لا أزال أؤمن إيمانا عميقا بأن جوهر التقدم الاجتماعي والعلمي والسياسي في المجتمعات الإسلامية لا يتحقق إلا عن طريق السيدة المتعلمة؛ ولا تنطلق شرارته إلا بها؛ ومن الأمثلة التي كثيرا ما ذكرتها أن الإمام العظيم ابن تيمية نفسه ينسب إلى جدته العظيمة التي كانت نموذجا للعلم المتفاعل مع المجتمع. وفي التاريخ البيولوجي للثورات فإن بذور نجاح الثورة تكون قد ألقيت قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن وإلا فان الثورة سرعان ما تخوض الكر والفر مع الثورات المضادة ؛ علي نحو ما رأينا و نري ، و من حسن حظ ثورة ١٩١٩ أن جوهر مقدماتها الفكرية كانت قد صيغت بإتقان وعصرنة وروحانية علي يد سيدة عظيمة أتيحت لها الإقامة في أربع عواصم ناهضة في القاهرة وإسطنبول وباريس وتونس بل إن زوجها الثاني الذي كان يصغرها في السن وصل إلي رئاسة وزراء تونس أما في القاهرة فقد كانت هي وليس غيرها بمثابة الأب الروحي ولا نقول الأم الروحية فحسب لثورة ١٩١٩ وجذورها بدءا من الأستاذ جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام محمد عبده وانتهاء بالزعيم سعد زغلول باشا و أقرانه
در للأميرة نازلي فاضل أن تلعب في نهاية عصر الدولة العثمانية ومحيط هذه الدولة دورا حضاريا ونهضويا ينتمي إلى مجموعة أدوار الاتصالات العصبية التي تنسقها وتنظمها طبيعة التقدم العقلي البشري من خلال ما يناظر دور الضفيرة العضدية التي زود الله بها بنيتنا البشرية ، وهو دور جوهري في بناء روح النهضة التي عبرت عنها ثورة 1919 التي كانت في حقيقة أمرها تجديدا للدولة الإسلامية بعدما تآمرت القوى الغربية على دولة الخلافة العثمانية في إسطنبول ، ومع أن أحدا لا ينتبه إلى حدود الرابطة العضوية بين الدولة العثمانية ومجموعة الدول الإسلامية المتعاصرة والناهضة التي نشأت نتيجة ثورة 1919 والثورات المشابهة لها فإن حقائق الأرض واللسان تتفوق على كل دعاوى التفلسف المستندة إلى لأيدولوجيات المحدودة التأثير مهما طال الاعتقاد فيها من أهل الحق والباطل على حد سواء ، ومهما كان هذا الاعتقاد عن حسن نية أو سوء نية .
ومع أن الأميرة نازلي فاضل ماتت قبل ثورة 1919 بستة أعوام فإن أثرها في نجاح الثورة باق حتى وإن ينتبه إليه المؤرخون بالقدر الكافي على الرغم من تشابك هذا الدور الذي أدته هذه السيدة الأميرة مع سلطة الخلافة العثمانية ورجالها ومع أطراف السلطة الدنيوية والمستعمرين المتنافسين والحركة الوطنية التي لم تكن قد عرفت طريقا محددا للخلاص. وعلى مدي تاريخ أسرة محمد علي باشا وأولاده فإنها لاتزال بمثابة أشهر أميرات الأسرة العلوية فيما عرف عنها من علاقات اجتماعية، ومشاركة سياسية.
