الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / أحمد ماهر باشا ونهاية الحماسة في مصر

أحمد ماهر باشا ونهاية الحماسة في مصر



كان أحمد ماهر باشا زعيماً وطنياً لا شك في هذا لكنه تورط في أصعب ما يصادفه الزعيم الوطني من سوء الحظ، وهو الظن بأنّه أولى من الزعيم الموجود بالزعامة

من بين أنداده من الساسة المعاصرين فإن قصة حياة أحمد ماهر باشا تصلح نواة لعمل درامي من الأعمال الدرامية المطلقة نقصد : الدرامية غير التوثيقية ، عمل فني يتناول تاريخنا المعاصر في خلفيته لا في صلبه، والسبب ببساطة شديدة أن حياة هذا الرجل تحوي من الصراعات الداخلية رصيدا ومكنونات وافرة يستطيع المؤلف المسرحي أن يوظفها بإمتاع ، بل إن مسيرة حياته السياسية من بدايتها لنهايتها وحتى في نهايتها بالاغتيال تمثل نهاية الحماسة في مصر فقد وجد التدبير في كل حوادث الاغتيال التي حدثت بعدها أما في حالته فلا نزال حتى الآن حيارى بين ثلاث نظريات حول دافعها المباشر ولكل واحدة من النظريات الثلاث أسانيدها .
أزمة ماهر
كان أحمد ماهر باشا زعيماً وطنياً لا شك في هذا لكنه تورط في أصعب ما يصادفه الزعيم الوطني من سوء الحظ، وهو الظن بأنّه أولى من الزعيم الموجود بالزعامة، ثم العمل على إزاحة هذا الزعيم بكلّ الوسائل لكي ينال ما يستحقّهُ هو من الزعامة التي يظنّ أنه أولى بها، ثم تصاعد هذا الظن إلى درجة توصف بأنها توهّم الظن على أنه هو اليقين بناء على ما كان يسمعه تكرارا من مديح وتشجيع وولاء أصحاب المصلحة في دعمه أو في مناوأة الزعيم القائم بحقوق الزعامة.. ثم تحوّل هذا اليقين الوهمي إلى توجه حاكم فرض على صاحبه الباشا أن يسلك كل سبُل التآمر على هذا الزعيم، ثم اضطراره في النهاية للانشقاق على هذه الزعامة ومُحاربتها بكل وسيلة، وهذا ببساطة شديدة هو جوهر ما حدث بالضبط بين النحاس باشا وأحمد ماهر باشا..
وباختصار تاريخي شديد نبدأ بتحديد مواقع الرجلين من الصراع والمراحل التي مرّ بها هذا الصراع ثم نُناقش وجهات النظر المؤيدة لكل طرف من أطراف الصراع. تشكّلت وزارة سعد زغلول باشا التي سُمّيت بوزارة الشعب في يناير 1924 وفيها أصبح مصطفى النحاس باشا (1879 ـ 1965) وزيراً للمواصلات وقبل نهاية عهد هذه الوزارة بشهر في أكتوبر 1924 لحق أحمد ماهر باشا (1888- 1945) بزميله النحاس وأصبح وزيراً للمعارف. وفي نوفمبر 1924 خرج الوفد من الحكم بسبب حادث مقتل السردار لي ستاك قائد الجيش المصري في السودان، وسرعان ما تناثرت الاتهامات حول مقتله مُحاولة توريط زعامات وفدية في هذا الحادث الذي دُبّر بعيداً تماماً عن الوفد، بل ضد مصلحة الوفد ومع هذا فقد أصبح أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا مُتّهمين تحقيقاً لرغبة البريطانيين السابقة والملحة في الإيقاع بهما في أية فرصة. وكان لمصطفى النحاس باشا المحامي جُهد كبير في الدفاع عن المتهمين الوفديين وأقرانهما مما أنقذ المتهمين وأنقذ الوفد والوفديين في النهاية من الوقوع في دائرة الاتهام وهو إنقاذ تحقّق بصعوبة شديدة.
في 1927 توفي سعد زغلول باشا وهو رئيس لمجلس النواب على حين كان مصطفى النحاس باشا وكيلاً له في مجلس النواب بينما لم يكُن أحمد ماهر باشا عضواً في الوزارة القائمة برياسة عبد الخالق ثروت باشا وكانت قائمة على الائتلاف بين حزب الوفد والأحرار الدستوريين، وكان أحمد ماهريومها يمثل مصر في المؤتمر البرلماني الدولي في ريو دي جانيرو بالبرازيل فقطع رحلته وعاد من فوره ، وكان لابد من اختيار من يخلف سعد زغلول باشا في زعامة الوفد المصري، وكانت المؤشرات تُشير إلى النحاس باشا باعتباره سكرتير الوفد في ذلك الوقت أي الرجل الحزبي الثاني ، ووكيل مجلس النواب ، والوحيد الباقي إلى جوار سعد زغلول باشا من الهيئة العليا الأولى للوفد (والتي كان يُسمى أعضاؤها بلقب مُختصر هو عضو الوفد المصري)، ومع وضوح هذا الأمر ومع أن الأمور مضت في هذا السبيل فإن الروايات اللاحقة بعد انشقاق السعديين كانت حريصة على أن تُضخّم من قيمة أحمد ماهر باشا في 1927 فيذهب بعضها إلى أنه كان الأولى بالخلافة ، ويذهب بعضها الآخر إلى أنه كان صاحب الفضل في حسم الخلافة لمصطفى النحاس باشا في مقابل الاتجاه الذي كان يُؤيّد أن تؤول الزعامة إلى فتح الله بركات باشا عضو الوفد وابن شقيقة سعد زغلول و وزير الزراعة وعضو مجلس النواب. ومع تمتّع مثل هذه الروايات المصطنعة في أغلبها بقدر من الوجاهة الكفيل لها بالقبول إلا أنها لا تُؤسس لأحمد ماهر حقاً في زعامة الوفد ولا في الوصاية على مصطفى النحاس باشا.
راجت أيضاً مقارنات تنتصر لمواهب أو إمكانات أحمد ماهر باشا وأنها تفوق إمكانات ومواهب النحاس باشا ومن الحق أن نقول إن هذه المقارنات تفتقر إلى البراهين الحقيقية وإلى القبول العقلي على نحو ما سنعرض له في استعراضنا للوقائع التاريخية المُتتالية ودون استباق لهذه الوقائع. وربما أبدأ بذكر رأيي القائل بأن شخصية النحاس باشا كزعيم وكرئيس كانت تفوق شخصية أحمد ماهر، على الرغم من أن أحمد ماهر كان يتمتع بقدرات فائقة على الشجاعة، والجسارة، والصراحة، وإبداء الرأي، والتعبير عنه، وخوض المعارك.
ليس كالنحاس
وليس في هذا ظلم لأحمد ماهر باشا الذي لم يكن قد خبر من الحياة ما خبره النحاس باشا كقاض متميز درس الأمور المختلفة على مدى سنوات، وتمكن من الحكم فيها بعد طول نظر، أما أحمد ماهر باشا فرجل أتيح له أن يحصل على الدكتوراه، وأن يعمل مدرسا في كلية التجارة حيث أصبح في شبابه المبكر في موقع سلطوي هو موقع الأستاذية يملي ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويحكم بما يشاء، وهو في موقف أقوى بكثير من تلاميذه أو طلابه الذين كان عليهم أن يسمعوا له، وأن يأخذوا عنه، وأن يجيبوه بما أسمعهم من قبل، على حين كان النحاس حكما لابد أن يسمع لهذا وذاك، وأن يحكم بين هذا وذاك، وأن يتوقع بعد هذا أن حكمه في أي أمر من الأمور سيغضب هذا بقدر ما يرضي ذاك، لهذا كان عنصر الاتزان في شخصية النحاس باشا يفوق الاتزان الذي تمتع به أحمد ماهر بمراحل عديدة. وظني المتواضع أن فهم هذه الحقيقة كفيل بأن يجعل المؤرخين والقراء الذين عجبوا للتاريخ كيف لم يسعف أحمد ماهر بزعامة الوفد على الرغم من أنه في نظرهم كان بفكره وبحديثه يبدو أكثر وفدية من النحاس، وليس على هؤلاء من سبيل في أن يحكموا على الرجلين بمثل هذا الحكم، لكن التاريخ يعلمنا أن الحركة الوطنية أيضا تيار متدفق قبل أن تكون شلالا هادرا، وقد كان النحاس تيارا متدفقا في الوقت الذي كان أحمد ماهر فيه شلالا هادرا، وهكذا بقي النحاس ممثلا للحركة الوطنية على حين خرج أحمد ماهر على الوفد.
