الرئيسية / المكتبة الصحفية / هل كانت ثورة 1952 تعشق إهانة الكفاءات؟

هل كانت ثورة 1952 تعشق إهانة الكفاءات؟

كان عهد الرئيس جمال عبد الناصر قادرا على التنويع المتجدد في تشكيلة رجال الحكم في عصره والانتقال السلس فيما بينهم، وذلك بفضل عامل جوهري لا يمكن لأحد إنكاره وهو وفرة الكفاءات الفنية التي ورثها عصر الثورة من الحقبة الليبرالية السابقة عليه مباشرة، لكن هذه القدرة وممارساتها المتكررة كانت أقرب إلى التجريب والتقليب منها إلى الانتقاء والتوظيف، ومن ثم فإن الرئيس عبد الناصر نفسه لم يكن يدرك حجم العواقب السلبية لتفريطه المتكرر في نجوم شارك هو نفسه في صنعها وكانت مخلصة له تماما، وقد ترتب على هذا أنه فقد الجزء الأكبر مما يسمى في الدول الديموقراطية الغربية بروح الفريق الرئاسي أو الوزاري. وكما حدث هذا في كل المؤسسات السيادية وديوان الرياسة فقد حدث هذا بوضوح في وزارات القطاعات الفنية بلا استثناء.

وكانت النتيجة مستورة أحيانا، وربما غالبا، لكن الأمر وصل الى حدود كارثية (من الفشل) في أحيان أخرى، ومن أبرز هذه الحالات ما حدث من فشل الحماس في الحلول محل الخبرة عند وقوع قطاع الزراعة في أسوأ أزماته وهي أزمة دود القطن في الستينات التي كانت بمثابة فضيحة قومية ضج منها الرئيس جمال عبد الناصر واضطر لإقالة كل وزراء الزراعة أي الوزير المركزي والوزيرين التنفيذيين.. وكانت النتيجة الظاهرة أن فقد الرئيس جمال عبد الناصر حماس سيد مرعي الذي بدأ معه مسئولا عن اللجنة العليا للإصلاح الزراعي ثم وزيرا للدولة للإصلاح الزراعي ثم وزيرا للزراعة والإصلاح الزراعي معا فوزيرا مركزيا للزراعة، وبسبب أزمة دود القطن استبعد سيد مرعي تماما من قطاعه وبقي في منصب مريح له كعضو منتدب لبنك مصر ثم انتقل إلى منصب مريح آخر وكيلا لمجلس الأمة في 1964 فلما حدثت النكسة في 1967 أعاد الرئيس جمال عبد الناصر سيد مرعي وزيرا للزراعة دون أن يخبره! لكن سيد مرعي الذي أعاده الرئيس عبد الناصر لم يكن هو نفسه سيد مرعي الذي استبعده وإنما كان قد أصبح أقل شجاعة وأقل سلطة كما أنه في البداية أعاده للزراعة فقط بينما ظلت صلاحيات الإصلاح الزراعي واستصلاح الأراضي بعيدة عنه، يتولاها غيره إلى أن ضمها له الرئيس جمال عبد الناصر بعد شهور. فإذا انتقلنا إلى قطاع آخر هو الصناعة فإننا نجد تجربة سيد مرعي تكررت بحذافيرها مع الدكتور عزيز صدقي الذي أبعده نظام الرئيس عبد الناصر في 1964 إلى أن أذن الله للرئيس جمال عبد الناصر أيضا بإعادته إلى الصناعة (وحدها) في أكتوبر 1967.بعد شهور من النكسة. وقل مثل هذا في كثير بل في كل المسئوليات التي كانت تتحرك في عهد الرئيس جمال عبد الناصر من الشخص الأقدر إلى شخصيات أخرى أقل قدرة حتى إنك إذا نظرت إلى مشهد وزراء الرئيس جمال عبد الناصر ومسئوليه قبيل وفاته في سبتمبر 1970 وجدتهم في مجمل كفاياتهم أقل بنسبة تفوق الخمسين في المائة من مجمل وزرائه ومساعديه ومسئوليه قبلها بعشر سنوات مثلا أي في سبتمبر 1960.