ومن الطبيعي أن تجد الكتابات التي تعرضت لدور هذه السيدة منشغلة بالحديث عن آرائها في قضايا المرأة والحجاب والاختلاط وما إلى ذلك بينما أن هذه القضايا كلها لا تمثل ما يزيد على واحد في الألف من الدور الذي قدر الله لها أن تؤديه في عصر الانتقال بالحياة السياسية الإسلامية من عصر الانعزال المفروض إلى عصر المشاركة الفاعلة مهما كان الفعل مشوبا بالفشل أو الاضطراب ، ومن الطبيعي أن تجد التصنيف الغربي لجهدها وهو يحصر توصيف و وصف هذا لدور ليستقر ويقبع في محيط الآراء الاجتماعية المتعلقة بالمرأة فحسب ، وذلك ليشغل الأذهان عن هذا النجاح السياسي الساحق الذي حققته سيدة مسلمة بما لم تستطع أن توازيه فيه أية قيادة مناظرة لها في عصر الملكة فيكتوريا ومعاصريها من الساسة الغربيين .والدها المثقف الأول
الأميرة نازلي فاضل (1853 ـ 1913) هي كبري بنات الأمير مصطفي فاضل ابن القائد العظيم إبراهيم باشا وهو الأخ غير الشقيق للخديو إسماعيل، وهو أيضا الأمير الذي ينسب إليه المسجد المشهور باسمه في القاهرة والقائم في شارع بورسعيد (الخليج المصري سابقا ) ما بين ميداني باب الخلق والسيدة زينب ، وهو ذاته المسجد الذي كان القارئ الأشهر الشيخ محمد رفعت يتولى قراءة القرآن الكريم فيه، وقد كان لها خمس أخوات، وعشرة أخوة ذكور، منهم ثلاثة توفوا أطفالا، وهي الابنة الوحيدة لأمها دل آزاد هانم إحدى زوجات الأمير مصطفي فاضل ، وأشهر أخوتها هو الأمير حيدر فاضل الذي عاش في باريس وكان معدوداً من أدباء اللغة الفرنسية.
ولدت الأميرة نازلي فاضل في مصر حيث كان والدها الأمير مصطفي فاضل بمثابة المثقف الأول بين الطبقة الحاكمة في مصر، لا بمكتبته الفريدة الضخمة فقط، بل بعقله الكبير، ومعلوماته الغزيرة، وكان حين مولدها ولياً للعهد، وفي عام 1866 تغير نظام الوراثة في مصر لينتقل الحكم من أكبر أبناء أسرة محمد علي إلي أكبر أبناء الخديو إسماعيل، وبالتالي انتقلت ولاية العهد من الأمير مصطفي فاضل إلي الأمير (الخديو) محمد توفيق (الذي تولي الخديوية بعد عزل والده)، وهكذا فقد والدها مصطفي فاضل الأمل في عرش مصر وأصبح أميرا من الأمراء المتعددين، فآثر الانتقال إلي الآستانة حيث عمل في خدمة الدولة العثمانية، وتقلب بين عدد من الوزارات و الصدر الأعظم، وهو المنصب الأعلى في هذه الدولة، وقد انتقلت نازلي مع والدها الأمير مصطفي فاضل إلي الآستانة، وهكذا أتيح لها أن تتربي علي طريقة السيدات التركيات، اللائي كن في ذلك العصر أكثر رقيا وحرية من السيدات في مصر، وقد تلقت تعليما غربيا في البيت، وفي معاهد تعليم اللغات الأجنبية في إسطنبول، وأتقنت اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية مع العربية والتركية.
وقد تم الزواج الأول للأميرة نازلي (سنة 1873) من خليل باشا شريف الذي أصبح وزيرا لخارجية الدولية العثمانية العلية، وكان في ذلك الوقت قد عين سفيراً للدولة العثمانية في باريس، فسافر إليها مع زوجته الأميرة نازلي لتبدأ مرحلة مهمة في حياتها، (يذكر محمد فريد باشا أن أخا زوجها علي باشا شريف هو الذي كان سفيراً الدولة العلية بباريس)، وتنقلت الأميرة نازلي مع زوجها كسفير للدولة العثمانية بين العواصم الأوروبية، لكنها عرفت بإقامتها في باريس بالذات، حيث كانت فترة 7إقامتها فيها أطول من غيرها، وحيث نقلت منها فكرة الصالون (أو النادي) إلي قصرها في مصر فيما بعد، وحيث تعرفت وأعجبت بدعاة الحرية والإصلاح من مؤسسي جمعية «العروة الوثقي» الذين كانوا قد آثروا الإقامة في باريس كالأستاذ جمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام محمد عبده.
