فيما يسمى تصرفاته اليومية ملامح الطبيعة الاستيعابية في فكره وعلمه وصبغت العلاقات الإسلامية المسيحية التي كان ينخرط فيها في عهد ساده الهدوء إلا قليلا،
كان الشيخ أحمد حسن الباقوري يدعو إلى نشر كتب الشيعة للوقوف عليها بغية إزالة الخلاف بينهم وبين إخوانهم أهل السنة. ” وليس هناك من سبيل للتعرف على الحق في هذه القضية إلاّ سبيل الاطلاع والكشف عما عند الفرق المختلفة من مذاهب وما تدين به من آراء،ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة. والخلاف بين السنّيين والشيعيين خلاف يقوم أكثره على غير علم حيث لم يتح لجمهور الفريقين إطلاع كل فريق على ما عند الفريق الآخر من آراء وحجج، وإذاعة فقه الشيعة بين جمهور السنة وإذاعة فقه السنة بين جمهور الشيعة من أقوى الأسباب لإزالة الخلاف بينهما، فإن كان ثمة خلاف فإنه يقوم بعد هذا على رأى له احترامه وقيمته”
كان من أكثر من نبهوا ومن أقواله في هذا الصدد: إن المشاعر الدينية تنفذ إلى نفوس الناس من خلال العقبات الكثيرة التي أنتجتها الحضارة المعاصرة والإنسان في لحظات ضعفه يزداد تمسكاً بالدين، لأنه في هذه الحالة يبحث عن القوة الأعلى منه
كان الشيخ الباقوري لمن عرفوه وأدركوه في نهاية عمره من أمثالي علما يشار إليه بالبنان، وسيما قسيما، مرفوع القامة، عالي الهامة، متجدد الهمة، متيقظ الذهن، حاضر النكتة، سريع البديهة، ذكي الفؤاد، حلو الحديث، عفيف اللسان، خفيض الصوت، سَمْحًا يُؤثرُ في فتاواه وتعليقاته الحسنى واللطف والتيسير، وكان اجتماعيا بلا تبذل، مهيبا بلا غطرسة، يشيع موجات من الحب والانفتاح والوداد.
نشأت على الاستماع إلى حديثه في الصباح الباكر ، وثناء والدي رحمه الله على علمه و أدبه وفهمه وفقهه ، ثم أتيح لي أن أعرفه مباشرة في مجمع اللغة العربية في 1977 ، واستمعت منه مباشرة وعلى انفراد إلى رأيه في عدد من أعلامنا ، وتلقيت تهنئته العطوفة حين فزت بجائزة مجمع اللغة العربية 1978 وحين فزت بغيرها ‘ وحضرت بعض محاضراته في معهد الدراسات الإسلامية ، فوجدته و كأنه يلقيها في التلفزيون بالوقار نفسه من دون ملل ، و ذلك بفضل قدرته على تلوين الصوت رغما عن مرضه الشديد ، ثم قدر لي أن أشترك بحديث واف في حفل تأبينه الكبير ، وقد تفضل المنظمون ليلتها باعتباري ممثل الجامعات المصرية في تأبين ذلك الرجل الأكاديمي العظيم فكان هذا من التشريفات العظيمة في حياتي .
نمضي الآن في محورنا الثالث مع سيرة الشيخ أحمد حسن الباقوري بداية من مولده وحتى وفاته.
ولد الشيخ أحمد حسن الباقوري في 26 مايو 1907 في باقور التابعة لمركز أبو تيج بمحافظة أسيوط في مصر وهي فيما يبدو قرية صغيرة جداً إلي الحد الذي جعل الدكتور طه حسين يخاطب الشيخ أحمد حسن الباقوري في حفل انتخابه عضوا في مجمع اللغة العربية فيقول له عن قريته إنها عرفت به!!