وهنا فإنك لا تستطيع أن تدافع عن أي عذر يقدمه من يريد الدفاع عن الرئيس جمال عبد الناصر فقد نحّى شخصيات معاونة له وهي في قمة العطاء وهم في الأربعين من عمرهم فأصبحوا “معاشات” وهم في الأربعين. بل إن أكثر زملائه حسما وحزما وإنجازا وقسوة وغطرسة في أول الثورة وهو جمال سالم كان قد نُحي قبل أن يبلغ الأربعين، فقد نُحي وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، وظل بلا أي عمل، ولا حتى في ديوان المظالم.

ومن العجيب أنه في مقابل هذا فقد كان الوزراء الذين عملوا مع العسكر في بداية عهد عبد الثورة يتألقون في هدوء مستمر في المنظمات الدولية التي كانت في ذلك الوقت تُعطيهم مكانة متقدمة ندر أن تُتاح لدولة واحدة، وذلك لسبب واحد وهو أن هؤلاء كانوا ينتمون لأفضل أجيال مصر حظا من مقومات التعليم والتكوين والتأهيل والخبرة. وفي ذلك العهد فقد كان لمصر في المنظمات الدولية: عبد الجليل العمري وعلي الجريتلي وعبد الرزاق صدقي وعباس عمار وإبراهيم حلمي عبد الرحمن فضلا عمن كانوا موجودين من قبل: عبد الحميد بدوي باشا وعلي توفيق شوشة وكذلك كان من نجوم مصر البارزين في المناصب والجامعات العربية: الأساتذة والدكاترة أحمد زكي وعبد الرزاق السنهوري وعبد الوهاب عزام وعبد الفتاح إسماعيل.

يمكن لبعض المحللين أن يعزوا السبب في تفريط الرئيس جمال عبد الناصر في الكفاءات التي عملت معه إلى غلبة طبيعة (ولا نقول: مرض ) الشك عليه، لكني من خلال حصيلة تأمل متصل لا أرى أن هذه الطبيعة كانت هي السبب الجوهري بقدر ما أرى أن السبب كان نوعا من ردود الفعل العصبية التي تنتاب الرئيس الذي تدهمه الأحداث يوما بعد يوم من دون أن ينتبه للتفكير فيها بالقدر الكافي، بعبارة بسيطة فإن الأحداث التي صنعها هو ضغطته هو نفسه في تفصيلاتها حتى لم يعد قادرا على أن يفكر ولا أن يتأمل، ولا أن يبادر بالتأمل والتفكير، ولا أن يعاود النظر أو التذكر.
وفضلا عن هذا فإنك تستطيع أن تجد الرئيس جمال عبد الناصر يفرط دون أي داع للتفريط في شخصيات لم يكن له أن يفرط فيها مهما كان الأمر، صحيح أنه لم يكن يفرط فيها نهائيا لكنه فرط فيها في التوقيت والمكان الذي كان يحتاجها ووضعها في المكان الذي هو أقل أهمية بكثير بالنسبة له ولنظامه ومشكلاته وإنجازاته.

– من الذي يقر الرئيس جمال عبد الناصر مثلا على أن يفرط في محمد حافظ إسماعيل الذي كان يدير مكتب القائد العام عبد الحكيم عامر (مكملا لعبد الحكيم عامر) فاذا به يبعده ليوسع من مسئوليات ونفوذ ومكانة شمس بدران؟ بينما يترضى محمد حافظ إسماعيل بمنصب وكيل وزارة الخارجية وقد كان من الأفضل أن يجعله هو نفسه وزيرا للخارجية.

– من الذي يقر الرئيس جمال عبد الناصر على التفريط في الفريق مدكور أبو العز بوضعه في منصب المحافظ؟

– من الذي يقر الرئيس جمال عبد الناصر على التفريط مرة بعد أخرى في الفريق عبد المنعم رياض في مناصب استشارية كان يمكن له أن يؤديها بالتوازي مع وجوده في الجيش المصري.

– من الذي يقر الرئيس جمال عبد الناصر على التفريط في وزراء ناجحين ذوي ولاء مطلق له ليلبي بالتفريط فيهم حسابات سياسية ودعائية، فيخسر وزراء من طبقة أحمد حسن الباقوري، وفتحي رضوان، وحسن مرعي، وحسن بغدادي، ومحمد عوض محمد، وعباس عمار ووليم سليم حنا، وأحمد نجيب هاشم، ومحمد البهي، وأحمد محرم، وحسين سعيد، وأحمد عبده الشرباصي، ومحمد حمي مراد..الخ، على النحو الذي خسرهم به تباعا.  

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com