والأمثلة على شجاعة أحمد ماهر كثيرة ومتعددة، لكن معايير الشجاعة على المستوى الحزبي تختلف عن معاييرها على مستوى القائد السياسي، وتختلف عن معاييرها على مستوى رجل الدولة الوطني. وقد تمتع أحمد ماهر بكل هذه المعايير. ولعلنا نبدأ بشجاعته وهو رئيس للوزراء، والموقف معروف، وهو أنه أعاد المطالبة بفكرته في ضرورة دخول مصر الحرب العالمية الثانية، وقد كان أحمد ماهر يرى دخول الحرب شرا لابد منه، وكان يرى الشر كل الشر في عدم دخول هذه الحرب.
في 1936 كان أحمد ماهر باشا من أبرز الذين اشتركوا مع النحاس باشا في مفاوضة البريطانيين وفي التوصّل إلى معاهدة 1936 ومع هذا فإنه فيما بعد سنوات قليلة لم يحفظ لنفسه حقوقه في هذا الإنجاز، وبدأ من أجل المناورات السياسية ينتقصُ حتى من جهده هو نفسه (وكان جهدا من النوع المُضني ) في الحصول على ما حصلت عليه مصر في تلك المعاهدة.
في 1937 ظهر على السطح خلاف النقراشي باشا مع الوزارة الوفدية التي كان عُضواً فيها على حين لم يكن أحمد ماهر باشا عضوا فيها لأنه كان رئيساً لمجلس النواب ، وخاض النقراشي باشا ومعه محمود غالب باشا حرباً في مجلس النواب ضد عثمان محرم باشا ومكرم عبيد باشا لم يُحقّقا فيها نجاحاً يُذكر، وانتقل الخلاف إلى الشارع السياسي وإلى الهياكل الوفدية، ومن العجيب أنه لما صدر قرار الوفد بفصل النقراشي باشا من عضويته في 13 سبتمبر 1937 جاهر أحمد ماهر باشا بأنه لا زال يعتبر النقراشي عضواً في الوفد و أنه سيطلع زميله على المفاوضات والمناقشات التي لا ينبغي تنظيمياً لغير عضو الوفد أن يطلع عليها.. ومن الجدير بالذكر والإعجاب أن مصطفى النحاس باشا مدّ في حبال الصبر والتريث وهو يرى أحمد ماهر باشا يفعل كلّ هذه التجاوزات في إطار ما كان قد خُطّط في الظلام من أن يُفجر أحمد ماهر باشا الوفد من داخله، وأن يُنازع النحاس باشا في زعامته أمام الهيئة الوفدية وأن تُصوّت الهيئة الوفدية (أي أعضاء البرلمان من الوفديين) لأحمد ماهر باشا ومن تم يُصبح هو زعيم الوفد ويُكلّفه الملك بالحلول محل النحاس باشا في رياسة الوزارة باعتباره زعيم الأغلبية الجديد!
هدم النحاس
عاش أحمد ماهر باشا وأنصاره المُقرّبون هذا الحُلم بينما كانت هناك مؤامرات موازية للخلاص من وزارة النحاس باشا وحكم الوفد دون أن يؤول هذا الحكم إلى أحمد ماهر باشا ولا إلى الوفديين الآخرين.. لكن أحمد ماهر باشا لم يكن يرى المؤامرات الموازية بما فيه الكفاية وكان يظن أن كل المؤامرات وكل المسارات تمضي لصالحه هو، فقد كان شقيقه على باشا رئيسا للديوان الملكي كما كان كثير من صناع الألعاب يظهرون له ودا مضاعفا في كل خطوة يستهدف بها هدم صورة زعيم الأمة النحاس باشا.
وهكذا فإنه في 23 ديسمبر 1937 وفي جلسة تاريخية انبرى أحمد ماهر باشا على مدى ساعات طوال يخطب و يتجادل مع نفسه كي يهدم في مصطفى النحاس باشا وتاريخه وإنجازه وسياسته وتكتيكاته وعلاقته بالبريطانيين والملك والشعب والقوى السياسية غير مُفرط في إضافة كل العيوب الممكنة إلى النحاس باشا وإسناد كل الفشل إليه، وتجاوز أحمد ماهر باشا في خطابه السياسي في ذلك اليوم كل الحدود الإنسانية والأخوية والحزبية والمنطقية على نحو ما نرى فيمن تتملّكُهم فكرة الانشقاق أو العداء الحزبي، وعلى نحو لا يكاد يُصدقُه من يقرأ محاضر ما حدث في ذلك الاجتماع الشهير فقد كان حديث أحمد ماهر باشا أقلّ بكثير جداً من مُستواه ومن مُستوى الوفد وأقلّ بكثير جداً من أخلاقه وتاريخه وطموحه لكن هذا ما حدث. كانت النتيجة قاهرة لأحمد ماهر باشا حتى إنه لم ينصرف معه من الوفديين إلا أقلية لا تكاد تذكر.
بعد أيام قليلة أقيل النحاس باشا طبقاً للخطّة الموازية من دون أن يحظى أحمد ماهر باشا بأيّ شيء مما ظنه كان يعد من أجله هو، وهكذا تشكّلت وزارة محمد محمود باشا في 30 ديسمبر 1937 (وكانت ثاني وزارة لمحمد محمود بعد وزارته الأولى في 1928) ثم شكّل محمد محمود باشا وزارة ثالثة في أبريل 1938 ولم يدخلها أحمد ماهر باشا فضلاً عن أن يرأسها.. وأخيراً في يونيو 1938 أصبح أحمد ماهر باشا وزيراً للمالية في وزارة محمد محمود باشا الرابعة.
فلمّا شارف عهد محمد محمود باشا على الأفول ظن أحمد ماهر باشا وأنصاره أن فرصته جاءت لخلافة محمد محمود باشا، لكن أداءه في وزارة المالية وما تعرّض له من انتقادات جوهرية دكّت بها الصحافة الوفدية صورة هذا الأداء وقلبته، ما حال بين أحمد ماهر باشا وبين أمله القديم.
وهكذا جاءت وزارة شقيقه علي ماهر باشا (1939 ـ 1940) فلم يُتح له حتى أن يكون عضواً فيها بينما بقي السّعديون في تلك الوزارة. فلما خرج علي ماهر باشا من الحكم لم تكن الفرصة مُهيّأة مرة أخرى لأحمد ماهر باشا على الرغم من أنه كان قد قدّم أقصى ما يُمكنُ من تسويغات تفضيليه على غيره ذلك من خلال موقفه الصريح الجهير الداعي إلى أن تُعلن مصر الحرب على دول المحور تطبيقاً لمعاهدة 1936.
وللدكتور هيكل رواية صريحة عن استبعاد أحمد ماهر باشا من الترشيح لرئاسة الوزارة في 1939 حيث يقول: «ولم يجر ذكر للدكتور أحمد ماهر باشا ورئاسته الوزارة في هذه المناسبة كما ذكر اسمه قبيل إقالة النحاس باشا في الأسابيع الأخيرة من سنة 1937، وسبب ذلك أن صحف الوفد نسبت إليه تصرفات خاصة بالبنك التجاري حققتها النيابة ثم رفعت دعوى القذف على تلك الصحف إلى محكمة الجنايات».
وقد نجح رئيس الوزراء حسن صبري باشا في أن يوقف أي اقتناع بتوجّه أحمد ماهر باشا تماماً، وإلى درجة أنه قال قولته المشهورة: إن مصالح الوطن لا يُمكن أن تُناقش بهذه الخفة!! وهكذا اضطر الوزراء السعديون إلى الاستقالة من وزارة حسن صبري باشا في سبتمبر 1940 قبل أن يتوفى هو نفسه فجأة في نوفمبر 1940 ويخلفه حسين سري باشا مشكلا وزارتين متتاليتين لم يكن من الممكن أن ينال أحمد ماهر باشا رئاسة أيّ منهما بعد هذا الاضطراب في مواقفه السياسية والاستراتيجية.