التحق الشيخ أحمد حسن الباقوري بمعهد أسيوط الديني عام 1922، و ظهر نبوغه طالبا وخطيبا وشاعرا حتى يروى أنه كان قد حفظ الْمُعلَّقات العشر كلها و شروحها في مرحلة مبكرة من عمره ، وحصل من هذا المعهد علي الشهادة الثانوية الأزهرية عام 1928 فالتحق بالأزهر و حصل على الشهادة العالمية القديمة (أي من النظام القديم) ، وقد أتيح له أن يشهد وهو في مرحلة الدراسة العالية بدء تطبيق النظم الجامعية الأزهرية ، و تمايز الكليات الجامعية الثلاثة لكنه كان من الذين أدركوا الدراسة العالية قبل أن تتفرع إلى كليات ، حين كانت الشهادة الأزهرية العالية لا تزال شهادة واحدة موحدة واحدة وهي العالمية القديمة التي حصل عليها الشيخ أحمد حسن الباقوري بعد أربع سنوات من إتمامه الشهادة الثانوية في معهد أسيوط الشامخ في ذلك الوقت . وما أن حصل الشيخ أحمد حسن الباقوري على هذه الشهادة العالية حتى انتظم في الدراسات الأعلى، واختار أن يتم رسالته للعالمية الكبرى أو العالمية من درجة أستاذ في البلاغة والأدب.
وقد حصل الشيخ أحمد حسن الباقوري على شهادة العالمية الكبرى (أو العالمية من درجة أستاذ) في البلاغة والأدب عن رسالته: أثر القرآن في اللغة العربية سنة 1936.
عين الشيخ أحمد حسن الباقوري مدرساً للغة العربية وعلوم البلاغة في معهد القاهرة الأزهري، وهي بداية مرموقة وأكثر من واعدة، ثم نقل مباشرة مدرساً بكلية اللغة العربية، وبعدها نقل وكيلاً لمعهد أسيوط العلمي الديني، ولم يلبث أن نقل وكيلاً لمعهد القاهرة الديني الأزهري عام 1947، وفي سنة 1950 عين شيخاً للمعهد الديني بالمنيا، وهو المنصب الذي أتي منه إلى الوزارة.
زعامة الثورة
في 1934 تزعم الشيخ أحمد حسن الباقوري ما عرف بثورة الطلبة في الأزهر، وكانت ثورة داخلية في الأزهر قامت تطالب بعودة الشيخ الأكبر محمد مصطفى المراغي إلي منصب المشيخة. وفي 8 نوفمبر 1934 قاد الشيخ الباقوري طلبة الأزهر إلى الإضراب عشرة أيام، وتابعه في هذا الإضراب جميع طلاب الأزهر، واستمروا في المظاهرات والإضراب رغم فصل الدولة لزعماء الطلاب فصلاً نهائيًا، كان على رأس المفصولين الشيخ أحمد حسن الباقوري.
من المهم في التاريخ الدقيق لدور الشيخ أحمد حسن الباقوري في ثورة الأزهر وثورة 1935التي اتحدت بها فأصبحتا ثورة واحدة ،أن نشير إلى أنه مارسها من مقعد قريب من مقعد الأستاذية لا من مقعد الطالب العادي فقد استغل تسجيله كطالب للدكتوراه (على حد تعبيراتنا المعاصرة) واعتبر نفسه من طلبة الازهر بينما كان قد تخرٌج بالعالمية القديمة 1932، وهكذا فإن الشيخ أحمد حسن الباقوري الثائر كان طالب دكتوراه ولم يكن طالبا جامعيا في مرحلة الليسانس ، ولهذا وبحكم ما يفوق هذا الوضع من مهاراته وكفاءاته و شعره وخطابته كان هو زعيم ثورة الأزهر التي ضمٌت فيمن ضمٌت من الزعماء الشيخ محمد نايل والشيخ محمد متولي الشعراوي وغيرهما من الأعلام.
ومن الثابت أنه تحت ضغط هذه الثورة المتأججة اضطر الملك فؤاد إلى قبول استقالة الشيخ الظواهري في 27 أبريل 1935، وعاد المراغي شيخًا للأزهر للمرة الثانية ودعا الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الشيخ أحمد حسن الباقوري ليكرمه فقدم له هدية “مصحفًا ومسدسًا” تقديرًا منه لجهوده في قيادته للثورة، وكانت عقيدة الأزهريين ولاتزال أن الشيخ الباقوري صار في نظر الشيخ المراغي أهم من جميع مشايخ الأزهر.