كان والدها الأمير مصطفي فاضل بعد عدة سنوات في خدمة الدولة العثمانية قد آثر ترك المناصب بعد ما اختلف مع السلطان عبد العزيز وحاشيته، واستقر الأمير مصطفي فاضل في باريس حيث كتب فيها للسلطان عبد العزيز نفسه رسالته الشهيرة المطولة التي ضمنها دعوته للإصلاح ومناداته بالحرية، وبهذه الرسالة انضم الوالد إلي حركة تركيا الفتاة وعرف بأبي الأحرار، ولهذا السبب كتب عنه الشاعر ولي الدين يكن في كتابه الجميل «المعلوم والمجهول» وهو نفسه الكتاب الذي زينه بصورته كما أهدي الكتاب إليه، وكان عنوان رسالته: «من أمير إلي سلطان»، وقد ظلت الأميرة نازلي فاضل على مدي حياتها فخورة بهذه الرسالة ، وقد أشرفت الأميرة نازلي فاضل علي ترجمتها وتوزيعها، ويبدو أن هذا قد شجعها فيما بعد علي أن ترسل هي الأخرى رسالة مشابهة إلي السلطان عبد الحميد الثاني في 22 أكتوبر 1896، وقد روي المؤرخ قليني فهمي باشا في كتابه «أعمال الملوك» أن أحمد فتحي زغلول باشا هو الذي قام بترجمة الرسالة بطلب منها، وكان ذلك في عهد السلطان عبد الحميد، كما كانت الترجمة والطبع في عهد السلطان عبد الحميد أيضا .وقد نشر ولي الدين يكن رسالتها نقلاً عن جريدة «خدام» التي كان يصدرها شقيقه يوسف حمدي يكن.
وبعد وفاة والدها الأمير مصطفى فاضل عادت الأميرة نازلي فاضل للإقامة في مصر، وإن ظلت كثيرة التردد على تركيا وأوروبا.
كانت علاقة الأميرة نازلي فاضل بالسلطان عبد الحميد نموذجا لسعة صدر هذا السلطان العظيم وقدرته على تمكين أصحاب الرأي من نشر آرائهم المعارضة، ونحن نفهم من نصوص بعض المصادر أن اختلافها الموروث مع السلطان عبد الحميد الثاني قد تحول في فترة من الفترات إلى وفاق، وأن هذا حدث بعد لقاء تم بينهما، بناء على دعوته، وكانت متوجسة للشر فاتخذت احتياطاتها، لكن السلطان استطاع استمالتها، ويبدو كذلك أنها قامت في فترة ما بأدوار مهمة بين السلطان عبد الحميد وبين بعض الوطنيين الأحرار. ومع هذا فإن الشائع في أدبياتنا (لأسباب معروفة) أن خلاف الأمير مصطفي فاضل وابنته الأميرة نازلي فاضل مع الخلافة العثمانية تواصل باطراد من عهد السلطان عبد العزيز إلي عهد السلطان عبد الحميد الثاني.
كذلك فإن من الشائع أن الأميرة نازلي ظلت ضد العائلة المالكة في مصر، وبخاصة عمها الخديو إسماعيل وابن عمها الخديوي توفيق وفي الواقع فإن هذا غير صحيح فقد كان الخديو إسماعيل هو الذي أمر بتجهيز قصر الحصوة (قصر الزعفران فيما بعد) لأسرة أخيه وغريمه الأمير مصطفى فاضل كما أن الخديو توفيق كان هو الذي استجاب لشفاعتها في شأن الشيخ محمد عبده وأقرانه..
ومع هذا وفي ظل ما كان متاحا من مساحات للحرية في الدولة العثمانية وفي مصر فقد اشتركت الأميرة نازلي في كثير من الأحيان في تشجيع بعض الحركات المعارضة للحكم العثماني، كما اشتركت في بعض المؤتمرات المنادية بالإصلاح والدستور، وناصرت حركة «العروة الوثقي» بباريس. كما عرف واشتهر عنها حرصها علي دعم الزعيم أحمد عرابي ومساندتها له وهو الدعم المادي والتمويلي الذي استمر للنهاية في معركة التل الكبير.
أصبحت الأميرة نازلي مع الأيام قوية الانجذاب إلى الحياة السياسية، وفي عهد الخديو عباس حلمي الثاني الذي هو حفيد عمها ظلت مكانة الأميرة نازلي فاضل محفوظة، بل ربما ازدادت نفوذاً وتأثيراً بحكم صالونها الذي ترسخ وجوده، وبحكم صلتها القوية بالإنجليز الذين كانوا من رواد صالونها، وكان قادتهم بمثابة أصدقاء شخصيين لها يأخذون برأيها في الأحوال السياسية.