حراب الانجليز
وحين ظهر الخلاف (بين الملك ووزارة حسين سري باشا) على السطح بكل وضوح، وأصبح من المُحتّم أن تستقيل وزارة حسين سري باشا لتحل محلّها وزارة أخرى قادرة على إقناع البريطانيين بحياد مصري حقيقي، وليس حياداً مُعلناً فحسب، وقادرة أيضا على ألا تكون خنجراً في خاصرة الحلفاء على نحو ما كان البريطانيون وغيرهم يتخوّفون من وزارة مثل وزارة حسين سري باشا غير القادرة على الحفاظ على أيّ وضع. وفي تلك المرحلة ظن أحمد ماهر باشا أو ظنّ أنصاره أو ظنّ هو وأنصاره أنه هو الأولى برئاسة الوزارة التي ستحُلّ محل وزارة حسين باشا بناء على خُطط البريطانيين، واستولت هذه الفكرة على وُجدان أحمد ماهر باشا وأنصار أحمد ماهر باشا ، لكن البريطانيين كعادتهم لم يُفكّروا بهذه الطريقة الغارقة في المحلية والمغرقة في المحلية وإنما فكّروا في العودة إلى الصواب والصواب هو أن تتولّى وزارة من الأغلبية الحُكم، وهكذا جاء عرض الملك فاروق وإلحاحه على النحاس باشا أن يقبل تشكيل وزارة قومية لمواجهة الموقف الذي تمثل في أن القائد الألماني روميل أصبح على الحدود أو داخل الحدود، لكن النحاس باشا بإباء شديد وتصميم لم يعرف التنازل رفض مبدأ الوزارة القومية رفضاً مُطلقاً ، وهكذا كان لا بدّ للحق أن يعود لنصابه ، و كان لا بدّ من أن يُشكل النحاس باشا وزارة وفدية دون حاجة إلى الديكورات التي تُتيح للأقلية أن تظهر على المسرح لا لشيء إلا لتُعطل مسيرة الوفد ، و تنغص أيامه ، ولتحصل لنفسها على مكانة ما في الأدوار، أو المكاسب.
وهكذا واجه أحمد ماهر باشا في 4 فبراير 1942 يوماً عصيباً في القصر الملكي دفعه بركان الغضب والإحباط فيه إلى فقدان اللياقة واللباقة معا وأن يكون هو دون غيره الذي يُخاطب النحاس بمقولته التي صارت أيقونة محفوظة في التعبير عن المُغالطة السياسية حيث قال للنحاس باشا إنه يأتي على حراب الإنجليز! وكان مذهلا أن يصدُر هذا القول عن الرجل الذي كان يُطالبُ بأن تكون حراب مصر في خدمة حراب الإنجليز، لكننا نعرف من تاريخنا المُعاصر أن هذا الموقف بحذافيره تكرّر بعد ذلك في مناسبات أخرى تتشابه في جوهرها وإن اختلفت في ميادينها، وكان الدافع الشخصي يومها وراء الخطأ الفادح في حق الوطنية، لكننا نعرف أيضا أن من حُسن حظ مصر في ذلك اليوم أن النحاس باشا كان أكبر من أن تستخفه مثل هذه الجملة أو أن تستثير أعصابه.
بقي أحمد ماهر يأكُله الشوق إلى تحقيق انتصار حقيقي في ميدان الزعامة بل أن يحقق أي انتصار يحفظ له حقه الذي ذهب منه حسب تصوره هو على يد محمد محمود باشا وحسن صبري باشا وحسين سري باشا بعدما ترك النحاس باشا والوفد ليتولّى هو رياسة الوزارة، مُقتدياً بأخيه علي ماهر باشا الذي لم يكن قد وصل إلى الوزارة إلا بعده ، ومع هذا فقد وصل إلى رياستها في 1936 لكن الظروف كانت تُعاكس أحمد ماهر في كل مرة على نحو ما رأينا في 1937 و1938 و1939 و1940 و1941 و1942 وها هي تُعاكسه مرة أخرى في 1943 حين كان قد مهد الشارع السياسي بمدفعية ثقيلة مكثفة (شاركه فيها هذه المرة عدوّه السابق مكرم عبيد باشا) لتشويه النحاس باشا ومن ثم إخراجه من رئاسة الوزارة أو من الحكم على حد التعبير المُتداول.. وإذا بالوثائق البريطانية فيما بعد تكشف لنا ما لم يكتشفه أحمد ماهر باشا نفسه في ذلك الوقت من أن “الوسيط” وهو أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي كان يُدير المعركة لمصلحته هو نفسه لكي يأتي هو (وليس أحمد ماهر باشا) بدلاً من النحاس باشا.. وقد أوردنا في كتابنا ” كيف أصبحوا وزراء دراسة في صناعة القرار السياسي ” تشكيل الوزارة التي كان أحمد حسنين باشا يستعدّ لإعلانها في ذلك اليوم بعد أن وافق عليها الملك فاروق، ثم فوجئ الجميع بالتعليمات البريطانية الصارمة No change : لا تغيير
وأخيراً جاءت الفرصة لأحمد ماهر باشا في أكتوبر 1944 لكنها جاءت مُلغّمة بمكرم عبيد باشا الذي صمّم أن يكون له 4 مقاعد وزارية في وزارة أحمد ماهر باشا بينما لم يكن مؤيّدوه من طبقة الوزراء والمرشحين للوزارة يبلغون نصف هذا العدد، ثم لا يكمل أحمد ماهر في وزارته إلا أربعة اشهر ونصف ويفقد حياته كلّها لا الوزارة وحدها، وكأنّما كان أحمد ماهر باشا قد تعجب من قصر حياة حسن صبري باشا بعد أن تولى رياسة الوزارة في يونيو 1940 وفقد حياته في 15 نوفمبر 1940، وإذا بما حدث مع حسن صبري باشا حين خانه قلبُه فسقط ميّتا وهو يُلقي البيان يتكرّرُ مع أحمد ماهر باشا حين خانه حدسه فسقط ميّتا بالرصاص في البهو الفرعوني بعد أن أعلن الحرب على دول المحور ليستكمل لمصر مُقوّمات عضوياتها في الهيئة الدولية الجديدة التي هي الأمم المتحدة التي ذاقت منها مصر كثيراً من الويلات تجعل بعض الناس يقولون ليتها ما انضمّت.
نشأته وتعليمه
يعّرف أحمد ماهر باشا بأنه مؤسس حزب الهيئة السعدية عام 1938 وزعيمه الأول حتى وفاته في 1945 وهو فيما تولى من المناصب: رئيس للوزراء ورئيس لمجلس النواب ووزير للمعارف والمالية والداخلية على الترتيب. ومن الطريف أن التاريخ يذكُر ثنائي ماهر والنقراشي بتقديم أحمد ماهر حتى ليتصوّرُ القارئ أو المتابع أن أحمد ماهر كان يكبُر محمود فهمي النقراشي باشا بسنوات بينما الحقيقة انهما كانا من مواليد نفس العام 1888، وأن محمود فهمي النقراشي باشا ولد في 26 أبريل أي قبل أحمد ماهر الذي ولد في 30 مايو.
كان والده محمد ماهر باشا وكيلاً للحربية ثم محافظا لمحافظة القاهرة، أما عمه فهو عبد الرحمن بك فهمي أمين لجنة الوفد المركزية في أثناء ثورة 1919. وشقيقه الأكبر علي باشا 1882- 1960 تولي الوزارة بعده وسبقه إلى تولي رئاسة الوزارة.
تخرج أحمد ماهر باشا في مدرسة الحقوق في العشرين من عمره (1908)، وبدأ حياته محاميا تحت التمرين، وافتتح مكتبا في الفيوم لكنه سرعان ما أغلقه بسبب نواله بعثة تعليمية إلى فرنسا حيث درس في جامعة مونبلييه في فرنسا، ونال منها درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي، وعمل بعد عودته مدرساً في مدرسة التجارة العليا. لما تبلورت الحركة الوطنية في الوفد ظهر اسما أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا في مقدمة الشبان الوفديين ، كانا قد جاوزا الثلاثين بالكاد ، و تداولت الحركة الوطنية اسميهما كمسئولين عن الأعمال الفدائية ، فلما اغتيل قطبا الأحرار الدستوريين حسن باشا عبد الرازق وإسماعيل بك زهدي قبض عليهما 1922 ثم نالا البراءة ، وفيما بعد أعلنت خلايا الحزب الوطني أنها هي من نفذت الاغتيالين ولم تكن تقصد هذين الرجلين اللذين اغتيلا بالذات وإنما كانت تقصد الزعيمين حسين رشدي باشا وعدلي باشا يكن واشتبه الأمر في الظلام على من نفذ الاغتيال .
وشبيه بما حدث لأحمد ماهر قبل وصوله لعضوية البرلمان والوزارة بما حدث له بعد ذلك فقد اتهم في قضية مقتل السردار فقبض عليه في يونيو 1925، وكانت الشبهة قوية بسبب وجود شفيق منصور معه في وقت الحادث، ثم نال البراءة مع زميله النقراشي في 25 مايو 1926، وفيما بعد أعلنت خلايا الحزب الوطني أنها من نفذ الاغتيال وأن الوفديين لم تكن لهم علاقة بل كانت وزارة سعد باشا زغلول هي المستهدفة لإظهار عجزها، وإقالتها وهو ما حدث بالفعل. انتخب أحمد ماهر باشا عضوا في البرلمان الأول 1924 عن دائرة الدرب الأحمر بالقاهرة، وتكرر انتخابه في 1926 وغيرها، وأصبح في 1924 سكرتيرا برلمانيا ثم رئيسا للجنة الموازنة في 1926 وفضلا عن هذا فإن أحمد ماهر انتخب لرئاسة مجلس النواب أكثر من مرة 1936في أثناء حكم الوفد، وفي غير حكم الوفد 1940! ومن بين رؤساء الوزراء في عهد الليبرالية يمتاز زعيمان هما مصطفى النحاس باشا وأحمد ماهر باشا بتوليهما رئاسة البرلمان قبل رئاسة الوزارة وذلك على نحو ما ينفرد سعد زغلول باشا بتولي رئاسة البرلمان بعد توليه رئاسة الوزارة.