وكان نجاح ثورة الأزهر إيذانا قويا بنجاح ثورة 1935 وعودة دستور 1923، وتوجه زعماء الأحزاب جميعا إلى التعاون من أجل التفاوض مع البريطانيين، وهو ما انتهى بتوقيع معاهدة 1936
ومن الطريف أنه فيما بعد ثورة 1952 وحين بدأ الثوار والوزراء الجدد يبحثون في دفاترهم القديمة وذكرياتهم القديمة فإنهم قالوا بأن الرئيس عبد الناصر نفسه كان مشاركا في تسيير هذه الثورة من خلال تمثيله لطلاب المدارس الثانوية، وأن حسن عباس زكي كان يمثل طلبة مدرسة التجارة العليا وأن الدكتورة سهير القلماوي كانت تمثل كلية الآداب.. وكأن هؤلاء كانوا أندادا للشيخ أحمد حسن الباقوري الذي كان يمثل الأزهر في لجنة الطلبة.
تألقه في الاخوان
في سيرة ومسيرة ثالثة موازية، كان الشيخ أحمد حسن الباقوري قد آثر منذ شبابه المبكر لنشاطه السياسي أن يتنامى ويزدهر من خلال جماعة الإخوان المسلمين، وقد انضم مبكرا إلى الإخوان سنة 1933، وسرعان ما أصبح أحد قيادات الإخوان بل أصبح عضوا في مكتب الإرشاد، وكان كما نعرف أحد المرشحين بقوة لخلافة الإمام الشهيد حسن البنا.
في هذه الجماعة بزغ اسمه، ولمع سهمه، بل سطع نجمه إلى الحد الذي سرعان ما اختير معه وكيلاً للشيخ حسن البنا المرشد العام نفسه، وكان الإمام الشهيد حسن البنا نفسه يفاخر على الدوام به، ويعتمد عليه اعتماداً كبيراً، ولا شك في أن وجود عالم أزهري متمكن ومتكلم مثله إلى جوار الإمام الشهيد حسن البنا كان مكسبا للجماعة، بكل المقاييس وكان الإمام البنا يحبه ويقدره وينيبه عنه في كثير من المهام.
وفي 1938 شارك الشيخ أحمد حسن الباقوري بشدة في التحريض على أحزاب الأقلية المؤتلفة لكنه لم يفعل هذا من أجل الأغلبية أو الوفد.
وفي المؤتمر السادس للإخوان الذي انعقد 2 فبراير 1939 تألق نجم الباقوري على نحو خارق للعادة.
وفي 1940 تزوج الشيخ أحمد حسن الباقوري ابنة أستاذه الشيخ محمد عبد اللطيف دراز أحد كبار علماء الأزهر وأحد الزعماء المبرزين في ثورة 1919، ووكيل الأزهر فيما بعد، ويروي الإخوان المسلمون أن الإمام البنا هو الذي اصطحبه في خطبة كريمة الشيخ محمد عبد اللطيف دراز، وكان الشيخ دراز وجها من وجوه الحياة العامة كما كان سياسيا مبرزا، وقد فاز بعضوية مجلس النواب ثلاث مرات كمرشح مستقل، وقد هيأ هذا النسب للشيخ الباقوري بعد إضافياً في حضوره العام، وصلاته المجتمعية، ونشاطه السياسي. ومن الجدير بالذكر كذلك أن السيدة زوجته كانت قد تلقت تعليمها في المدارس الفرنسية المتاحة في ذلك الوقت.
كان من نتائج ما عرف عن ثورية الشيخ أحمد حسن الباقوري وزعامته وصلاته السياسية الواسعة أنه اعتقل في عهد وزارة الوفد، في 1942 حتى 1944 من باب التحفظ على من هم قادرون بطريقة أو أخرى على إيذاء جبهة بريطانيا والحلفاء.
في عهد الوزارات السعدية الدستورية المؤتلفة رشح الشيخ أحمد حسن الباقوري نفسه في دائرة الخليفة بالقلعة، على نحو ما رشح عدد من الإخوان المسلمين أنفسهم: مصطفى مؤمن، وفهمي أبو غدير، وطاهر الخشاب، والشيخ عبد المعز عبد الستار.