وفي هذه الفترة توثقت علاقة الأميرة نازلي بجمال الدين الأفغاني لدرجة أنه قال عنها: “إنها تمثال الكمال والجمال، حضرة البرنسيس التي لها من قلبي المنزل الأبهي، والمقام الأسنى”.
أما الإمام الشيخ محمد عبده فقد توثقت علاقته بها بعد عودته من المنفي (1888)، خاصة بعد أن علم بمساعيها في إصدار العفو عنه لدي الخديوي توفيق، واللورد كرومر، وقد دعته إلي حضور صالونها فتردد علي الصالون، وكثر تردده، وتوثقت العلاقة بينهما، ويرجح الدكتور عثمان أمين وهو أحد كبار أساتذة الفلسفة وأحد الذين أرخوا لحياة الأستاذ الإمام محمد عبده، أن الأميرة هي التي حثته علي تعلم الفرنسية ودراسة الأدب الفرنسي دراسة متعمقة، وفي بحث عن المرأة في حياة الشيخ محمد عبده يروي الإمام الأكبر الشيخ مصطفي عبد الرازق أن الأميرة كانت تكن للإمام محمد عبده كل الحب والإجلال.
وفي إطار الروايات المتعددة والثرية التي شغلت بحياة الأميرة عن دورها السياسي فإن الأستاذ أبو القاسم كرو مؤرخ حياة الأميرة نازلي فاضل يعتقد أن الشيخ محمد عبده كان يحمل لنازلي ما هو أكثر من الإعجاب، وأنه كان محباً لها، وربما أكثر من ذلك، وهو يعتقد أن رحلته الثانية إلي تونس (1903) كانت من أجلها وأنه كان ضيفا عليها (!!) لكنه يشير في كتابه عن الأميرة إلي أن زيارة الشيخ محمد عبده دامت 13 يوما فقط، مصححاً ما كان هو نفسه قد أخطأ فيه حين كان أشار (في مقالات سابقة علي نشره لكتابه) أن الزيارة استمرت 3 شهور.
وقد قدم الشيخ محمد عبده للأميرة نازلي فاضل اثنين من تلاميذه، وهما سعد زغلول وقاسم أمين، فكان لها أثر عميق في حياة كل منهما.
أما سعد زغلول باشا، فقد توثقت صلته بالأميرة نازلي، وازدادت وثوقا مع الأيام، وقد وكلته عنها كمحام، (ومن الطريف أن محمد فريد كان هو الآخر محامياً لها) ثم أقنعته بضرورة تعلم اللغة الفرنسية، وقد أدركت نازلي جوانب القوة في شخصية سعد، وحرصت علي أن تدفعه إلي الأمام، فرشحته زوجا لصفية هانم ابنة مصطفي باشا فهمي رئيس الوزراء، ومن الجدير بالذكر هنا أن الأستاذ مصطفى أمين كان يعتقد أن الأميرة نازلي فاضل كانت تريد سعداً لنفسها لا لصفية زغلول، ويري كثيرون أن الأميرة نازلي هي التي أشارت علي الإنجليز بضرورة الإفادة من سعد زغلول باشا في وظائف القضاء والحكومة، ويشير الزعيم محمد فريد في مذكراته إلي أنها كانت وراء إقناع اللورد كرومر بتعيين سعد باشا (وكان لا يزال محامياً) مستشاراً بمحكمة الاستئناف.
ويتضح لمن يتدارس مذكرات سعد زغلول باشا أن صداقته بالأميرة قد استمرت حتى وفاتها، ويلتفت بعض المؤرخين إلى حقيقة مهمة وهي أن سعد زغلول باشا قد انقطع عن كتابة مذكراته التي كان يدونها بانتظام لسنوات طويلة مدة ستة أشهر كاملة غداة وفاة الأميرة، لكنه لم يذكر أن وفاتها كانت سبباً لذلك.
أما قاسم أمين فقد تأثر بالأميرة نازلي فاضل وعقليتها وحضورها تأثراً كبيراً حتى إنها في نظر معظم المؤرخين الاجتماعيين تكاد تكون هي المسئولة الأولي عما اشتهر به هذا المفكر من آراء في شأن المرأة، ويري الأستاذ أبو القاسم كرو أن الأميرة نازلي هي التي غيرت رأي قاسم نحو المرأة وأن هذا قد حدث بعد أن نشر قاسم أمين مقالاته وكتابه الفرنسي الذي يرد فيه على دراكور، ذلك أنه كان ضد المرأة في كتابه كما كان في مقالاته الأولي.