كان أحمد ماهر باشا نموذجا فريدا للسياسيين فيما قبل الثورة في علاقته بالمناصب الوزارية، فهو لم يتول إلا وزارتين فقط قبل أن يتولى رئاسة الوزارة، شأنه في هذا شأن سعد زغلول باشا، وحين تولى رئاسة الوزارة مرتين متواليتين لفترة قصيرة فقد احتفظ معها بوزارة الداخلية.
ومن الجدير بالتذكير به أنه لم يعمل وزيراً فيما عدا:
المعارف في الشهر الأخير من وزارة سعد زغلول (أكتوبر 1924 ـ نوفمبر 1924)
المالية في وزارة محمد محمود باشا الرابعة (يونيو 1938 ـ أغسطس 1939)، وهذا هو أطول عهوده بمناصب الوزارة (14 شهراً)
ولكنه عقب الحرب العالمية الثانية رأس وزارتين متتاليتين (8 أكتوبر 1944 ـ 24 فبراير 1945) أجري في الأولى الانتخابات التي مكنته من تشكيل الوزارة التالية ولا تبلغ مدة هاتين الوزارتين أكثر من أربعة أشهر ونصف الشهر، وقد جمع في كليهما وزارة الداخلية مع رئاسة الوزارة.
هكذا فإن أحمد ماهر وصل إلى منصب الوزير قبل أربعة من رؤساء الوزارات الذين سبقوه إلى مقعد رئيس الوزراء وهم: محمد محمود باشا الذي لم يصبح وزيراً إلا في 1926، وشقيقه علي ماهر باشا الذي لم يصبح وزيراً إلا في 1925، وحسن صبري باشا الذي لم يصبح وزيراً إلا في 1933، وحسين سري باشا الذي لم يصبح وزيراً إلا في 1937. وقد تتعاطف الآن مع أحمد ماهر بسبب تخطي هؤلاء له، لكننا نكاد نلمس الوجه الآخر من الحقيقة وهو أن أحمد ماهر بما لم يكن ليصل إلى الوزارة ـ أبداً ـ لو بقي في الوفد ولم ينشق عنه. ومن الجدير بالتكرار هنا أن أحمد ماهر باشا كان مرشحاً لتولي رئاسة الوزارة خلفا النحاس باشا في نهاية 1937، ولكن حسابات وترتيبات القصور في اللحظات الأخيرة آثرت أن يتولاها محمد محمود باشا، وهكذا فقد أحمد ماهر دوره الذي لاح له في الأفق، وبقي ينتظر هذا الدور طيلة زمن انتظمت فيه دورة أخري كان أقطابها الأربعة: محمد محمود، وعلي ماهر، وحسن صبري، وحسين سري، وانتهت هذه الدورة بعودة النحاس ثم جاء أحمد ماهر باشا ليخلفه في 1944 بعد ما كان مرشحاً لخلافته في نهاية 1937.
بداية استقلال مصر
نبدأ في التناول الموضوعي لمواقف أحمد ماهر باشا المفصلية ، ونبدأ بالقول بأنه كان له فضل كبير في إتمام اتفاقية إلغاء الامتيازات الأجنبية 1937 التي تُعتبرُ بمثابة الجزء الثاني (أو النصف الثاني على حد تعبيري ) من معاهدة 1936 وباختصار شديد نقول للقارئ المُغرم بالاختصارات المقربة للحقائق التاريخية: إن ثورة 1919 وصلت في وقتها لتحقيق استقلال مصر في 1922 وهو الاستقلال الذي مكّن مصر من إعلان دستورها 1923 ، وإعلان المملكة المصرية 1923، و تشكيل برلمانها 1924/1923 واستعادة وجود وزارة الخارجية 1922 ومن تم إنشاء التمثيل الديبلوماسي والقنصلي والتحدّث باسم نفسها لا من تحت مظلة الحماية البريطانية التي فُرضت في 1914 بسبب الحرب العالمية الأولى والتي كان البريطانيون يُريدون تكريسها بصورة أو أخرى في ظل إعادة رسم خارطة المنطقة بعد زوال الدولة العثمانية التي كان المصريون يتمتّعون برعايتها وميزاتها الخاصة بالمواطنة والقانون الدولي.. الخ
وعلى حين لم تنجح بلاد أخرى كثيرة في أن تنال ما نالته مصر في 1922 من استقلال وصفه المصريون الطموحون أنفسهم بأنه منقوص فإن هؤلاء المصريين بزعامة سعد زغلول باشا لم يعتبروا هذا الاستقلال بمثابة غاية المراد وإنما اجتهدوا في البناء عليه حتى حصلوا على معاهدة 1936 التي كان من ضمن العوامل التي ساعدت المصريين على الحصول عليها في ذلك الوقت ظهور نذر الحرب العالمية الثانية في الأفق وحرص الدول الكبيرة أو الإمبراطوريات من قبيل بريطانيا على تقليل عوامل الاستقطاب الإقليمية هنا وهناك بما لا يُضيف إليها أعباء حربية أو استراتيجية في مناطق مُلتهبة، كان هذا عاملا من العوامل التي ساعدت على توقيع معاهدة 1936 لكن العامل الأكبر والأهم والأول كان هو كفاح الشعب المصري المتصل في الشارع والدبلوماسية على حد سواء أما العامل الحاسم والسبب المباشر فكان هو ثورة الطلبة في 1935 التي يختفي الحديث عنها عن قصد وتعمّد، مع أن الدكتور محمد ضياء الدين الريس قدم عنها كتابا مرجعياً مُتميّزاً، ولم تكن ثورة 1935 إلا حلقة من حلقات الكفاح الشعبي المصري من أجل الاستقلال، وقد تحقّق لمصر بتوقيع معاهدة 1936 كثير جداً من عناصر السيادة الكاملة والاستقلال الكامل وبقي جزء يسير يتعلّق بإنفاذ بقية ما تم الاتفاق عليه في 1936 أي بإنفاذ سحب كل القوات البريطانية من مصر، وهو ما يُقابل اللفظ اللغوي والسياسي الشائع الذي هو الجلاء وهو الجلاء الذي تحقّق في 1956 بفضل معاهدة 1954 التي تضمّنت تعهّد بريطانيا بإجلاء ما تبقّى من قواتها بعد أن كانت قد أتمّت المرحلة الكُبرى من هذا الجلاء في 1946 في الموعد المُحدد في معاهدة 1936 وهو 10 سنوات من توقيع المعاهدة، ونحن نعرف أن 1946 شهدت الاحتفالات العديدة بإزالة ما كان قد تبقّى من مُعسكرات الجيش البريطاني التي كانت موجودة على أرض القاهرة وكانت أهمّها وأكثرها مدعاة للدلالة على فرض الإرادة وإثبات الوجود هي تلك المساحة الكبيرة من الأرض الشاسعة التي أُقيمت عليها مباني الجامعة العربية وفندق هيلتون في قلب القاهرة في ميدان التحرير.
وإذاً فلم يكُن الإنجاز الذي تحقّق في 1936 و 1937 بسيطاً، وقد كان أحمد ماهر باشا نفسه من أكثر المُقتنعين بهذا الإنجاز بل إنه كان قد وصل إلى حد القول بما يقول به أهل المنطق النظري الصرف إن معاهدة 1936 تتضمّنُ في معانيها أن يحُلّ الوفد نفسه باعتباره حقّق المهمة التي وكلتها الأمة إليه في توكيلات 1918 التي صدرت لسعد زغلول باشا وصحبه وانتقلت إلى النحاس باشا وصحبه ومنهم أحمد ماهر باشا، كان هذا الرأي الذي يبدو جذّابا في صوريته المنطقية أو في منطقيته الصورية بمثابة باب قد يستطيع منه أحمد ماهر أن يُزيح زعامة النحاس باشا أو مكرم باشا وأن يأخذ مكانه على المنصة بدلاً من هذا أو بدلا من ذاك.. هكذا كان عقله الباطن يُعبّرُ بوضوح عن فكرته فلمّا حدث الاختلاف الوزاري بين النقراشي باشا ومحمود غالب باشا من ناحية وعثمان محرم باشا والنقراشي باشا من ناحية أخرى سارع أحمد ماهر باشا إلى الوقوف مع الجانب الذي ليس منه الرئيس لأنه كان يعتبر أن دوره في الزعامة قد جاء، أو أن عليه أن يبحث عن دور، أو على أقل تقدير أن يستجيب لمن يُطالبون بأن يكون هو الزعيم.