لما وقعت محنة الإخوان الأولى في 1949 تولى الشيخ أحمد حسن الباقوري مهمة الإشراف على رعاية أسر المعتقلين. ولما رُفِعَتْ الأحكام العرفية سنة 1951م وعاد الإخوان إلى الوجود الشرعي قدَّمَ الشيخ أحمد حسن الباقوري تقريرًا بما قام به وسلَّمَ الأمر إلى الإخوان ليختاروا مرشدا لهم.
كان الشيخ أحمد حسن الباقوري أحد الأربعة الذين رُشِّحُوا لمنصب المرشد العام قبل أن ينتهي قرار الإخوان إلى أن يؤثروا بهذا المنصب الأستاذ حسن الهضيبي القاضي السابق في محكمة الاستئناف والذي كان على صلة وثيقة، وإن لم تكن مُعلنة، بالإمام البنا رحمه الله. أما المرشحون الأربعة فكانوا:
الشيخ أحمد حسن الباقوري
الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا
الأستاذ صالح عشماوي
الأستاذ عبد الحكيم عابدين
الباقوري في الوزارة
بعد قيام الثورة اختير الشيخ أحمد حسن الباقوري وزيرا للأوقاف في أول وزارة شكلها الرئيس محمد نجيب (سبتمبر 1952) وبقي في هذا المنصب ست سنوات ونصف بلا انقطاع (في ثماني وزارات متتالية) حتى أقيل في فبراير 1959.
وفي الوزارة ضم الشيخ أحمد حسن الباقوري إليه مجموعة من الدعاة المعروفين من الإخوان السابقين، وعلى رأس هؤلاء ثلاثة من الأقطاب :
الأستاذ البهي الخولي الذي ولاه منصب مراقبة الشؤون الدينية،
والشيخ محمد الغزالي الذي تولى منصب مدير المساجد،
والشيخ سيد سابق، الذي تولى منصب مدير الثقافة.
واستطاع الشيخ أحمد حسن الباقوري خلال توليه هذا المنصب أن يصلح كثيراً من الأمور بقوة وعزيمة، فكان هو الذي منع منعا باتًا هدم أي مسكن مقام على أرض حكر للوزارة. وأنهى كثيرا من المظالم، كما حاول ضبط وإصلاح بعض تصرفات الطرق الصوفية، وتطوير إدارة مستشفيات الأوقاف، وكان من أهم ما تم في عهده في الوزارة إلغاء الوقف الأهلي، ومع أنه في حقيقة الأمر لم يكن موافقا تماما على الفكرة فإنه بحكم التزامه بروح عمل الفريق، وبحكم رهبة فوهات الدبابات لم يمانع في أن يكرر القول مع إعلام الثورة بأنه هو نفسه كان مع إلغاء الوقف، بسبب ما تكاثر عليه عبر السنين من فساد إداري.
لكن هذا كله لا ينفي أن قيمة الشيخ أحمد حسن الباقوري التي أفادت الثورة أيما إفادة كانت في حضوره المتصل وتشريفه حكومتها في كل مكان رحل إليه، وقد سافر الشيخ أحمد حسن الباقوري إلى كثير من البلاد العربية والإسلامية حتى الصين، وتولي توطيد العلاقة مع كثير من هذه الحكومات ووضع أسسا لعلاقات ثقافية وتعليمية جديدة. كما شارك الشيخ أحمد حسن الباقوري في مؤتمر باندونغ (1955) مع الرئيس جمال الرئيس عبد الناصر وشارك أيضا في مؤتمر الخريجين بالقدس 1955 الذي كان بمثابة أهم فرصة تعارفت فيها الثورة بالنخب الثقافية العربية.
وفي 1956 اختير الشيخ أحمد حسن الباقوري عضواً في مجمع اللغة العربية وهو في التاسعة والأربعين من عمره، وفي 1958 حاول الاستقالة لانشغاله المتصل فرفضت استقالته، ولم يكن يعرف أنه مقدم على خمس سنوات من العزلة الإجبارية!!
فيما بعد وفاقه مع الرئيس عبد الناصر عاد الشيخ أحمد حسن الباقوري ليعين مديراً لجامعة الأزهر (يوليو 1964) وليكون بعد الدكتور محمد البهي ثاني مدير لها بعد قانون تطوير الأزهر، وفي الواقع فإن الشيخ أحمد حسن الباقوري هو المؤسس الحقيقي لجامعة الأزهر.. وهو صاحب أطول مدة في منصب مدير جامعة الأزهر في جيله.