كان داركور قاضياً فرنسياً يعمل بالمحاكم المختلطة، وكان قد ألف كتابا بعنوان «سر تأخر المصريين»، وكان هذا الكتاب من أهم الكتب التي تصدي لها صالون الأميرة نازلي، وقد استحثت نازلي قاسم أمين علي الرد عليه بالأسلوب العصري الذي اكتسبته في الغرب.. أي الأسلوب الذي يقوم على المنطق والحجج، لا العبارات الإنشائية المنبعثة من الانفعال العاطفي، ونشر قاسم أمين كتابه بالفعل على نفقة الأميرة نازلي (1894)، وكان اسم كتابه «المصريون»: الرد على الدوق داركور»، وقد تمت ترجمة الكتاب وطباعته ثلاث مرات، وفيه برهن قاسم أمين علي قدرة مصر على القيام من رقدتها، ونفض غار التخلف عنها.
ويعتقد الأستاذ أبو القاسم كرو أن نازلي عنفت قاسم أمين علي موقفه من المرأة في كتابه وفي مقالاته فعدل عن رأيه القديم على يديها، وهكذا فإن قاسم أمين يدين لنازلي فاضل بموقفه الجديد نحو المرأة.
ونأتي في هذا الإطار أيضا إلى علاقة نازلي بتونس وقصة زواجها الثاني في تونس.. كانت الأميرة نازلي فاضل تذهب إلي تونس لزيارة أختها الأميرة رقية، التي كانت قد تزوجت من طاهر بن عياد وهو أحد القادة التونسيين، وقد زارت نازلي تونس (1899) ونزلت ضيفة في قصر آل البكوش، وهناك تعرفت بالشيخ سالم بو حاجب، ثم التقت الأميرة نازلي بابنه خليل بو حاجب وسرعان ما تحول التعارف إلي حب ثم إلي زواج، وقد كان زوجها الثاني أصغر منها سنا، حيث كان حين تزوجته في الرابعة والعشرين من عمره ، وكان في ذلك الوقت يشغل منصب رئيس قسم التحقيق الجنائي، ثم ترقي حتي أصبح نائبا عموميا، وبعد وفاة الأميرة عين محافظا فوزيرا فرئيسا للوزراء في تونس (1931)، وقد استقرت الأميرة نازلي فاضل بعد هذا الزواج بقصر فخم في المرسى، وسرعان ما أصبح قصرها ناديا لدعاة الإصلاح وأنصاره من شيوخ وشباب الزيتونة، ومن خريجي المعهد الصادقي.
وفي تونس دعمت الأميرة نازلي فاضل كثيراً من مشاريع الإصلاح والنهضة التونسية مثل الجمعية الخلدونية الشهيرة ذات السمعة العالية كما دعمت عددا من الجمعيات الأخرى المشابهة، كما كان لها دور أساسي في حث النخبة التونسية علي فتح مدارس وطنية لتعليم البنات المسلمات، وكانت تساند جمعية الهلال الأحمر في مصر وتونس، ومن الجدير بالذكر أن جمعية الهلال الأحمر كانت قد تأسست في ذلك الوقت لمساعدة المجاهدين الليبيين في حربهم ضد غزو الإيطاليين لبلادهم (1911).
وكان هذا السلوك المنتمي للأمة الإسلامية بالطبع مما جعل الأوربيين يعرضون عن الاعتراف بدورها السياسي العظيم ويحولون الاهتمام عنه لينشغل المؤرخون بالنقاط الخلافية المجددة للاختلاف المؤذي لحركة المجتمعات الإسلامية ورغبتها في الحياة. وكان موقف الفرنسيين منها شبيها بموقفهم من الأمير عمر طوسون أفضل أمراء الأسرة العلوية.
وقد ظلت الأميرة نازلي فاضل تتنقل بين تونس ومصر حتى توفيت وهي على ذمة زوجها الثاني خليل بو حاجب.