تفريط أحمد ماهر
هكذا كان الخطاب السياسي لأحمد ماهر باشا قد بدأ يختلف عن خطاب زملائه الوفديين ، وقد تجلت مظاهر هذا الاختلاف في القول أولاً بما أشرنا إليه من أنه كان قد بدأ يتردد على ألسنة بعض الذين يتوسلون بالمنطق إلى فك عرى المنظمات أو الأحزاب الوطنية ، وذلك بالقول بأن معاهدة 1936 تُمثلُ نهاية لمهمة الوفد، وأن الوفد لا بد أن يحُلّ نفسه ثم هو يختلف معهم في القول ثانياً (وبعد فترة) بأن معاهدة 1936 ليست هي كل شيء ، وليست هي غاية الكفاح ، ثم إذا هو ثالثاً يُسفرُ عن رغبته الكامنة في الخروج عن زعامة النحاس باشا و ذلك بالانضمام إلى رأي أو تمرد النقراشي باشا في أول خلاف .
وفي خضم هذا الصراع النفسي الذي قاده أحمد ماهر باشا مع نفسه فإنه فرّط فيما كان ينبغي له أن يفخر به إلى أقصى مدى وهو دوره البازغ مع الدكتور عبد الحميد باشا بدوي في اتفاقية إلغاء الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة 1937 بكلّ ما كانت تُمثّلُه من احتلال اقتصادي وقضائي مُسيطر لا تقلّ وطأته عن الاحتلال العسكري أو الوجود العسكري ويكفي أن نُذكّر القارئ على سبيل المثال بأن المتقاضي المصري كان يقفُ عاجزاً عن أيّ دور في أيّ قضية يكون فيها أي طرف من الدول صاحبة الامتيازات في مصر ولم تكن دولة ولا اثنتين وإنما كانت قريبة من عدد أصابع اليدين. فرّط أحمد ماهر باشا في الفخر المُستحق بهذا الدور الذي قُدّر له أن يقوم به بتكليف من الوفد والنحاس باشا وآثر أن يضع عينه على الزعامة على النحو الذي صوّرنا.
ثم إن أحمد ماهر اقتنص فرصة أخرى عندما اختلفت الآراء في الموقف الذي ينبغي أن تتخذه مصر في الحرب التي اندلعت نذرها بعد أقل من عامين من انشقاقه على الوفد ، ولم يكن اندفاع أحمد ماهر باشا الحماسي إلى المُطالبة بدخول مصر الحرب العالمية الثانية إلا نوعاً من أنواع الشجاعة الحقة من ناحية، ونوعا من أنواع توريط الوفد والنحاس باشا ومصر من ناحية أخرى، وعلى غير توقّع فقد رُزق أحمد ماهر باشا مُعارضة ساحقة لفكرته التي بدت منطقية ولكن لوهلة قصيرة وقد جاءته هذه المعارضة الساحقة من حيث لم يكُن يتوقّعُ المُعارضة أصلاً فقد جاءته على لسان عبقري مصري كانت معرفته بالمنطق والقانون والفكر والتاريخ تفوق معارف القانونيين المُعاصرين له وهو الشيخ محمد مصطفى المراغي، وقد كان لهذا الشيخ العظيم منصة مُعاصرة لأقرانه ، ولم تتولّد هذه المنصة أو تتكون من منصبه كشيخ للأزهر وإنما من معرفته وثقافته وفكره وبلاغته وحيويته وعلاقاته، وهكذا فإن الشيخ المراغي لم يدخل في مُجادلات أو مُحاورات طويلة من أجل إثبات صحة وصواب الموقف الذي انحاز إليه أو فضّله لمصر في الحرب العالمية الثانية ولم يلجأ إلى تعبير قانوني أو استراتيجي دقيق من قبيل تعبير “تجنيب مصر ويلات الحرب” وإنما لجأ مباشرة إلى المجاز المُعجز مُستعيراً التعبير الدقيق الموحي القادر على فصل الخطاب حيث وصف الحرب بأنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل ومن ثم فإن موقفنا منها لا ينبغي أن يتجاوز موقف من لا ناقة له في الحرب ولا جمل.. هكذا بكلّ بساطة. وبهذا الذكاء حسم الشيخ المراغي المعركة منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا. تحفل صفحات أديباتنا التاريخية بالمناقشات القانونية والسياسية حول فكرة دخول مصر الحرب العالمية الثانية ووقائع الجدل المصري البريطاني فيها من خلال الوثائق والتصريحات والمُباحثات لكنّنا نجد كلّ ما تُبيّنه هذه المُناقشات من جدل العقل وما تبنيه على درجات متفاوتة من هضبات جبال المنطق، والقانون والالتزامات الدولية والتطلّعات المشروعة تنهار حجيتها تماماً أمام قول الشيخ المراغي. ومن العجيب أن الشيخ المراغي توفي في العام الذي توفي فيه أحمد ماهر وهو 1945 وهو العام الذي “توفيت فيه” أيضاً الحرب العالمية الثانية.
مع هذا كله فإنني لا يمكن أن أترك هذا السياق من دون أن أشير إلى ما لا أزال أعتقد في صوابه من أنه بمنطق التاريخ فإن عدم دخول الجيش المصري الحرب العالمية الثانية قد آذاه ذلك القرار في مُستواه منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، ولا أظن أن رأيي هذا يتعارض مع تقديري لرأي الشيخ المراغي ولسياسة مصر التي مضت على النحو الذي نعرفه.
لم يكن قادراً
وعلى الرغم من الموقف الواضح الذي صاغه تعبير الشيخ المراغي فإن مواجهة دعوى أحمد ماهر في ميدان السياسة الحكومية كانت تتطلّب شخصية قادرة على كبح جماحه وجماح وزرائه السعديين، ولم يكن محمد محمود باشا زعيم “الأقلية” الموجود قادراً على هذا الدور لأسباب صحية معروفة ولأسباب الفتور الذي اعترى علاقته بالملك فاروق، كذلك فإن علي ماهر باشا لم يكن قادراً على مواجهة شقيقه أحمد ماهر باشا فقد كانت الدعايات البريطانية نفسها قد صوّرته مُتعاوناً بقلبه وبما هو أكثر من قلبه مع دول المحور، بل صورت بعض وزرائه كذلك ، وكان مكتب الملك فاروق نفسه محل تسريبات بريطانية تُؤكد على مودّته للإيطاليين ولمن هم معهم في المحور ، ولم يكن نظام الملك فاروق نفسه يُريد للنحاس باشا نصراً إضافياً بأن يكون هو صاحب الموقف الواضح من الحرب ، وهكذا خلقت الظروف الفرصة لوجود حسن صبري باشا في منصب رئيس الوزراء فأصبح هو الذي خلف علي ماهر في رياسة الوزراء في يونيو1940 وتصدى بقوة شخصيته وقوة منطقه وهدوء أعصابه لدعاوى السعديين حتى إنه استطاع أن يدفعهم إلى الخروج من وزارته في سبتمبر 1940 قبل أن يتوفى هو نفسه في جلسة افتتاح البرلمان في نوفمبر 1945.
وقد نهج حسن صبري باشا نهج الشيخ المراغي في تطويع البلاغة القادرة على مواجهة الخطابة الهادرة التي كان أحمد ماهر يوظفها باقتدار ومعه السعديون، فإذا بهذا السياسي الصنديد رئيس الوزراء المُقتدر يقول في مواجهة السعديين إن أمور الوطن لا تُساسُ بهذه الخفّة!! وهي جملة جميلة ظلّت تستثير إعجاب إبراهيم عبد الهادي باشا رغم اعتراضه التام عليها، بيد أن حسّهُ اللغوي كان يدفعه إلى استظراف التعبير أو استلطافه.
دوافع أحمد ماهر
وقد سجل الدكتور عبد العظيم رمضان رأيا مهما له وللمدرسة التاريخية التي ينتمي إليها، ويذهب هذا الرأي إلى القول بأن دعوة أحمد ماهر باشا إلي دخول مصر الحرب إلى جانب إنجلترا ضد المحور، لم تكن نابعة من عداء للنازية وإيمان بانتصار إنجلترا في الحرب، كما كان يُروج، وإنما كانت نابعة من رغبة في استدعائه لتولي رئاسة الوزارة! وهو ما أدركه السفير البريطاني لامبسون في حينه!! ويدلل الدكتور عبد العظيم رمضان علي صحة هذا المعني بقوله:
«ففي رسالته إلى حكومته يوم 8 أكتوبر 1940 قال (أي السفير البريطاني) بالحرف الواحد: «من المعتقد بصفة عامة، وهو اعتقاد صحيح، أن حملة أحمد ماهر إنما خططت بغرض تمهيد الطريق إلى تولي رئاسة الوزارة!».