وقد استطاع الشيخ أحمد حسن الباقوري بحكم ثقافته الواسعة وتسامحه، وسعة أفقه أن يهيئ الفرصة لأساتذة الكليات الجديدة المستحدثة في الأزهر أن يجدوا مكانا رحبا تحت شمس الأزهر الشريف العريق، وأن يؤسسوا معاملهم وكلياتهم وفق أنظمتهم وعملهم، وحتى الآن لم يكتب شيء عن هذا الفضل. وفي عهده هو بدأ تخريج الأزهر للأزهريين من ذوي المهن القادرين على أن ينشروا الدعوة في المجتمعات الأفريقية والآسيوية والأوربية والأمريكية على حد سواء.
وفي 1964 تولى الشيخ أحمد حسن الباقوري رئاسة مجلس إدارة البعوث الإسلامية وفي مايو 1966 تولى رئاسة مجلس جامعة الأزهر، وفي مايو 1969 اختير الشيخ أحمد حسن الباقوري عضواً بمجمع البحوث الإسلامية، وفي سبتمبر 1969 أحيل إلى المعاش.
وعلى المستوى القومي كان الشيخ أحمد حسن الباقوري عضوا حاضراً بصفة دائمة في المجلس الأعلى للجامعات، وعضوا في المجلس الأعلى للأزهر، وعضوا في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
وفي عهد الرئيس السادات اختير عضوا في عدد من المؤسسات الجديدة والمستحدثة، فاختير عضوا في جامعة الشعوب الإسلامية والعربية، واختير قبلها عضوا في المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا، وعضوا في شعبة التعليم الجامعي بالمجلس القومي للتعليم، وعضوا في لجنة التعليم بالحزب الوطني، وعضوا في لجنة التنسيق بين الجامعات وأكاديمية البحث العلمي، ومستشارا للشعبة القومية لمنظمة اليونسكو بالقاهرة.
وعلى المستوى السياسي اختير الشيخ أحمد حسن الباقوري بصفة دائمة في عصري الرئيس عبد الناصر والسادات ثم في عصر الرئيس مبارك عضواً في كثير من مؤسساتنا السياسية المهمة، فكان عضواً في المؤتمر القومي العام للاتحاد الاشتراكي العربي وفي اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وعضوا في اللجان العامة للمواطنين من أجل المعركة، كذلك فقد عين الشيخ أحمد حسن الباقوري عضواً في مجلس الشورى (1980) عند تشكيله لأول مرة واحتفظ بهذه العضوية حتى وفاته.
وقد احتفظ الشيخ أحمد حسن الباقوري حتى وفاته بمنصبين غير حكوميين كانت لهما طبيعة شبه تنفيذية فكان رئيسا ومديرا لجمعية ومعهد الدراسات الإسلامية بالعجوزة، وهو صاحب الفضل الأوفى في نهضة هذا المعهد ودوره المتميز، كما أنه ترأس مجلس إدارة جمعية الشبان المسلمين حتى وفاته.
أشعار الباقوري
نعود الآن بقدر من التفصيل إلى الدور الفكري الذي لعبه الشيخ أحمد حسن الباقوري، في جماعة الإخوان المسلمين، وعلى سبيل الرمز الدال فإننا سنكتفي من هذا الدور بالحديث عن مواكبته للدعوة بشعره.
وإذا جاز أن نلخص هذا الدور في عبارة واحدة فإننا نستعير القول “الأيقوني” المشهور فنقول إن شعر الباقوري هو ديوان الإخوان المسلمين وفي حقيقة الأمر فقد كان الشيخ أحمد حسن الباقوري بحكم انتمائه الصادق للإخوان ينتهز كل فرصة لتحية جماعة الإخوان المسلمين ومجتمع هذه الجماعة، ومرشدهم، وشبابهم، ومؤسساتهم، وأنشطتهم، وقد كنت ولا أزال أدعو لله أن يهيأ لشعر الباقوري من يجمعه كله في ديوان محقق ومبوب مع تذييل كل قصيدة بتواريخ الإلقاء والنشر.