كانت الأميرة نازلي فاضل تتقن لغات عديدة، وكانت لها حظوظ كثيرة من ثقافات عالمية، وكانت تجالس الرجال وتجادلهم بعمق في صالونها، وقد عرف من رواد هذا الصالون كثيرون: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وسعد زغلول، وفتحي زغلول، ومحمد بيرم، ومصطفي بيرم، وسليم سركيس، وفارس نمر، وعلي يوسف، وولي الدين يكن، ومحمد فريد، ومحمد المويلحي، وقليني فهمي، وأديب إسحاق.
وقد وصفها الإمام الأكبر الشيخ مصطفي عبد الرازق في مقاله عن المرأة في حياة الإمام محمد عبده بأنها «كانت ساحرة النظرات، عذبة الملامح، رشيقة القوام، ناصعة الجبين، ذات ثغر رقيق يفتر عن ابتسامة دائمة فيها معني الألم العميق، والسخرية بالألم، ومعني العزيمة الماضية، ومعني الرجاء لا يصل إليه اليأس».
وقد ظلت الأميرة نازلي فاضل تتمتع بجاذبية عالية، وقد جمعت كل عناصر الجاذبية الشخصية والعائلية والفكرية، وبالإضافة إلى زيجتيها المعروفتين فقد عرض عليها أن تتزوج أكثر من مرة لكنها رفضت، وكان من خطابها حسين فخري باشا الذي وصل إلى رياسة الوزارة، وبعض الأمراء.
وقد كان الفرنسيون يعجبون بنازلي كامرأة مثقفة، لكنهم كانوا بطبيعتهم السياسية المتحفزة يخشونها تماما لميولها العثمانية و لعلاقتها الوثيقة بالإنجليز، ولتشجيعها الدائم بالمال والرأي والجاه للمشاريع الوطنية، وحماسها المفرط لزرع الزعامات والروح الوطنية في مصر وتونس، لهذا كانوا يعادونها بطريقة ماكرة ومن المؤسف أن الساسة و المؤرخين المصريين الطيبين الذين اعتادوا على التأثر بالكتابات الفرنسية وقعوا في شرك الاقتناع التام بوجهة نظر الفرنسيين في الأميرة نازلي ونقلوا بثقة عما كتبه الفرنسيون عنها من تقارير سرية، وقد صنفوها فيها ضمن المتعاونين مع الألمان، كما كانوا يصورونها على أنها تتجسس للسلطان العثماني علي الخديو عباس الثاني، وأنها كانت تتجسس علي الخديو عباس لمصلحة الإنجليز، وفضلاً عن ذلك فإنهم كانوا يوظفون استمرار علاقتها بأعضاء جماعة «تركيا الفتاة» في إثارة سخط بعض أركان السلطنة العثمانية عليها.
وهكذا فإنه علي الرغم من الصورة المشرقة التي تظهر بها الأميرة نازلي فاضل في كتابات الكثيرين فإن بعض المذكرات التي كتبها ساسة يميلون إلى ما يسميه المصريون بالطيبة السياسية (كمذكرات الزعيم محمد فريد باشا ) تظهرها في صورة أميرة مدللة تحتقر المصريين، وتزدري شبابهم، وتركز هذه الكتابات علي استنكار ما كان لها من علاقات سياسية وطيدة برجال الاحتلال مثل كرومر، وكتشنر، بل إن الزعيم محمد فريد باشا يجاهر بأنها كانت مشتغلة بالدسائس، وهو قبل غيره الذي نشر الرأي (الفرنسي المنبع والصياغة ) الذي أشرنا إليه من أنها كانت تتجسس للسلطان عبد الحميد الثاني علي الخديو عباس حلمي الثاني ، وعلي الخديو عباس حلمي الثاني للإنجليز، وكان الزعيم محمد فريد يشير إلي أن لها حديثاً مشهوراً نشره جرفيل الأمريكي في كتاب عن مصر وصفت فيه الشبيبة المصريين أقبح وصف، وحديثاً آخر شبيها نُشر في جريدة الإيجبشيان جازيت (1909) ْ، وكان الزعيم محمد فريد باشا يشير كذلك إلي أنه هو نفسه كتب ضدها بإمضاء (صديق قديم) في جريدة العلم كتابات أهاجتها، فأرسلت له إحدى وصيفاتها نفيسة هانم تطلب منه الكف عن الكتابة ضدها، «وتنكر ما عزاه إليها الصحفي، فطلب منها أن تحرر له جواباً بذلك فأبت».
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من الجزيرة مباشر اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال اضغط هنا