ويردف الدكتور عبد العظيم رمضان حكمه القاسي باستشهاد نراه نحن قاطعا في دلالته على أن أحمد ماهر باشا لم يكن يتمتع بالدرجة العالية من الوعي السياسي التي كان يتمتع بها الزعيمان سعد زغلول باشا ومصطفى النحاس باشا:
«……… ويبدو أن حماس أحمد ماهر لدخول مصر الحرب، الذي ذهب فيه إلى حد غير مسبوق، هو الذي أوحى للسفير البريطاني بهذا الاعتقاد! فقد ذهب الدكتور أحمد ماهر في هذه الدعوة إلى القول بالحرف الواحد: «تصوروا لو أن الإنجليز قالوا لنا في سنة 1936 إنهم سيجلون عن بلادنا! فهل كنا نقبل ذلك؟ إنني شخصيا ما كنت أقبل ذلك، بل أقول لهم: إن سياستكم العقيمة قضت بعدم تسليح بلادنا، فيجب أن تبقوا حتى نتمم تقوية جيشنا!».
«……..لهذا كانت صدمة الدكتور أحمد ماهر عندما رأى الإنجليز، بعد مظاهرات «إلى الأمام يا روميل» يدعون إلي عودة الحكم الدستوري، أي عودة الوفد! بعد أن كان يتصور أنهم سوف يدعونه لتولي رئاسة الوزارة باعتباره المتحمس لدخول مصر الحرب إلى جانب إنجلترا! ومن هنا جاء اتهامه للنحاس بأنه يتولى الحكم علي أسنة رماح الإنجليز، ناسيا أنه كان قبل أشهر قليلة يدعو إلى الاشتراك معهم في الحرب ضد الألمان!».
وباستبطان المسلك السياسي لهذا لزعيم المعتمد على الحماسة نستطيع القول بأن أحمد ماهر باشا كان قبل وفاته المُفاجئة في برلمان 1945 مُهيناً تماماً لهذه الوفاة ذات الطبيعة الدرامية، فقد استنفد كل الفرص السياسية لإثبات الذات، وها هو يصل الآن إلى الاستنزاف بعد الاستنفاد على نحو نادر في تاريخ الشخصيات السياسية المُفعمة بالحيوية من طراز أحمد ماهر باشا.
على أن الحديث عن أحمد ماهر باشا لا يستقيم من دون الإشارة إلى توجهاته الاقتصادية والاجتماعية ومن المذهل أنه لم يكن بلغة عصرنا اشتراكيا ولا اجتماعيا ولا مع الطبقات الكادحة وإنما كان رأسماليا قُحّاً على نحو ما يقول الكتاب الذي يُدرّسه بل درسه من قبل ، وهكذا نجد في النصوص التي أثبتتها كُتُبُ التاريخ من أقواله في مجلس النواب وفي الهيئة الوفدية (وهو يُحارب النحاس باشا) أقوالا لا تتناسبُ مع قُطب من أقطاب حزب الأغلبية المُفترض انحيازه للفقراء، وهنا نراه أقل بكثير وبكثير جداً في مراعاته للبُعد الاجتماعي من الباشوات مصطفى النحاس ومكرم عبيد و أمين عثمان وفؤاد سراج الدين ، بل ربّما أن القارئ لنصوص أحمد ماهر باشا يُصاب بالصدمة من أن تَردَ على لسانه تعبيرات رأسمالية قاسية من قبيل أن حكومة الوفد أفسدت الطبقة العاملة بالاستجابة لمطالبها الفئوية.. الخ.
عاش فقيرا ومات فقيرا
وهكذا يُمكن لنا أن نرى أن هذا الرجل الذي عاش فقيراً ومات فقيرا، ولم يعمل بالتجارة ولا الوساطة، كان يتكلّمُ بلغة قُساة الأغنياء التي تُشبهُ لغة لجنة السياسات في نهاية عهد مبارك وبخاصة لغة يوسف بطرس غالي. ويؤيد ما ذهبنا إليه ما سبق للدكتور عبد العظيم رمضان أن سرده من حديث مستطرد عن خطاب لأحمد ماهر باشا نفسه في اجتماع الهيئة الوفدية يوم 23 ديسمبر 1937 في النادي السعدي:
«ففي هذا الخطاب الخطير، نعى أحمد ماهر باشا على حكومة الوفد إغداق النعم على العمال «حتى أبطرتهم» !، على حد قوله! ، بل جرأتهم علي الإخلال بالنظام والتحكم في رؤسائهم، وتوجيههم للاعتداء علي خصوم الحكومة! وقد اعتبر ماهر نقل حكومة الوفد وكيل المطبعة الأميرية استجابة لرغبة العمال، عملا «شبيها بأعمال البلشفية»!
«كما نعى على حكومة الوفد الاستجابة لمطالب الطوائف، كما حدث بالنسبة للمعلمين والمحامين الشرعيين وغيرهم! واعتبر هذه الاستجابة ضعفا وخضوعا: «إن سياسة الحكومة تصدر في تصرفاتها مع الطوائف عن نظرية خاطئة، فهي لا تحقق لطائفة مطلبا إلا إذا خشيت بأسها، أو أمنت نفعها»!
ومن الجدير بالإشارة هنا أن الأمر لم يقتصر على الفكر، ذلك أن أداء أحمد ماهر باشا الوزاري في وزارة المالية اتسم بإثقاله الطبقة الوسطي بالضرائب، وفرضه ضرائب جديدة في أوقات لم تكن الجماهير قادرة على تحملها في سهولة ويسر، ولكنه مع هذا، أو بسبب هذا، كان قادرا على أن يضبط الميزانية. ومع هذا فإنه في عهد رئاسته القصيرة للوزارة كان أقرب للشعب والمطحونين فقد تم وضع نظام توزيع الأقمشة عن طريق البطاقات. كما تم تنظيم مكاتب التموين، ووضع نظام البطاقات التموينية، وتمت تغطية طلبات استيراد الزيت والقمح، ورفعت إعانة الغلاء.
وبالطبع فقد شهدت وزارته التي جاءت بعد نهاية الحرب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين في الفترة السابقة، كما شكلت لجنة برئاسة مكرم عبيد لتقصي وتحقيق بعض الوقائع التي أثار مكرم باشا نفسه الضجيج حولها في معركته مع الوفد بعد فصله.
وعلى وجه العموم فقد لخص المؤرخون ملامح فكر أحمد ماهر باشا في أنه كان يتمثل في دعوات اجتماعية رائدة إلى العزلة الاجتماعية، وقد برزت هذه الدعوات في كثير من خطبه في البرلمان.
نأتي إلى شجاعة أحمد ماهر وهي شجاعة مشهورة منذ مراحل حياته الأولي ، كما أنها شجاعة نادرة و غير مختلف عليها ، فقد قادته كما نعرف إلي حبل المشنقة، و لايزال تاريخ أحمد ماهر باشا مع الشجاعة يحظى بوجود مكثف في التاريخ المصري المعاصر وفي الوجدان الشعبي ، ولعل السبب في هذا يعود إلي كثير من مواقفه الشجاعة التي وصلت إلي حد التهور في رأي البعض، كما أن نهايته الأليمة فجرت مشاعر الحب تجاهه، وفضلاً عن هذا فقد كان الحزب الذي انشق به أحمد ماهر (1938) عن الوفد المصري هو أقوي الأحزاب بعد الوفد نفسه، ولا يمكن بأي حال مقارنة حزب الكتلة الوفدية به (وهو الانشقاق التالي: 1942)، فضلاً عن الانشقاق السابق عليه في 1930 والمعروف باسم انشقاق السبعة ونصف والذي سمي في ذلك الوقت بالوفد السعدي. ومع عراقة حزب الأحرار الدستوريين فقد نجح أحمد ماهر في أن يحقق عدداً من مقاعد البرلمان يفوق عدد مقاعد الدستوريين في الانتخابات التي أجريت بإشراف الحزبين وائتلافهما.
أما شجاعة أحمد ماهر على مستوى المناقشات الحزبية فكثير جدا. وأما شجاعة أحمد ماهر علي مستوى المنصب الوزاري فقد تمثلت في كثير من المواقف.
عفة اللسان
وقد جمع أحمد ماهر باشا عفة اللسان مع الشجاعة وكان معروفا عنه أنه لا يقبل التجاوزات في حق النحاس باشا ولا في حق سعد زغلول باشا بالطبع، وقد ظل بشهادة إبراهيم فرج باشا قابلا أو مقبلا على حسن التعامل مع الوفد، وذلك إذا ما قورن بمكرم عبيد باشا الذي اندفع في هجومه إلى كل ما كان مقذعا. ومن الإنصاف أن نشير أيضا إلى أن حب أحمد ماهر للنقراشي باشا كان دافعا له للوقوف إلى جوار النقراشي باشا على الدوام حتى لو جلب هذا عليه غضب النحاس باشا منه.