ومن المعروف أنه هو، وليس غيره، الذي نظم ما عرف على أنه النشيد الرسمي لجمعية الإخوان المسلمين، وهو النشيد الرئيسي الذي كان الإخوان يرددونه في كل محفل بكل ما يعنيه هذا من مسئولية فكرية، لكنه كان من الذكاء بحيث صور نظمه لهذا النشيد على أنه جاء بمحض المصادفة، وبناء على طلب الإمام الشهيد حسن البنا في أثناء عودة الإخوان المسلمين من إحدى رحلاتهم إلى بورسعيد عن طريق بحيرة المنزلة في مركب بخاري أنيق:
” ولم أملك إلا أن أستجيب، وأن أستجمع ذهني، وجميع عواطفي الدينية والوطنية لكي أظفر ببضعة أبيات من الشعر”.
نشر هذا النشيد لأول مرة في جريدة الإخوان المسلمين 19 نوفمبر 1935 على هيئة قصيدة بعنوان (يا رسول الله) من واحد وعشرين بيتًا :
يَا رَسولَ الله هلْ يُرْضِيكَ أنّا/ أُخْوَةٌ فِي الله للإِسْلامِ قُمْنَا
نَنْفُضُ الْيَوْمَ غُبَارَ النَّوْمِ عَنَّا/ لا نَهَابُ الْمَوْتَ لا بَلْ نَتَمَنَّى
أَنْ يَرَانَا الله فِي سَاحِ الْفِدَاءْ
غيرنا يرتاح للعيش الذليل/ وسوانا يرهب الموت النبيل
إن حيينا فعلى مجد أثيل/ أو فنينا فإلى ظل ظليل
حسبنا أنا سنقضي شهداء
ومن الشائع عند الإخوان المسلمين أن هذه الإيحاءات الإيمانية التي قاربها هذا النشيد، وتلامس مع جوهرها كانت مدخلاً لصياغة هتاف الإخوان المعروف: الله غايتنا، والقرآن دستورنا، والرسول زعيمنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
●
وللشيخ أحمد حسن الباقوري قصيدة ميمية رائعة في مديح الإمام الشهيد حسن البنا مرشد الإخوان وجماعته وهي في رايي أفضل القصائد التي قيلت في الإمام البنا ، وقد ألقاها الشيخ أحمد حسن الباقوري في مدينة الواسطى بمحافظة بني سويف في أحد الاحتفالات الإخوانية ، وقد نشرت القصيدة في جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية 29أغسطس 1939 وفيها يذهب الشيخ أحمد حسن الباقوري إلى التعبير عما يعتقده من تجسيد دعوة الإخوان لحالة بعث العقيدة الإيمانية الكامنة في النفوس ، وما يصحبها من تقمص لحالة الافتراق بين الحق والباطل والنور والظلمات ، وهو يعبر بثقة شديدة عن تلبس دعوة الإخوان بكل عوامل الإيمان والظفر والثقة في رعاية الله وحفظه ورزقه الواسع الغزير ، كما يعبر عن يقين مستقر في أن الطبيعة والزمن والتاريخ جميعا تستقبل دعوة الإيمان بما تستقبل به الظواهر الطبيعية التي تأتي فى موعدها مع القدر :
أذن النصر والتقت أعلامه/ وانجلى الكفر حين ريع ظلامه
أي ركب مظفر أينما را/ ح ففي قبضة الإله زمامه
كلما حلّ واديًا راح يجري/ في رباه الندى وفاض غمامه
وإذا صاح منشدًا رجّع الكو/ ن وأصغى في غابه ضرغامه
●
ويمدح الشيخ أحمد حسن الباقوري سجايا فضيلة المرشد من خلال مديحه المخلص لشبابه الملتفين من حوله الذين جمعوا السؤدد والمجد والطموح والخير والحق والقوة، وهو يقرن هذا بأن يخاطب المرشد متحدثا عن تعشقه للحق منذ الصبا:
أي ركب وأي صحب كرام/بعدما جانب الزمان كرامه
إنهم سادة الشباب تلاقت/ في ربا المجد والعلا أحلامه