نأتي إلى نقطة ضعف خطيرة كانت تصيب فكره السياسي في مقتل، وهي ضعف إيمانه بالحياة الحزبية وما يرتبط بهذا العيب من عيب آخر هو اضطراب نظرته للملك وسلطته.
وقد استدل الدكتور عبد العظيم رمضان على رأيه في حقيقة موقف أحمد ماهر باشا من الوفد والنحاس باشا بفقرات من خطاب الدكتور أحمد ماهر باشا نفسه ويري الدكتور رمضان أنه ليس في هذه الأسباب شيء من مبادئ سعد زغلول باشا.
كان الدكتور أحمد ماهر كما أشرنا من قبل يري أن توقيع معاهدة 1936 يجب أن يضع حدا للصراع الحزبي بل كان يرى أنه ينبغي أن تندمج الأحزاب كلها في حزب واحد، كان النحاس باشا بذكائه يرفض هذا الرأي، ويرى فيه نفس المضار التي يراها في الوزارة الائتلافية التي ترفضها سياسته بكل شدة.
هكذا كانت الأدبيات الخطابية التي تتبنى رؤية حالمة كرؤية أحمد ماهر باشا تتجاوز فتعبر عن رأيها القائل بأن موقف النحاس باشا يمثل عقبة في سبيل تحقيق الوحدة القومية، وأن الصراع الحزبي ضار بمصلحة البلاد، ولابد من التخلص منه.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن الصحافة الحزبية الواعية كانت أكثر إدراكا لآليات السياسة وقواعد عملها من بعض الساسة، وانظر على سبيل المثال إلى جريدة كوكب الشرق وهي تنتقد بعنف سلوك أحمد ماهر باشا حين احتفظ بعضوية الوفد وظل يشاور النقراشي باشا في شؤون الوفد بعد أن كان الوفد قد فصل النقراشي باشا:
«في أي البلاد يحصل هذا؟ وأي معني كان (إذاً) لفصل النقراشي باشا من الوفد، إذا كان عضو من أعضائه البارزين يشاوره ويشاركه في كل ما سيعرض على الوفد من الأمور (المهمة)، والمسائل الخطيرة؟»،
«لقد كان الأحسن والأشرف للدكتور ماهر إذا كان قد رأى أن أغلبية الوفد الساحقة قد قررت ما قررت، وهو غير راض ولا مقتنع ولا محترم لرأي الأغلبية، أن يعلن في نفس الجلسة أنه لا يمكن له أن يبقى عضوا في الوفد إذا كان النقراشي ليس معه».
وقد علق الدكتور عبد العظيم رمضان على رأي كوكب الشرق بقوله:
«ولقد أصابت «كوكب الشرق» في عبارتها الأخيرة إلى أبعد الحدود، ولكن الدكتور أحمد ماهر كانت له أسبابه القوية التي تدفعه إلى الحرص على عضوية الوفد، لأن المخطط الذي كان مدبرا في ذلك الحين، كما سوف نرى، كان يقوم على الاستيلاء على الوفد من الداخل، وليس على هدم الوفد، كما في المحاولات السابقة، وكان الدكتور أحمد ماهر هو المرشح للقيام بعملية الاستيلاء على هذا المخطط».
على أن الأخطر من هذا في خطاب أحمد ماهر باشا السياسي ما صدر عنه من توجه صريح وهو يتأهب للانشقاق على النحاس باشا وهو ما أشرنا إليه إجمالا بأنه سمح لنفسه أن يعطي دورا للملك كانت زعامتا الوفد لا تقبل به على الإطلاق، وقد جاء هذا في خطبته الشهيرة في اجتماع الهيئة الوفدية يوم 23 ديسمبر 1937 في النادي السعدي، وهي الخطبة التي عرض فيها أسباب الخلاف بينه وبين النحاس باشا،
” ……ثم رد الدكتور أحمد ماهر على ما يعلنه الوفديون من عدم خشيتهم من لجوء الملك إلي حل البرلمان، والحكم من غير دستور، فثبط من عزيمتهم قائلا: إنه يخشى ألا تصادف دعوة الجهاد في هذا السبيل من النجاح ما كانت تصادفه في الماضي (قبل المعاهدة)، وذلك ـ حسب قوله ـ لأسباب كثيرة أهمها أن كبر حافز كان يحفز الأمة لتلبية داعي الجهاد، أن الدعوة كانت منصبة على حمل الإنجليز على الاعتراف باستقلالنا، وتحديد علاقتنا معهم على هذا الأساس، وقد تحقق هذا الغرض الآن، فليس من سبيل لاستخدامه من جديد!”.
“ثانيا: كنا نقول إن هناك اعتداء على الدستور، لكن جلالة الملك يقول اليوم إنه قد جرب التعاون مع الأكثرية، فلم تفلح التجربة!”.
الاشتراك في المناورات الصغيرة
بعد هذا فليس من الإنصاف أن نتحدث عن شجاعة أحمد ماهر دون أن نتحدث عن المناورات الصغيرة التي اشترك فيها، ولعل أولى هذه المناورات قبوله أن تعطل حكومة محمد محمود باشا (1938) مجلس النواب ذي الأغلبية الوفدية الذي كان برياسته هو (أي برياسة أحمد ماهر) تمهيدا لحل هذا المجلس وانتخاب مجلس آخر بانتخابات مزورة تستبعد الأغلبية. ولا يمكن لنا أن نصف هذا الموقف بأقل من وصف الخطيئة الكبيرة التي تفسد على صاحبها تاريخه كله.
أما مطالبة أحمد ماهر باشا برفع الأحكام العرفية لدخول انتخابات 1942، فكانت مناورة أخرى كان الغرض منها أن يعلل بها هو وحزبه ما كان يتوقعه من هزيمة ثقيلة في الانتخابات، كما هي العادة بالنسبة لأحزاب الأقلية التي تدخل الانتخابات في مواجهة شعبية الوفد الطاغية.
ومن المناورات التي لجأ إليها أحمد ماهر أنه قبل تشكيل وزارته الأولي في 1944 من خصوم سياسيين لا يجمعهم إلا خصومتهم للوفد، وقد قبل بأن يتحمل في سبيل هذا تعسف وتعنت شخصيات من طراز مكرم عبيد لكنه عانى من هذا العنت ما لم يكن في حسبانه.
بقيت نُقطة مهمة وهي الحديث عن علاقة أحمد ماهر باشا بالمُثقفين ونحن نعرف أنه عمل مُدرّساً للاقتصاد في مدرسة التجارة العليا وزامل فيها عدداً من رجال التعليم لكنه على سبيل الإجمال لم يصل في علاقته بهؤلاء المُثقفين إلى ما وصل إليه صديقه النقراشي باشا، ومع هذا فإن قصيدة العقاد في رثائه حافلة بالحديث عن مشاعرهما القوية تجاه بعضهما بعضا وأكرر هنا التعبير عن تقديري أن انشقاق الأستاذ العقاد في 1934 و1935 هو الذي شجّع نوايا أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا على الانشقاق في 1937 و1938.
أما الصورة الجميلة التي يحتفظ بها التاريخ المعاصر لأحمد ماهر باشا فالفضل الأول والأخير فيها للأستاذ مصطفى أمين ولولا الأستاذ مصطفى أمين لبقيت صورة أحمد ماهر فيما لا يتعدّى صورة زميله على الشمسي باشا على سبيل المثال، أو لبقيت هذه الصورة فيما لا يتعدّى صورة أي سياسي من طبقة السياسيين الحزبيين الذين لم يخرجوا عن صورة الحزبية حتى وإن انتقلوا من حزب إلى حزب.
والحق أن من أكثر ما ساعد الأستاذ مصطفى أمين على رسم صورة رائعة لأحمد ماهر هو تتابع وتدافع الأخطاء المُتراكمة التي كان مكرم عبيد باشا حريصاً على اقترافها واقتنائها خطأ وراء خطأ ويوماً بعد يوم. وقد كان من حسن حظ الحزب السعدي بقيادة أحمد ماهر أن أخبار اليوم بكلّ مجدها صدرت في الشهر التالي لتولّيه الوزارة (صدرت في تاريخ 1944وشكّل أحمد ماهر وزارته التي ضمت مكرم عبيد باشا في أكتوبر 1944) فكانت سنداً قوياً وذكياً لهذا الحزب الذي بقي في السلطة مؤتلفاً مع الأحرار والدستوريين لمدة خمس سنوات كاملة وشهر من أكتوبر 1944 وحتى نوفمبر 1949.
وعلى النقيض من التصوير الجميل الذي قدمه مصطفى أمين فإننا نعرف أن أستاذنا توفيق الحكيم في كتابه «شجرة الحكم» رسم حواراً مسرحياً جميلاً بين اثنين من زعماء الليبرالية السياسية في مصر قبل الثورة، وصور كل منهما بالصفة البارزة التي اشتهرت عنه، فصور أحمد ماهر بصفة الرجل الذي يهوى المراهنات، وصور محمد محمود خليل بك رئيس مجلس الشيوخ بصفة الرجل الذي يقتني اللوحات.
ولا يمكن إنكار فضل سعد زغلول في وضع لمسات كبرى علي تكوين أحمد ماهر السياسي والفكري، وقد تجلى هذا في البرلمان بأكثر مما تجلي منه في العمل التنفيذي، وإذا كان هناك واحد من تلامذة سعد زغلول تجرأ على الاعتراض علي سعد من داخل الوفد، فإنه أحمد ماهر، وإذا كان هناك واحد من مريدي سعد وقف ليعارض في حب وحظي رغم المعارضة بثناء سعد زغلول فإنه هو أحمد ماهر باشا.
بقيت جزئية مؤسسية مهمة في هذا الميدان وهي أن أحمد ماهر باشا كان يتولى الإشراف الإداري أو السياسي على صحف الوفد فكان مديرا لصحيفة البلاغ كما كان هو المسئول عن كوكب الشرق في 1934.
أما علاقة أحمد ماهر بشقيقه علي ماهر فلم تكن من قوة التأثير إلى الحد الذي يجعل علي باشا يحرك شقيقه إلى ما كل ما تحرك إليه. ذلك أن أحمد ماهر كان في اعتداده بنفسه ورأيه وإنجازه ومكانته السياسية، أكبر من أن يتخيل نفسه في صنيعة لشقيقه الأكبر حتى لو كان هذا الدور يأتي به إلى رئاسة الوزارة. ولهذا فإني لست من أنصار القول الذي قال به كثيرون ، وتبناه الدكتور رفعت السعيد أيضا من أن علي ماهر باشا جنى علي شقيقه أحمد ماهر حين دفعه دفعا إلي الانشقاق على النحاس باشا ، أو حين لوح له هو و رجال الحاشية الملكية برياسة الوزارة بديلا عن النحاس باشا ، فقد كان النحاس باشا في تلك الفترة لايزال في قمة عطائه وقدرته علي العمل والزعامة، وهو ما لا يعطي أي مبرر للتضحية بزعامته للوفد، بينما الحقيقة متجلية بوضوح في ضجر أحمد ماهر من مكرم عبيد ونفوذه المستمر والدائب علي مصطفي النحاس كان هو السبب الأساسي لخروج أحمد ماهر من الوفد، أو علي الوفد بعد هذا، وبوسعي أن أستشهد بأدلة كثيرة على صواب رأيي هذا، من قبيل ملاحظة أن هجوم أحمد ماهر على الوفد بعد خروجه لم يكن علي النحاس، وإنما كان على مكرم عبيد إلى حد تسميته للوزارة الوفدية القائمة بوزارة مكرم عبيد!!
وربما كان التاريخ كفيلا لنا ببعض التصوير لمكانة الرجلين في نفسيهما، فقد وصل أحمد ماهر إلي منصب الوزارة قبل أن يصل شقيقه الأكبر إلى هذا المنصب بشهور كما ذكرنا، بل إن الأكثر مدعاة للفهم أن نذكر أن أحمد ماهر وصل إلى الوزارة في عهد سعد زغلول في وزارته، على حين أن الشقيق الأكبر لم يصل إلى الوزارة إلا في وزارة أقلية لا تحظي بأي قدر من الاحترام والمهابة، وهي وزارة زيور باشا. كذلك فقد وصل أحمد ماهر إلي رياسة البرلمان التي لم يصل إليها شقيقه الأكبر، فضلا عن هذا وذاك فقد كانت مكانة أحمد ماهر في نفوس الشعب والسياسيين أكبر بكثير من مكانة شقيقه حتى لو كان شقيقه قد أصبح رئيسا للديوان حائزا للقب صاحب المقام الرفيع.
أعظم ما فيه
على أن أعظم ما ينبغي لأحمد ماهر باشا أن يفخر به في تاريخه هو موقف زميله سابا حبشي باشا الوزير السعدي موقفه من زميله هذا الذي تولّى فصل الخطاب في قضية المعونة الحكومية التي كان أحمد ماهر راغباً وهو وزير للمالية في منْحَها لشركة الملاحة الخديوية فاعترض الوزراء الآخرون وقالوا إن الشركة التي كان عبود باشا يملكها أجنبية تماماً وإن حملت إطاراً مصرياً وانتقل الأمر لتحكيم الوزير سابا باشا حبشي الذي حكم بالعدل ضد أحمد ماهر، فما كان من أحمد ماهر إلا أن أذعن بشرف ورضا وقبول لحكم زميله الوزير السعدي الذي جاء مُخالفاً لرأيه، وهي قصة تُشرّف الرجلين والعهد الذي عاشا فيه.
وهذ هو ملخص به بعض أساتذتنا رواية الدكتور هيكل باشا عن هذه الواقعة:
” يقول الدكتور هيكل إن الدكتور أحمد ماهر حين كان وزيرا للمالية (من يونية 1938 إلى أغسطس 1939)، عرض منح شركة البواخر الخديوية إعانة من مال الدولة تتجاوز مائة ألف جنيه (أي بعملة عام 1938)! فاعترض بعض الوزراء بأن هذه الشركة ليست مصرية، وإنما هي شركة إنجليزية فعلا، وإن كانت مصرية قانونا، وكانت تتستر وراء اسم أحمد عبود باشا! وقد دفع أحمد ماهر باشا هذا الاعتراض بأن الشركة تمصرت بالفعل، كما أنها مصرية بالقانون! وللوقوف على الحقيقة في هذا الأمر عهد مجلس الوزراء إلي سابا حبشي بك وزير التجارة والصناعة، أن يبحث الموضوع وأن يطلع على ملفات الشركة وأن يعرض على المجلس نتيجة بحثه، وقام سابا بك بهذا البحث وانتهي من عرضه إلى أنه اقتنع بأن الشركة ليست مصرية وبالفعل، وإن اتسمت بظاهر من المصرية، وأنها لذلك لا تستحق أن تعاونها المالية المصرية».
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنه على الرغم مما تحفل به كثير من الكتابات التاريخية في تصوير أن خروج ماهر والنقراشي على الوفد كان بسبب اعتراضهما على تصرفات الحكومة فيما يتعلق بمشروع توليد الكهرباء من خزان أسوان، فإن للدكتور عبد العظيم رمضان فقرات دقيقة تتضمن رؤية واضحة من هذه المسألة ينصف بها الوفد وقياداته:
«ثبت أن الأدوار الأولي لمشروع توليد الكهرباء من خزان أسوان لم تتم في عهد حكومة (يقصد: وزارة) الوفد، وإنما تمت في عهد الحكومة (يقصد: الوزارة) التي سبقتها وهي حكومة نسيم باشا، وقد شكلت هذه لجنة فنية توصلت إلى اتفاق مع الشركة الكهربائية البريطانية، شمل جميع الشروط الفنية والمالية، أي أن الأمر كان في حكم الانتهاء!».
«وقد كان هذا الاتفاق هو الذي وجدته حكومة الوفد عند وصولها إلى الحكم، فلم تقف عند هذا الحد، وإنما دخلت في مفاوضات جديدة مع الشركة حصلت بمقتضاها على مكاسب مهمة بالنسبة للمشروع، منها طرح ثلاثة أرباعه في مناقصة، أما الربع الباقي الذي رأت الشركة تعذر المناقصة فيه، فيعرض على خبير عالمي للاستشارة لبحث ما إذا كانت تكاليفه مقدرة علي أساس معقول، ثم يعرض المشروع بأكمله على خبير عالمي آخر لبحثه من ناحية سلامة الخزان، ولم تقتصر الوزارة الوفدية على المشروع، بل توسعت في بحث إنشاء مصانع للحديد والمفرقعات، وتنازلت الشركة عن 167 ألف جنيه فرق الأسعار، وأكثر من ذلك أن حكومة الوفد اشترطت عرض المشروع على البرلمان للموافقة عليه، وعندما تذرع محمود غالب باشا بضرورة عرض المشروع على خبيرين بدلا من خبير واحد، اقترح مكرم عبيد عرضه علي ثلاثة خبراء لإزالة اعتراضه!».
«وتم الاتفاق على إعداد صيغة كتاب إلى الشركة بهذا المعني، اشترك في وضعه محمود غالب باشا نفسه، وأحمد ماهر، ومكرم عبيد، وتم ذلك فعلا وبه أصبح القرار جماعيا».

أعدم محمود العيسوي قاتل أحمد ماهر في 18 سبتمبر  1945

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com