فهم الخير فيضه وجناه/ وهم الحق سيفه وحسامه
أيها المرشدُ الكريمُ شباباً/ عشت للحق مذ نشأت غلاماً
فهو جندٌ إذا دعوت سميعــاً/ بايع الله أن يموت وفيــاً
أسلمتك الأيام إياه غضـاً/ فإذا نفحة النسيم رضاه
تفتديه العلا وأنت إمامــه/ فببرديك شيخه وغلامـــه
يمنع الحق أن يُحَل حرامــه/ وعلى عهده استقر مقامه
فانجلت عنه بالهدى أوهامه/ وإذا وقدة الجحيم ضرامه
●
ويجيد الشيخ أحمد حسن الباقوري وصف ما يراه ويعتقد فيه من عناصر التميز والتفوق والتفرد في التكوين السياسي والجهادي والخلقي لجماعة الإخوان المسلمين:
يا شباب الهدى وقد جمعتكم/ في رياض من التقى أرحامه
أي مجد لكم وأي فخارٍ/ أن يُرى الدين حكّمت أحكامه
يا شباب الإسلام هزوا قناكم/ صافحوا المجد إنكم قوّامه
هي الأخلاق لا يرجى سواها/ رعاة لم تنشئهم رباهــا
محاربة الفضيلة في حماها/ لإنقاذ الشعوب، وقد رعاها
وحكام رأوا جهلاً مناهــا/ فساموها الهوان و أوبقوها
●
قلنا إن الشيخ أحمد حسن الباقوري كان بحكم انتمائه الصادق للإخوان ينتهز كل فرصة لتحية الإخوان المسلمين ومؤسساتهم، وفي هذا الإطار فإنه حيا جريدة الإخوان المسلمين بقصيدة عنوانها ” تحيتي” من 39 بيتًا وقد نشرتها الجريدة نفسها في 22 يونيو 1933، وهو يتحدث في هذه القصيدة بفخر واثق عن تمسك الجريدة بالمبدأ، والطهر، والفداء، والدفاع عن القيم النبوية الرفيعة:
تكاد تنطق بالبشرى مظاهرها/ والبشر ينشر طورًا ويطويها
كأنا حين لاحت في نواظرها/ صحيفة المبدأ السامي تحييها
مرحى بها وبيوم كان مطلعها/ وبالحياة وقد وافت أمانيها
وبالشباب الذي يرى مبادئها/ ويطلب الموت إن طاشت مراميها
●
وهو يصل في حبه للصحافة الإخوانية واقتناعه بها إلى درجة عالية من التطرف الحاد تجعله يرى ويقرر أن من يعادي الصحافة الإخوانية لا يستحق الحياة، وهو يقول:
لسان جمعية الإخوان لا برحت/ بك الحياة طهورًا من مخازيها
لا كان عز يرد اليوم دعوتها/ ولا تمتع بالدنيا معاديها
ويختم هذه القصيدة بقوله:
روح النبي أطلى فانظري فئة/ تفدي تراثك بالدنيا وما فيها
قد بايعتك على عيش تقر به/ أو إن تمت دفاعًا عن مباغيها
●
وللشيخ أحمد حسن الباقوري قصيدة مفعمة بالحماسة والحب والعصبية الصادقة بعنوان “شاعر الإخوان ” تذكر الأدبيات الإخوانية أنه ألقاها في اجتماع إخواني في مدينة طما من صعيد مصر والقصيدة من سبعة عشر بيتًا ونشرتها جريدة الإخوان المسلمين 6 أكتوبر 1936 يقول مطلعها:
مجد تراءى للمجد أثيله/ رقصت له مصر وغنى له النيل
وفيها يقول الشيخ الباقوري:
يا أيها الرجل الذي جنت به/ همم الصعيد بقبول حين يقول
أعلن مبادئ لا يزال لها إلى/ همم الرجال المخلصين سبيل
من ذا الذي يستجيب لدعوة/ سيف النبوة سيفها المسلول
ويصل الشيخ أحمد حسن الباقوري في هذه القصيدة إلى قول يتخطى به مساحة الفخر التي ذهب إليها شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته الشهيرة، ومع أن هذا البيت للشيخ الباقوري لم يشتهر على يد أعداء الإخوان ولا على أيدي الإخوان فإنه جدير بالتأمل العميق:
مصر بغير شعارنا مقتولة/ والشرق إن لم يستفق مقتول
●
ونعود مع الزمن لمرحلة مبكرة فنقرأ للشيخ أحمد حسن الباقوري في قصيدة “أيه يا دهر” التي نشرت في 30 نوفمبر 1933 حديثه المتشوق إلى عودة مجد الإسلام في عصوره الزاهية بفضل التربية النبوية التي صرنا في عصرنا أحوج ما نكون إلى استيعابها واستعادتها:
أيه يا دهر تأن/ وارو للمستضعفين
في خشوع كيف كنا/ تاج رأس العالمين
صف لنا كيف استطعنا/ أن نسوس الأرض حينًا
ويقول في هذه القصيدة ذات البحر الرشيق:
حدث الأغرار منا/ كيف ربانا محمد
هل روى التاريخ عنا/ غير أفضال وسؤدد
ليس من يحيا ذليلا/ تحت نير السفهاء
مثل من يقضي نبيلا
●
ويحرص الشيخ أحمد حسن الباقوري على أن يمدح الإنجازات التي تحققها جماعة الإخوان في سبيل خدمة دين الله بتؤدة وثقة، في قصيدة “بسم الله مجريها” من واحد وأربعين بيتًا نشرت في 4 أبريل 1935 مطلعها:
الله أكبر بسم الله مجريها/ تكاد تختال عجبًا في مجاريها
شباب جمعية الإخوان لا تهنوا/ إن السعادة نادتكم فلبوها
هذي يدي قطعت إن كنت أبسطها/ لغير راية دين الله تعليها
ويختم القصيدة بقوله المشهور:
إن النفوس إذا ذاقت مبادئنا/ فالموت في نشرها أسمى أمانيها
مؤلفاته
الإدراك المباشر عند الصوفية، عام 1949.
سيكولوجية التصوف، عام 1950.
دراسات في الفلسفة الإسلامية، عام 1958.
ابن عطاء الله السكندري وتصوفه، عام 1958.
ابن عباد الرفدى حياته ومؤلفاته، عام 1958.
علم الكلام وبعض مشكلاته، عام 1966.
الإسلام في إفريقيا، عام 1970.
إخوان الصفا ودورهم في التفكير الإسلامي.
مدخل إلى التصوف الإسلامي، عام 1974.
الإسلام والفكر الوجودى المعاصر، عام 1978.
العلاقة بين الفلسفة والطب عند المسلمين، عام 1981.
وجوب استقلالية الثقافة المصرية بين التيارات الفكرية المعاصرة، عام 1984.
مع الصائمين.
مع القرآن.
أثر القرآن الكريم في اللغة العربية، تقديم طه حسين.
وسائل الشيعة ومستدركاتها.
عروبة ودين
غروب الاستعمار الفرنسي
الإسلام والجهاد
القرآن: مأدبة الله للعالمين.
من المؤتمرات التي شارك فيها:
مؤتمر فلسفة العصر الوسيط، بون، ألمانيا الغربية.
مؤتمر التعليم الإسلامي، مكة، المملكة العربية السعودية 1978.
مؤتمر السنة والسيرة، قطر 1980.
مؤتمر الطب الإسلامي، الكويت 1981.
مؤتمر الإسلام، فرنسا 1982
مرضه ووفاته
تروج قصص متعددة حول إصابة الشيخ بالشلل أشهرها أنه ذهب ذات مرة لاستقبال الرئيس عبد الناصر عند عودته من الخارج فوقف ضمن المستقبلين في الصف الأول ، كما يقضي البروتوكول باعتباره وزيرا سابقا ، فجاء ضابط شرطة شاب برتبة ملازم ودفع الشيخ بعصاه إلى الخلف قائلا: هذا ليس مكانك ، فوقع الشيخ على الأرض، وأصيب لفوره بالفالج !! ، ونقل إلى مستشفى القوات المسلحة ، و بوشر علاجه لكنه بقي على حالة الشلل النصفي، وظل كذلك حتى نهاية عمره، و كان المرض ينغص عليه حياته ، لكنه ظل صابرا محتسبا حتى توفي أثناء متابعته لعلاجه في لندن في 27 أغسطس 1985.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا